إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا».. مبارك الذى أعرفه!

إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا».. مبارك الذى أعرفه!إسماعيل منتصر يكتب: «خواطر حرة جدا».. مبارك الذى أعرفه!

* عاجل4-3-2020 | 18:16

علمنى والدى كيف أحب وطنى؟.. تلقيت على يديه درسا لم أنساه لحظة واحدة.. كان والدى –رحمه الله – من معارضى جمال عبد الناصر.. لم تصل هذه المعارضة إلى حد القيام بأى نشاط يعبر عن هذه المعارضة.. لكنه فقط كان لا يحب عبد الناصر، وكان رأيه أن عبد الناصر فى صراعه مع الإخوان المسلمين دخل فى صراع مع الإسلام وأصبح يكره كل المسلمين وليس فقط الإخوان المسلمين!.. تمر الأيام وتدخل مصر فى محنة هزيمة يونيو 1967، فى الأيام الأولى كنت أشعر بالفرح والفخر وأنا أستمع إلى البيانات العسكرية الكاذبة؛ لكننى لاحظت أن والدى كان متحفظا. كما لاحظت أنه يقضى وقتا طويلا فى الاستماع إلى الإذاعات الأجنبية.. بعد حوالى ثلاثة أيام وبينما كان والدى يصلى بى وبشقيقاتى صلاة المغرب.. جاء صوت جمال عبد الناصر وهو يعلن تنحيه وعودته إلى صفوف الجماهير بعد تعرض البلاد لنكسة عسكرية، فوجئت بأبى يجهش بالبكاء بصوت عالٍ وتلعثم صوته وهو يقرأ القرآن ثم فوجئت به يخرج من الصلاة ويذهب إلى غرفته ويغلق الباب على نفسه. تأثرت لمشهد والدى وزاد من تأثرى أن شقيقتى التى تصغرنى بعام اندفعت بتأثير مشهد والدى وهو يبكى وأمسكت بسكين حاد جرحت به إصبعها وراحت تكتب بدمائها خطاب إلى جمال عبد الناصر (!!!) هدأت انفعالاتنا وانشغلنا بعد ذلك فى متابعة المظاهرات، التى قام بها المصريون لإثناء جمال عبد الناصر عن التنحى، وأدهشنى كثيرًا أن والدى عبّر لنا عن أمنيته فى عودة عبد الناصر لقيادة مصر، وسألته عن سر هذا التحول العجيب فقال لى: إن مصر فى حاجة إلى أن تلملم جراحها وأن تتماسك ولن يكون فى مصلحة مصر أن يتخلى عنها رئيسها فى مثل هذه الظروف!.. أعطانى والدى درسًا غير مقصود فى حب الوطن وكأنه أراد أن يكرس هذا الدرس فى نفسى فقال لى: أنت تعلم أننى لم أحب عبدالناصر لكن هل تعرف أننى عندما سافرت لتأدية العمرة قابلت مواطنا عربيا راح يسب عبد الناصر أمامى فوجدت نفسى أمسك بخناقه؟! أردف والدى قائلا: عبد الناصر مهما اختلفت معه لكنه رمز لمصر.. وأنا أحب مصر!.. هكذا تعلمت أن مصلحة الوطن أهم من أى شىء آخر.. وأن لها الأولوية على أى اعتبار.. وعندما وقعت أحداث 25 يناير التى انتهت بالإطاحة بالرئيس مبارك.. وجدت نفسى أفكر فى مصلحة الوطن! لاحظت أن الفوضى التى تزامنت مع هذه الأحداث مقصودة وممنهجة ومدمرة، ولاحظت أن 25 يناير تحولت إلى ثمرة سقطت فى أيدى جماعة الإخوان، وتساءلت إن كانت الثورة قد قامت بسبب فساد النظام، فهل هى مصادفة أن تثور شعوب الدول التى أطلق عليها اسم دول الربيع العربى؛ لنفس السبب وفى نفس التوقيت؟! أليس معنى ذلك أن هناك تخطيطًا وتدبيرًا مسبقًا! أما الرئيس مبارك الذى أطاحت به الثورة فقد كنت قريبا منه بحكم موقعى كرئيس تحرير لمجلة أكتوبر، وقد أتاح لى هذا القرب أن أُكوِّن عنه انطباعًا أتصور أنه كان صحيحا بدرجة كبيرة.. رافقت الرئيس مبارك فى معظم رحلاته الخارجية، وكان من عادات وطقوس هذه الرحلات أن الرئيس مبارك كان يمضى معنا ساعة أو ساعتين فى المكان المخصص لجلوس رؤساء التحرير. كان الرئيس مبارك حريصا أكثر منا على هذه "الجلسة" التى يتحدث فيها معنا نحن رؤساء تحرير الصحف والمجلات القومية.. ولم يحدث مرة سواء فى الذهاب أو فى الإياب أن امتنع الرئيس مبارك عن الحضور إلى مقصورة رؤساء التحرير والحديث معنا.. جاء الرئيس مرة للجلوس معنا وبعد دقائق بدأت الطائرة تهتز بفعل المطبات الهوائية.. جاء الدكتور زكريا عزمى رئيس ديوان الرئاسة يهمس فى أذن الرئيس، وسمعناه يطلب منه العودة للجلوس فى مقصورته؛ تحسبا للمطبات الهوائية. التفت الرئيس ناحيتى وكنت أقف إلى يساره وطلب منى أن أفتح ستارة الشباك القريب، وفعلت ومد هو بصره ينظر إلى السماء ثم طلب من الدكتور زكريا عزمى أن يبلغ الطيار بالصعود إلى ارتفاع 36 ألف قدم.. وبعد دقائق قليلة اختفت الاهتزازات تمامًا واستوت الطائرة، وأمضى الرئيس مبارك كل ما تبقى من وقت الرحلة فى الحديث معنا (!!!) كانت أحاديث الرئيس خلال وجودنا معه فى الطائرة الرئاسية تتسم بالصراحة البالغة، ولم يحدث يوما أن أبدى غضبًا من سؤال أو استفسار.. ولم يحدث أبدًا أن أعطانا تعليمات بشأن ما نكتبه.. وأستطيع أن أقول بعد أن رافقت الرئيس مبارك فى أكثر من 20 رحلة خارجية على امتداد ست سنوات.. أستطيع أن أقول إن الرئيس مبارك كان يتمتع بحس وطنى رفيع.. وأنه كان مهمومًا بمشاكل الناس.. وأنه كان أكثر اهتمامًا بالاقتصاد من السياسة.. أستطيع أن أقول أيضا إن الرئيس مبارك كان يدرك جيدًا أن الإدارة الأمريكية.. إدارة أوباما على وجه الخصوص.. كانت تحاول فرض إرادتها على مصر وعلى النظام المصرى.. والأهم أنه كان مُصرًّا على رفض أى ضغط عليه فى هذا الشأن.. أستطيع أن أقول أيضا إن الرئيس مبارك كان مهتما إلى درجة كبيرة بمساندة الفلسطينيين ودعمهم.. وكثير ما تحدث عن شكوى إسرائيل من الأنفاق التى حفرها الفلسطينيون.. وكان رده على الإسرائيليين أن الأنفاق لها فتحتان.. أغلقوها من عندكم!.. لكن الرئيس مبارك كان يشكو لنا فى نفس الوقت من الخلاف الفلسطينى وتداعياته على القضية الفلسطينية، وتبقى قضية التوريث التى قيل إنها أهم أسباب ثورة 25 يناير، والحقيقة أن الرئيس مبارك لم يحدثنا فى هذه المسألة أبدا.. لا تلميحا ولا تصريحا.. ومع ذلك فإننى مقتنع أن تصرفاته لم تكن مرحبة بمسألة التوريث.. واستند فى ذلك إلى واقعة كنت أحد شهودها.. ذات يوم وصلتنى دعوة من جمال مبارك لحضور اجتماع مهم فى نادى القوات الجوية القريب من منزل الرئيس مبارك.. كان الاجتماع الذى دعا إليه كل رؤساء التحرير مخصصا لمناقشة ما عرف أيامها بمشروع صكوك الملكية.. حضر اللقاء مجموعة كبيرة من الوزراء والمسئولين المحسوبين على جمال مبارك، يوسف بطرس غالى، محمود محيى الدين، علي الدين هلال.. وآخرون، وقد شارك كل هؤلاء فى إقناعنا بأهمية مشروع صكوك الملكية. وتكررت الدعوة وتكرر هذا اللقاء ثلاث أو أربع مرات.. وأظن أن معظمنا اقتنع بجدارة وانتظرنا أن يبدأ تنفيذه لكن انتظارنا طال. وفى إحدى الرحلات التى رافقنا فيها الرئيس مبارك سألته: لماذا تأخر تنفيذ مشروع صكوك الملكية حتى الآن.. وفوجئت بالرئيس يشيح بوجهه ويقول "انسى.. يريدون أن يبيعوا البلد" (!!!) لم يكن هناك معنى لرد الرئيس إلا أنه يرفض دعم نجله جمال مبارك.. والسؤال: هل هذا تصرف طبيعى من رئيس يعمل على توريث ابنه؟! باختصار كان رأيى أن الرئيس مبارك لم يكن يستحق أن يطيح به الشعب غضبا.. وأن خطأه الوحيد، إن كان هناك خطأ، أنه ظل فى الحكم سنوات طويلة وأن حكمه طال بأكثر من اللازم!.. وكان من الطبيعى أن أشعر بالحزن وأنا أتابع محاكمة مبارك وصدور أحكام قضائية ضده.. وكان من الطبيعى أيضا أن أشعر بالسعادة بعد أن أصدر القضاء المصرى أحكاما بالبراءة على الرئيس ونجليه.. أما الذى أسعدنى أكثر من أى شىء آخر.. وأظنه أسعد ملايين المصريين.. فهو التكريم الذى حصل عليه الرئيس مبارك بعد وفاته – رحمه الله – جنازة عسكرية مهيبة يتقدمها رئيس الجمهورية.. عزاء ضخم شارك فيه كثير من المصريين والعرب والأجانب.. احتفال بالنياشين والأنواط التى حصل عليها.. وهكذا كرّمت مصر رجلا حارب من أجلها وحافظ عليها ولم يهرب منها عندما أتيحت له الفرصة بعد أن عرضت عليه أكثر من دولة خليجية اللجوء إليها وأرسلت له بالفعل طائرات لإحضاره هو وأسرته؛ لكنه اختار أن يعيش فى بلده ويموت فى بلده ويدفن فى تراب بلده.. رحم الله الرئيس مبارك وأعز مصر والمصريين.
أضف تعليق

إعلان آراك 2