الدين كله لله (2)

الدين كله لله (2)د. سعد الدين هلالي

الرأى17-3-2024 | 15:48

بهذا التكريم الآدمى العام يفرض الإسلام نفسه دينًا للبشرية باستيعاب الاختلافات الدينيّة والفقهية، وليس بالوصاية عليها، واحتكامه للفطرة الإنسانية البريئة التي هي دين الأديان؛ كما قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (الروم: 30).

ومن ثم، فلا يسع أحد يجد نفسه فى هذا الدّين إلّا تصديق قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً» (المائدة: 3)، فكماله - مع كتابه الهادى للتى هى أقوم - بكل مكلّف صاحب قلب سليم وذمّة بريئة، وليس كماله بنخب الفقهاء أو بعضهم دون سائر المكلّفين؛ لأن الدّين لله، وشعائره توقيفية عن الرّسول الأكرم فى سيرته العطرة التى هى سنّته المتوارثة، وفقه الدّين للجميع وليس حكرًا على وليّ أو فقيه؛ فما على من يتأسّى بالرّسل الكرام من علماء الدّين إلّا البلاغ الأمين لكلام رب العالمين الثابت بالتواتر والمتعدد الدلالات التي لا تنفد، والإخبار الصادق بالمرويّات الحديثيّة النبويّة، وتاريخ تدوينها بجهود فرديّة مشكورة، وطرق ثبوت أكثرها آحادًا بغير تواتر، واختلاف المحدّثين فى كثير منها، وبيان ما وصل إليه السابقون من أوجه دلالات الكتب السماوية ، والمرويات الحديثيّة؛ ليبنى عليها اللاحقون تجديدهم اللائق بزمان كل أحد ومكانه ووضعه الخاص به عن بصيرة، وهى البيّنة والاستنارة بكل معلومة سابقة عن اجتهاده أو اختياره؛ كما قال تعالى: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي» (يوسف: 108).

هذا هو طريق بناء الإنسان، وشخصيّته المستقلة والمتطورة بتفاعله مع أحداثه وأقداره؛ بامتلاك زمام نفسه، وولاية الإفتاء لها، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد عن وابصة بن معبد، وعن أبي ثعلبة الخشني، فقال لكل منهما، فى مناسبتين مختلفتين: «استفت نفسك، استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك. أو وإن أفتاك المفتون». ولذلك قال أبو إسحاق الشاطبي ت790هـ فى «الموافقات»: «كلُّ أحد فقيه نفسه».

وهذا من أوجه كمال دين الإسلام الخاتم الذي يستوعب البشر جميعًا أسيادًا، فكلّ مكلّف منهم له حق الإسلام لله بالوجه الأليق عنده والأنسب لوضعه وحاله؛ كما قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا» (البقرة: 286)، وقال سبحانه: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا» (الطلاق: 7)، ولذلك وصف الله كتابه الكريم بأنه: «هُدًى لِلنَّاسِ» (البقرة: 185)، وأنه: «يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (الإسراء: 9)، وأمر كلَّ مكلّف باتباع ما يراه الأحسن والأليق فيما يفهمه منه، فقال سبحانه: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (الزمر: 55)؛ ليكون بجوامع كلمه مستوعبًا لاختلاف الفهوم وتعارض المصالح، وهذا ما كان عليه التعايش الوطني أو الشعبي فى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه قد وصف المؤمنين فى عصره بأنهم أصحابه، وليسوا عوامه أو مريديه، لإظهار وتخليد معنى سيادة الإنسان على نفسه، وأن الإيمان ب الإسلام الخاتم يدعم صاحبه فى نفسه وعقله وقلبه، ولا ينتقص من كينونته شيئًا؛ حتى وإن استحسن ابتكارًا فقهيًا من أهل الأديان السابقة، كما قال تعالى لرسوله الخاتم عن الرسل والأنبياء السابقين، عليهم جميعًا الصلاة والسلام: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ» (الأنعام: 90)، ويؤكّد ذلك ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عباس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمر فيه بشيء».

وبهذه الرؤية العادلة التي تجعل لكل أحد من الناس البالغين العاقلين مثل ما للآخر فى دين الله - فقهًا واعتقادًا وامتثالًا دون وصاية أحدهم على صاحبه - عاش الصحابة الأخيار فى تلك البيئة السَّمحة الحاضة فى مجتمع المدينة المنورة الذى جمع المسلمين واليهود والنصارى والمشركين فى شعب واحد، بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، كلُّ أحد بدينه وفقهه، تجمعهم المصالح المشتركة، ولا تُفَرِّقُهم التعددية الدينية أو الفقهية، والمغالبة للحق الموضوعى حيث كان، وليست المغالبة لأهل دين أو فقه دين على آخرين مختلفين عنهم؛ فالدِّين لله، والمعاملة بتراضي أصحابها متساوي السيادة؛ كما ورد ذلك فى كتاب الله وسُنَّة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم، فالكتاب كتاب هدى متعدد الدلالة، وليس كتاب دستور أو قانون أحادى الدلالة، والسُنَّة هى السيرة العطرة المتوارثة غير المكتوبة، من شعائر تّعَبُّديَّة ومكارم أخلاقيَّة على أكمل ما عليها الفطرة السَّويَّة، بما يوجب على قارئ المدوَّنات الحديثية المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - والتي كُتِبَت بعد موته بعشرات السنين، على عُهدة الرُّواة والمدوِّنين دون مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم لها - أن يوزنها بتلك الفطرة، ولا يَعُدُّها فى ذاتها سُنَّة النبى صلى الله عليه وسلم إلّا أن تليق بمقام الرسول صلى الله عليه وسلم كمالًا للفطرة، ورحمةً للبشرية؛ كما أخرج أحمد وابن ماجه عن على بن أبى طالب، وعن عبد الله بن مسعود، كلاهما قال: «إذا حدَّثتُكم - وفى رواية: إذا حُدِّثتُم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فظُنُّوا به الذى هو أهيأ، والذى هو أهدى، والذى هو أتقى»، وفى رواية: «إذا حدَّثتُكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فظُنُّوا برسول الله صلى الله عليه وسلم أهيأه، وأهداه، وأتقاه».. وأخرج مسلم عن سَمُرَة بن جُندَب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن حَدَّث عني بحديث يُرَى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين»، وحسبنا قول الله سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107).

غاب هذا الوعى للإسلام الجامع للإنسانية فى صورة شعوب وقبائل بشرية تسعى للتعارف فيما بينها، بعد ابتلاء المسلمين بمن يحتكر عليهم دينهم؛ لفرض وصايته على عقولهم، ومن يسلبهم حق الاستقلال والسيادة على أنفسهم؛ لفرض استقلاله وسيادته على قلوبهم، ومن يحجر عليهم – معنويًا - أن يجتهدوا فيه؛ لفرض اجتهاده عليهم؛ فارتدّوا إلى جاهلية «سدنة الدّين»، وابتدعوا وظيفة «ولاية الفقيه»، ومهنة «حماة الدّين وحراس العقيدة»، وحرفة «أنصار الشريعة»؛ لحشد الأتباع، وتجنيد المريدين، واستعبادهم بشعارات شيطانية. منها مجهولة المصدر مثل: «من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه» التي يتداولها دراويش الصوفية، ومثل: «ارمها فى رقبة عالم لتخرج منها سالمًا» التي يتداولها عوام المُتديِّنين. ومنها معلومة المصدر مثل: «كن فى يد شيخك كالميّت فى يد غاسله، أو كالجلد فى يد الدّباغ يصنع منه أديمًا» التى كتبها إسماعيل حقي الاستانبولي الخلوتي ت1127هـ الموافق 1715م فى تفسيره «روح البيان».

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء (2)

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2