أكَّد فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، أنَّ أمتنا التي أنارت العالم كله بعد أن أطبقت عليه الظلمات من كل جانب، وصححت بقرآنِها الكريم ورسولِها العظيم مسارَ البشرية، ووضعت الإنسانيَّةَ من جديد على المَحَجَّــةِ البيضاء التي ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالكٌ - تعاني الآن من أعراض تشبه أعراض الأمراض المتوطنة، لا تكاد تعالج منها عرضا حتى تعيا بعلاج مائة عرض وعرض.
جاء ذلك، خلال لقاء جماهيري نظمته جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية بجاكرتا، لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، اليوم الثلاثاء، بمناسبة زيارته لـ إندونيسيا.
وقال شيخ الأزهر -خلال هذا الحفل الجماهيري التي جاءت بعنوان «وحدة الأمة في مواجهة التحديات» - إن المتأمل في عظمة الحضارة الإسلامية وقوتها التي تأسست على العدل والإنصاف، يعجب كثيرًا وهو ينظر إلى ما آلت إليه الآن، وهي وإن لم تكن قد آلت إلى زوال أو إلى فَنَاء، فإنها باليقين قد آلت إلى شيء من الضعف والانزواء لا تكاد تخطئه عيون أبنائها قبل عيون الآخرين.
وأضاف أنَّ من مُدهشاتِ هذه الحضارة أنها -حتى وهي تعاني من الهُزالِ- تبعث الأمل الذي لا حدود له في إعادة التعافي والإحياء والتجديد.. مشيرًا إلى أنها تشبه الجمرة المتقدة التي لا تنطفئ رغم ما يتراكم عليها من طبقات الرماد الكثيف بين الحين والحين في تاريخها المشرق الطويل، والناس لا يعلمون -حتى هذه اللحظة- حضارة بقيت وثبتت على وجه الزمان أربعة عشر قرنا رغم الضربات القاتلة التي وجهت وتوجه إليها - غير حضارة الإسلام والمسلمين.
وتابع أنَّ هذه الحضارة ذات التاريخ المجيد تبدلت بها أقدارها اليوم؛ فصارت تأخذ من الغرب فلسفتها وثقافتها ومناهجها في التربية والتعليم والاجتماع والاقتصاد، وكأن أهلها أمة همجية قادمة من مقابر التاريخ، لم يكن لهم -من قبل- عهد بعلم، ولا أدب، ولا فلسفة، ولا تشريع، ولا تاريخ، ولا فنون، وكأنهم لم يُعلموا الإنسانية كلها، ولم تُظَلِّلها بحضارة راقية في الشرق والغرب قرونا طويلة.
وأكد أن داء هذه الأمة هو: الفِرْقَة والاختلاف والتنازع الداخلي، وهو داء خبيث، طالمَا شكل نقطة الضعف التي نفذ منها المستعمرون لبلاد المسلمين في القرنين الماضيين، وهو هو الداء الخبيث الذي يتسلل منه الاستعمار الغربي من جديد في القرن الواحد والعشرين.
ونبَّه شيخ الأزهر إلى أنَّ مقولة «فرق تسد»، والتي حفظناها صغارًا يعاد توظيفها الآن تحت لافتات صراع الحضارات، والفوضى الخلاقة، والعولمة، ونهاية التاريخ، وغيرها من اللافتات التي ترفع هنا وهناك في بلاد المسلمين ليُقتَلُوا تحتها، أو لِيُقاتِلَ بعضهم بعضا نيابة عن المستعمر الجديد.موضحًا أن هذا يحدث والقرآن الكريم الذي نردده صباح مساء، ونتسابق في تحفيظه للأطفال، ونتباهى بقدرة أطفالنا على حفظه واستظهاره، هذا القرآن الكريم يحذر المسلمين ويقرع سمعهم ليل نهار بقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].
وطرح فضيلة الإمام الأكبر سؤالًا قال إنَّه يفرض نفسه على كل باحث مهموم بهذا الأمر، هو: كيف يَتسالَمُ المسلمون فيما بينهم؟ وقال إن هذا السؤال المؤلم تطرحه الساحة الآن بصورة قاتمة، بل شديدة القتامة.. ويكفي أن نشير فقط إلى أن خطاب الدعوة والدعاة، والذي يناط به جمع الشمل، أصبح في أحيان كثيرة - هو المسؤول الأول عن فرقة المسلمين وتمزقهم، وبحيث أصبح بأس شباب المسلمين بينهم شديدًا، كم من مذهب في ساحة الدعوة الآن يقف من وراء تباغض شباب المسلمين وتنابذهم وتدابرهم؟ وأين ذهبت قضايا الأمة المصيرية من اهتمامات هؤلاء الدعاة الشباب وهؤلاء الداعيات الشابات؟ ألا تستحق هذه القضايا الكبرى حلقة واحدة من حلقاتهم التي تكاد تحرم الحلال وتحلل الحرام؟
وتساءل شيخ الأزهر: هل يعلم شبابنا عن القدس وعن المسجد الأقصى وما يعانيه، مثلما يعلم من خلافيات الأشعرية والسلفية والصوفية؟ وهل يشغل ذهنه البحث في واقع أمته مثلما يشغله البحث في قضايا خلافية تافهة ولى زمانها؟ وهل يقبل على مقرراته العلمية الجامعية بمثل ما يقبل به على كتب أو كتيبات لهذا الداعية أو ذاك؟ بل كيف أعرض شبابنا عن فرض محتم لازم؛ هو وحدة المسلمين، وتفرغ لفقه يختلط فيه المندوب بالواجب والمكروه بالمحرم؟
وأشار شيخ الأزهر إلى أن الفروق قد تلاشت أو كادت تتلاشى، بين الأحكام الشرعية الخمسة، وانشغلت الأسرة في المجتمع الإسلامي بقضايا جزئية لا إلزام في فعلها، وأهملت كليا قضايا محورية ذات خطر عظيم في شريعة الإسلام، مثل بر الوالدين والإحسان إلى الجار، وقيمة العمل وقيمة الوقت والنظافة والرحمة بالناس وغير ذلك من الفروض الأخلاقية والاجتماعية التي تراجعت تمامًا إلى الآخر في ترتيب الواجبات الشرعية في هذا الفقه الغريب.
وقال إن أمرا آخر يدفع الأمة إلى هذا الاتجاه البائس؛ ذلكم هو محاولة العبث الواضح بفقه الأئمة الأربعة، وفرض فقه جديد يوجب على الناس ما لا يجب، ولا يعقل أن يجب، مثل: التنفل قبل صلاة المغرب، أو زكاة الفطر بنوع واحد من الحبوب لا يجزئ غيره، وهو أمر لم تعرفه جماهير الأمة ولم تعتده مساجدهم من قبل، ولم يجر عليه العمل كما يقول فقهاؤنا المعتمدون.
ولفت فضيلته إلى أنَّ مما يجب أن نتوقف أمامه طويلًا ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي والإتيان عليه من قواعده، لو تركت دون مواجهة بفقه صحيح وعلم خالص صريح، تلكم هي الجرأة على التكفير والتفسيق والتبديع، وما يسوغه هذا العبث من استباحة النفوس والأعراض والأموال. وكيف يستقيم انتشار مثل هذه الأفكار في أمة أجمع علماؤها وأئمتها من المدارس الثلاث على المقولة الذهبية، التي حفظناها في أروقة الأزهر ونحن طلاب صغار؛ مثل: لَا نُكفِّرُ أحدًا من أهلِ القبلةِ، وَنُصلِّي خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجرٍ، وَلا يُخرِجُ مِن الإسلامِ إلَّا جحدُ ما أَدخَله فيه، وغيرها من القواعد التي حفظت للأمة تماسكها ووحدتها عبر التاريخ، وانطلقت في معتقداتها هذه من قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته».
وفي ختام كلمته، دعا فضيلة الإمام الأكبر أبناء الأمة إلى الجد والعمل وأكَّد أنَّ الوقت الآن وقت جَدّ وعمل، وليس وقت خطب ومواعظ، والأمم من حولنا تعمل في صمت مريب، وفي تدبير ومكر شديدين، وقد مللنا من الكلام الذي لا يثمر عملا على أرض الواقع. وأذكركم بالمقولة الذهبية لإمام دار الهجرة وإمامنا الإمام مالك -رضي اللَّه عنه وأرضاهُ- حين قال: أَكرَهُ الكلامَ فيمَا ليسَ تحتَه عملٌ.