عقب نشر مقال العدد الماضي تلقيت العديد من ردود الفعل المتباينة، ما بين مؤيد للتحذير من دور السوشيال ميديا فى تقسيم الدول وفق نموذج البلقنة وتخوفات الدول الكبرى من ذلك؛ وهو ما جعل مراكز الأبحاث لديها ودوائر صُنع القرار تسعى لمواجهة سيل الأكاذيب الجارف عبر تلك المنصات.
وآخر يتحدث عما تقدمه السوشيال ميديا من مميزات جعلت التواصل أكثر سهولة، وهو ما لم أنكره على مواقع التواصل الاجتماعي فى المقال السابق، لكني كنت أدق ناقوس الخطر من سيل الأكاذيب وحملات التشكيك الممنهجة المستهدفة للدول خاصة منطقتنا العربية.
هذه الحالة بين التأييد لوجهة النظر التي دللنا عليها الأسبوع الماضي، ووجهة النظر الأخرى التي تؤكد إيجابية تلك الوسائل نتوقّف عندها بعض الشيء.
لأن ما يحدث على صفحات السوشيال ليس مجرد تغريدات قصيرة على Twitter أوPost على facebook، أو صورة أو قصة مصوّرة على موقع الصور Instagram إنما هو مسرح عمليات تزداد مساحته يومًا بعد يوم بزيادة عدد المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي.
فالحرب التي تدور رحاها ويشارك فيها أكثر من 40% من سكان المعمورة، سواء بقصد (عناصر الكتائب الإلكترونية التابعة للدول، وأجهزة الاستخبارات، والتنظيمات الإرهابية، وغيرها) أو بغير قصد من المستخدمين غير المدققين لما يتم تصفحه ويشاركون التغريدات دون قراءة متأنية لها، أو تدقيق لما جاء فيها.
حرب الغلبة فيها تكون لمن لديه استراتيجية دقيقة ويمتلك سيناريوهات بديلة للدفع بها حال حدوث متغير على أرض الواقع، لأن استهداف السلوك البشري والتأثير عليه لابد أن يمتلك صاحبه العديد من الخطط البديلة.
(1)
لا تزال السوشيال ميديا تتلاعب بمشاعر الناس وتفرض هندسة اجتماعية جديدة، تجعلهم طوعًا لقرارات تملى عليهم.
حالة من التحرك فى الاتجاه المرسوم بدقة لخلق وعي شعبي يصب فى مصلحة صناع الفوضى ومروجي الشائعات، ولأن الحرب لا تزال معاركها غير منتهية ومسرح عملياتها بات أكثر رحابة؛ جعل التحرك عليه نتائجه أكثر تدميرًا.
فقد تحوّلت السوشيال ميديا إلى أكبر ميدان لنشر الشائعات المعلّبة والمصنوعة باحترافية شديدة (إن انتشار الشائعة يساوي أهمية الموضوع المتصل بها، مضروب فى مدى الغموض حوله؛ فإمكانية الشائعة يساوي موضوعًا مهمًا أو أشخاصًا مهمين – بحسب عالمي النفس ألبورت وبرستمان)؛ فأكثر الشائعات تعتمد على مزيج غير منتظم من المعلومات، بعضها صحيح يجري حقنه فى كمية من الأخبار الزائفة أو المحرّفة، بشكل يصعب التحقق من صحته.
وحتى نكون أكثر واقعية دعونا نقدم نماذج توضح كيف أن السوشيال ميديا استطاعت خلال الـ 15 عامًا الأخيرة أن تصنع سلوكيات وتفرض هندسة اجتماعية داخل المجتمعات، لتحرك بها مشاعرهم وردود أفعالهم، وفق منهجية اعتمدت على عدم وجود العنصر المضاد (الوعي) مما يسهل عمل القائمين عليها.
الأمر الذي أثّر فى المنطقة العربية بشكل كبير خلال العقد الأخير.
وما حدث فى الأزمة الروسية الأوكرانية والتأثير على انتخابات عدد من الدول الغربية.
فخلال الأسبوع الماضي شاهدت واقعتين الأولى كانت من نصيب مدرب الأهلي السابق (ريكاردو سواريش) والذي قام أحد مستخدمي السوشيال ميديا، من مغذيّ التعصب الكروي، بنشر بوست له تم تحريفه من خلال الفوتوشوب، ليطلق مجموعة من التصريحات على لسان المدرب السابق مستغلاً صورة نشرها أحد المواقع الرياضية لسواريش، فقام بإضافة مقطع مكذوب تاركًا لوجو الموقع على الصورة لإضفاء مصداقية مزيّفة عليها.
وعندما قام أحد المستخدمين بنفي صحة ما جاء، مؤكدًا أن الموقع الرياضي وسواريش لم تصدر عنهما تلك التصريحات ومفندًا لعملية التزييف؛ كانت تعليقات المستخدمين تؤكد أنهم لم يكلفوا أنفسهم بقراءة التفاصيل، فبدأوا بكيل الاتهامات والسُّباب للمدرب السابق بل للنادي المنافس.
وبلغ عدد التعليقات أكثر من 1500 تعليق خلال 3 ساعات، ورغم أن ناشر البوست التوضيحي قام بالرد على التعليقات الأولى مؤكدًا لهم أن البوست المنشور مزيف لكن لا حياة لمن تنادي.
فقد صنعت صورة ذهنية وعُلِبت الأفكار ولم يكلف أي منهم نفسه أن يقرأ التفاصيل.
وخلال الأسبوع الماضي أيضًا كانت صورة زعم ناشرها أنها لطفل يتيم الأب، مرشحة لتكون صورة العام فى مجلة الديلي ميل البريطانية وهو يؤدي واجباته على ضوء مصباح عمود الشارع لأن بيته لا يوجد به كهرباء منذ خمس سنوات بعد سحب العداد لعدم دفع الفواتير بعد موت والده.
ثم ختمها بجملة تحرّك المشاعر «بارك الله فيك يا ولدي»، وما إن نشر البوست المزيف حتى تناقلته مجموعات الفيس بوك، مدعية أنه طفل فى قرية مصرية وأصبح ذلك الطفل ينتمي لكل محافظات الريف المصري.
فتارة تجده فى جروبات محافظة الشرقية يتحدثون عن أنه من قاطني إحدى قرى المحافظة، وفجأة تجده فى جروبات محافظة دمياط على أنه طفل من الدقهلية، ثم لا تلبث أن تجده فى جروبات قرى محافظة الدقهلية على أنه طفل من قرى صعيد مصر، ورابع وخامس لتجد الصورة التي انتشرت على الفيس بوك انتشار النار فى الهشيم، تحمل معها سيلاً من التعليقات ما بين من يدعون للطفل بمزيد من التفوق وآخرين يعتبرونه نموذجًا لأبناء الريف الذين يواجهون الصعاب، وصنف ثالث يصب اللعنات على شركة الكهرباء والحكومة، وما بين الثلاثة أصناف لم يكلف أحد منهم نفسه بالبحث عن أصل الصورة التي هي فى الواقع صورة تأتي ضمن الدعاية لإحدى شركات الكهرباء فى الهند.
هذا المشهد المتكرر على صفحات السوشيال ميديا، يجعلنا نؤكد أن سيل المعلومات الزائفة و الشائعات المنتشرة على مواقع التواصل لم يأتِ من فراغ؛ لكنه جاء بعد أن تم تهيئة المزاج العام لاستقباله والتفاعل معه دون أن نمنح أنفسنا لحظة واحدة للتأكد من صحة المعلومات.
(2)
وقد تعرضت الدولة المصرية لحرب شائعات ممنهجة منذ عام 2011 وحتى الآن، استهدفت التأثير على مشاعر المواطنين.. لكن وعي المواطن كان حائط الصد الأول لمواجهة تلك الحملة، وكان الحوار ونشر المعلومات أيضًا إحدى أدوات المواجهة، لكن دعونا أيضًا نؤكد أن محاولات مروجي الشائعات لا تتوقف وإن باءت بالفشل فى بعض المراحل فنجدها تعود مرة أخرى، وبشكل مختلف فقد تكون الشائعات إيجابية وهنا قد تستغرب متسائلاً، هل قوى الشر تطلق شائعات إيجابية؟! أقول لك.. نعم، وهذا أحد سيناريوهات العمل النفسي، فعندما يتم إطلاق الشائعات الإيجابية تكون هناك عدة أهداف منها استغلال مؤيدي النظام فى الترويج لها.
ثانيًا: خلق حالة مجتمعية من الطموح غير الدقيق.
ثالثًا: التأثير على الثقة بين المواطن والنظام.
ليتم الانقضاض على تلك الشائعة الإيجابية فى توقيت محدد (بعد أن تكون قد حققت انتشارًا كبيرًا فى المجتمع وتم تناقلها حتى أصبحت تشبه الحقيقة) وهنا يتم مواجهتها من قبل قوى الشر بالتشكيك فى صحتها.
وتحقق قوى الشر فى تلك الواقعة على عدة نجاحات أولها هدم الثقة بين المواطن والنظام.
ثانيًا: خلق حالة من الإحباط وجذب عناصر جديدة مستعدة للدخول ضمن مروجي الشائعات السلبية.
ثالثًا: التشكيك فى أي معلومات يتم نشرها من قبل مؤيدي النظام.
وخلال السنوات العشر الأخيرة استهدفت قوى الشر الشعب المصري للتأثير عليه، وعلى علاقته بمؤسسات الدولة لإحداث الفوضى، وكانت السوشيال ميديا هي الأرض الخصبة التي نبتت فيها الشائعات ونقلتها عنها بعض وسائل الإعلام.
ومع تحرك الدولة باتجاه عملية البناء وإعادة تثبيت أركان الدولة، بدأت حملات التشكيك الممنهجة فى قدرتها على العودة من جديد، أو التقليل من قيمة ما تقوم به من مشروعات.
بدءًا من مشروع قناة السويس الجديدة والتي استهدفتها شائعات الإرهابية بداية من انهيار جسورها، ومرورًا بطشت الست أم وجدي وحتى تشكيك المواطنين فى قدرة الدولة على سداد قيمة الشهادات التي كانت الأعلى عائدًا فى ذلك الوقت.
لتُفتح القناة الجديدة للملاحة بعد 12 شهرًا من بدء العمل بها، وتؤكد للعالم قدرة الشعب المصري وحكمة القيادة السياسية.
ويسترد المصريون كامل قيمة الشهادات فى التوقيت المحدد لهم وترتفع عائدات قناة السويس بأكثر من 40% (بلغت عائدات القناة 5 مليارات دولار عام 2013/ 2014 وبلغت حاليًا 7 مليارات دولار).
ثم التشكيك فى أهمية المشروعات، والأوضاع الاقتصادية، وهو ما فنّده مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن دائمًا ما نجد الكثير يعزف عن رؤية الحقيقة باحثًا عن الشائعات ليس بسبب غياب الحقيقة لكنه بات أسيرًا للإثارة التي توفرها له الشائعات.
وهنا يحضرني ما حدث فى 1 يوليو 2015 بسيناء، عندما تم استهداف أكثر من 25 كمينًا للقوات المسلحة بشمال ووسط سيناء فى توقيت متزامن، وبدأت الشائعات التي صنعتها قوى الإرهاب وتناقلتها بعض وسائل الإعلام ولا يلتفت البعض إلى البيانات الثلاثة التي أصدرها المتحدث العسكرى، مؤكدًا أن هناك مواجهة مع العناصر التكفيرية على الأرض، ولا تزال العمليات مستمرة، وسقط الغالبية فى الفخ بترويج الشائعات والتأثير على الروح المعنوية للمواطنين، حتى جاء بيات المتحدث العسكري فى الساعة السادسة مساء اليوم كاشفًا لتفاصيل ما حدث من مواجهات وعدد القتلى من العناصر الإرهابية وصورهم، ليكشف حجم المأزق الذي وقع فيه الكثيرون بأنهم نشروا شائعات كانت تطلقها قوى الشر مستهدفة الروح المعنوية للمواطنين.
إننا على أعتاب مرحلة مهمة فى تاريخ الدولة المصرية تحتاج منا جميعًا إدراك خطورة المشاركة فى سيل المعلومات الزائفة.
الجامعة العربية وتمزيق الدول
يبدو أن الجامعة العربية لا تدرك خطورة ما يحدث، ففي الوقت الذي واجهت فيه المنطقة العربية أكبر عملية تمزيق لأوصالها، وكان الحفاظ على الدولة الوطنية هو الحل الوحيد، خرجت الجامعة العربية بقرارين ساهما بشكل كبير فى هدم دولتين عربيتين (سوريا وليبيا) فالأولى تم تعليق عضويتها فى بيت العرب حتى الآن والثانية تم السماح لقوات الناتو بقصفها وتحويلها إلى أكبر منطقة تجميع للعناصر الإرهابية.
وخلال السنوات القليلة الماضية وبعد انتخاب البرلمان الليبي والسير باتجاه المسار الديمقراطي واعتراف الجامعة بالبرلمان الليبي وقراراته، إلا أن الجامعة مؤخرًا لم تعترف بوزير خارجية الحكومة الشرعية (حكومة فتحي باشاغا) وتركت وزيرة الخارجية فى الحكومة المنتهية ولايتها (حكومة الدبيبة) تترأس اجتماع وزراء الخارجية العرب رقم 158.