مجلة أكتوبر .. تاريخ من الوعي والمعرفة

مجلة أكتوبر .. تاريخ من الوعي والمعرفةدكتور صابر عرب

الرأى22-9-2024 | 20:21

من الصعب الكتابة عن مجلة أكتوبر بعيدًا عن السياق التاريخي، فقد ظهر العدد الأول منها في 31 أكتوبر 1976 ، حينما كانت مصر تحتفي بمرور ثلاث سنوات علي انتصارها في حرب أكتوبر ١٩٧٣، عبر فيها الجيش المصري قناة السويس وألحق بإسرائيل هزيمة هزت أركان الدولة اليهودية ، وكانت مثار اهتمام العالم كله، بينما راحت الولايات المتحدة الأمريكية تلقي بكل ثقلها نحو الدخول في مفاوضات لإنهاء هذا الصراع، وكان المرحوم الرئيس أنور السادات يميل إلي حسم هذا الصراع بالطرق السلميّة، فقد أرهقت الحروب اقتصاد مصر وتأثرت برامج التنمية، فقد كانت كل الإمكانات الاقتصادية والبشرية توجه لدعم هذا الصراع، وهو ما أرهق الاقتصاد المصري وأثّر بشكل ملحوظ علي كل مناحي الحياة المصرية، وقد راح الرئيس السادات يلقي بأحاديث كثيرة عبر كل وسائل الإعلام المصرية والأجنبية متحدثا إلي المصريين والعرب والعالم، فخورًا بما حققته القوات المسلحة المصرية في تلك الحرب التاريخية.

بظهور العدد 2500 من مجلة أكتوبر، يكون قد مضي علي أول صدور لها 48 عامًا، واكبت المجلة أحداثا هائلة منذ نهايات عصر الرئيس السادات ومبادرة السلام التي فاجأ بها العالم وشجاعته الفائقة حينما فاجأ العالم بسفره إلي القدس وإلقاء خطبته التاريخية في الكنيست الإسرائيلي ، ومخاطبة الإسرائيليين في عقر دارهم، بعدها أصبحت مصر والرئيس السادات محط أنظار العالم كله، لدرجة أننا لا نجد صحيفة أجنبية أو عربية خلال تلك الفترة إلا وكان السادات ومبادرته وما طرحه علي العالم لحل هذا الصراع هو الموضوع الأهم، وكانت مجلة أكتوبر في ظل كل هذه الأحداث بمثابة الإصدار الأكثر انتشارًا والمعبر عن سياسة الرجل الذي أثار إعجاب العالم، بينما أثار غضب البعض الآخر، وأنا واحد من هذا الجيل الذي صدمته هذه المبادرة، ورحت والكثيرون من زملائي وأصدقائي نواصل نقدنا لهذه الخطوة معتقدين بأن نتائجها سوف تكون خطيرة، ليس علي القضية الفلسطينية فقط وإنما علي مصر التي كُتب عليها أن تتصدر النضال في سبيل تحرير الأرض العربية، بما فيها فلسطين التاريخية، وكان حلمًا بعيد المنال، أدركه الرئيس السادات منذ اللحظة التي توقفت فيها حرب أكتوبر، وإعلانه صراحة حينما خاطب شعبه قائلا في خطبته الشهيرة في أعقاب حرب أكتوبر في مجلس الشعب: (لسنا علي استعداد لمحاربة أمريكا).

كان المشهد السياسي مضطربًا وقد راهن الرئيس السادات علي الولايات المتحدة الأمريكية معلنًا صراحة بأن 99 % من أوراق اللعبة في يدها، وراح وزير خارجيتها هنري كيسنجر يجوب المنطقة متنقلاً ما بين مصر وإسرائيل تمهيدًا للدخول في مفاوضات مباشرة، كانت مجلة أكتوبر حاضرة في كل هذه المشاهد، وخصوصًا وأن فكرة المجلة واسمها وسياستها كانت كلها من بنات أفكار الرئيس السادات، لكي تكون مجلة سياسية اجتماعية تخاطب المصريين والعرب، بعد أن اتخذت معظم الدول العربية قرار مقاطعة مصر ونقل الجامعة العربية منها إلي تونس، باستثناء دولتين أو ثلاثة، وهي أمور واجهها الرئيس السادات بشجاعة كاملة، بل راح ينتقد الدول المقاطعة بعنف، وأحيانًا أخري بشدة وقسوة، ولعلنا نتذكر الموقف النبيل الذي وقفه جلالة السلطان قابوس، حينما رفض مقاطعة مصر، وأتذكر أنني قد التقيت بجلالته في صحبة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في عام 2014 ، في زيارة شيخ الأزهر إلي السلطنة، وقال جلالته عليه رحمة الله: (لقد مارس الإخوة علينا ضغطا لقطع علاقاتنا بمصر، وقلت لهم ليس من حقكم هذا الإجراء، فمصر هي التي حاربت واستشهد الآلاف من أبنائها وأنفقت كل ثرواتها علي القضية الفلسطينية، لذا فمصر حينما تختار الصلح والسلام فنحن معها، وحينما تختار الحرب فنحن معها أيضا، فهي صاحبة القرار وليس أنتم كانت مجلة أكتوبر سلاحًا إعلاميًا قويًا، وقد خصها الرئيس السادات بكثير من أحاديثه وصريحاته، وكان الأستاذ أنيس منصور رئيس التحرير وقتئذ موضع ثقة الرئيس السادات، لذا كان يخصه بأخبار ومعلومات انفردت المجلة بنشرها، وراح الناس يتلقفونها لدرجة أنها كانت تنفد من الأسواق في اليوم التالي لصدورها، علينا أن نعترف بأن أنيس منصور قد ابتكر سياسة جديدة للمجلة مستعينًا بجيل من الصحفيين كان معظمهم من الشباب، وكانوا من أوائل الخريجين وقد ابتكر قسما خاصا للإسرائيليات لمتابعة الشأن الإسرائيلي، كان من بينهم أحد الأصدقاء ( رفعت فودة ) خريج قسم العبري من كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر، وقد شاهدته علي التلفاز في أحد المؤتمرات الصحفية التي جمعت ما بين الرئيس السادات ومناحم بيجن، وراح رفعت فودة يلقي بأسئلته علي بيجن الذي تعجب من إجادة هذا الشاب للغة العبرية، وقد وجه كلامه إليه قائلا: أين تعلمت اللغة العبرية، أراك تتحدث بها كأنك أحد الإسرائيليين؟

وقد ضحك الرئيس السادات وكل المشاركين في هذا المؤتمر الصحفي.

منذ بداية إصدار المجلة وهي تستقطب جمهرة من كبار الكتاب والمفكرين في السياسة والتاريخ والفكر والفن، كان من بينهم توفيق الحكيم ومصطفي محمود وعائشة عبد الرحمن وإحسان عبد القدوس وحسين مؤنس وعبد العظيم رمضان وجمال حماد وفرج فودة وغيرهم كثيرون، فضلا عن نشر كثير من مذكرات الساسة والمفكرين في مصر وحتي إسرائيل، وكان من بين أهداف المجلة العناية بالصراع العربي الإسرائيلي، وكانت مجلة أكتوبر هي أحد القوي الناعمة التي مهدت لاتفاقية السلام، وتتبعت باقتدار كل المفاوضات التي كانت تجري في كامب ديفيد والعراقيل التي واجهتها، ووسط هذا الزخم الهائل من الأخبار والمعلومات والتحقيقات ظهر جيل من الشباب الذي تدرب وتعلم مهنة الصحافة في مجلة أكتوبر، وقد اكتسب هؤلاء الشباب خبرة كبيرة وسط هذا العراك السياسي والفكري، وخصوصا فيما يتعلق بالفكر ومعارك الوعي التي خاضتها المجلة حينما نشرت مقالات فرج فودة، ورواية الحرافيش للأديب نجيب محفوظ التي امتنعت الأهرام عن نشرها، لكن المسئولون عن المجلة كانوا في معظمهم من المؤمنين بأهمية إسقاط المُسلَمات ومناقشة الأفكار أيان كان مصدرها.

أعتقد أن مجلة أكتوبر تعد بمثابة موسوعة كبيرة وثقت لكل الأحداث المصرية السياسية والتاريخية والفكرية، وطوال تاريخها الذي امتد إلي ثمانية وأربعين عامًا تعد مدرسة للوعي والفكر والحداثة وحرية الرأي، وخصوصا بعد أن استكتبت أساتذة تخصصوا في التراث وتاريخ الفكر، وإذا كان الرئيس السادات هو من ابتكر فكرتها لكنها بقيت كل هذه السنوات تواصل رسالتها بهدف شيوع المعرفة وثقافة الحياة والتسلح بثوابت التاريخ، لكي تبقي مجلة مصرية عربية رائدة.

تحية تقدير وامتنان لكل من شارك في إصدارها.

أو كان من بين كتابها أو محرريها، فسيبقي تاريخ هذه المجلة بمثابة أحد القوي الناعمة التي أشاعت المعرفة والتسامح في مجتمع كان يموج بتيارات متباينة ما بين اليسار واليمين، لكنها اختارت لنفسها سياسة مغايرة معنية بمصر وقضاياها ومصالحها، وعلينا أن نواصل رسالتها لكي تبقي مجلة أكتوبر طاقة نور في مجتمع يتحرق شوقا نحو التقدم والوعي.

أضف تعليق

أكتوبر .. تفاصيل الحكاية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين

الاكثر قراءة

تسوق مع جوميا