«الأشياء الصغيرة» دائرة العدالة المنقوصة

«الأشياء الصغيرة» دائرة العدالة المنقوصة«الأشياء الصغيرة» دائرة العدالة المنقوصة

غير مصنف22-2-2021 | 13:41

دار المعارف _ محمود عبد الشكور يحقق الفيلم الأمريكي «الأشياء الصغيرة»، الذي كتبه وأخرجه جون لي هانكوك، أكثر من نجاح فى عدة اتجاهات: من حيث النوع فهو يبدو مخلصًا تمامًا للفيلم البوليسي جيد الصنع، محكم البناء، بل إنه نموذجي فى تحقيق ذلك، حيث يؤدي كل مشهد إلى المشهد الذي يليه، وتتصاعد الأحداث، ويزيد الصراع، كلما اقتربنا نحو النهاية، كما أن هناك لحظات تشويق لامعة كثيرة، توزعت على مدى زمن الفيلم، لكننا أيضًا وفي نفس الوقت، أمام بصمة خاصة، تجعل الفيلم مختلفًا فى مشاهده الأخيرة عن الفيلم البوليسي التقليدي، إذ يتراجع الاهتمام فى النهاية بهوية المجرم، وبكيفية ارتكاب الجريمة، إلى تحويل الدفة نهائيا إلى تناقضات بطلي الفيلم، وهما من رجال الشرطة، وهنا تصبح القضية أكثر من حكاية قاتل متسلسل يقتل العاهرات، وهي تيمة متكررة فى الأفلام البوليسية، لنصل إلى سؤال العدالة المنقوصة، والتي تحتار فى إيجاد الدليل، فتنفذ القصاص بأيدي رجال الشرطة، كما يتكرر حرفيًا ما فعله ضابط البوليس المخضرم فى الماضي، مع حاضر ومستقبل زميله ضابط البوليس الشاب، وكأن الماضي يتكرر فى المستقبل، وهي العبارة التي قالها الضابط المخضرم، لزميله الشاب. يخرج الفيلم قليلاً بذلك عن «باترون» الفيلم البوليسي، الذي يريح المتفرج بمعرفة القاتل، والقصاص منه، بينما فيلمنا لا يريح المتفرج بهذه النهاية، وإنما يتركه قلقا حتى بشأن هوية المجرم الحقيقي، فالعدالة يحققها رجال الشرطة من وجهة نظرهم، وكل حيل وجهود التحقيق والمراقبة لم تثبت التهمة نهائيا على المشتبه به، الذي يبدو ماكرًا كالشيطان نفسه، ونجاح الفيلم لا يتمثل فقط فى هذا المزيج الذي يأخذ الحبكة البوليسية الى أسئلة أكثر عمقًا، ولكن أيضًا فى تكامل عناصر العمل الفنية، خصوصا السيناريو والإخراج والمونتاج والموسيقى التصويرية والتمثيل، هناك فعلا مباراة بين أبطال الفيلم الثلاثة دينزل واشنطن، ورامي مالك، وجاريد ليتو، كل فى دوره، وأفضل مشاهد الفيلم على الإطلاق، عندما اجتمع هؤلاء الثلاثة معًا فى حجرة التحقيق، حيث يقوم المحقق الشاب جيمي باكستر (رامي مالك) باستجواب المشتبه به ألبرت (جاريد ليتو)، ثم ينضم إليهما المحقق المخضرم جو ديكي (دينزل واشنطن)، كل طرف يتعمد الهدوء، بينما يوجد فى داخله بركان يغلي، وينتهي هذا «الماستر سين» بثورة عنيفة من جو ديكي الضابط المخضرم. يعتمد بناء الفيلم على قيام الضابط جو ديكي القادم إلى لوس أنجلوس فى مهمة عمل لم تتم، لزميله جيمي باكستر، الذي لا ينقصه الذكاء، لكن تنقصه الخبرة، ولكن جو هو أيضا ابن نفس الإدارة التي يزورها، لكنه استبعد منها، إثر إصابته بأزمة قلبية، أثناء تحقيقه منذ سنوات لقضية قنل جماعية لفتيات جميلات، والآن هو يشعر بالذنب بسبب هذه القضية القديمة، خصوصا أن القضية الجديدة هي أيضا لقاتل يختار الجميلات ليقتلهن، بينما يبدو رئيس الإدارة رافضًا لمشاركة ديكي فى التحقيقات «من الباطن»، فإن جيمي باكستر يتحمس لهذا التعاون، خصوصا أن ديكي يبدأ ببراعة فى جمع الأشياء الصغيرة حول القضية، ثم يتصاعد الصراع بالاهتمام بأحد المشتبه بهم، لكن الرجل ينتحر، ثم يتركز الاهتمام على مشتبه به جديد، شديد الهدوء والمكر والذكاء يدعي ألبرت، نعرف أنه اعترف من قبل بجريمة سابقة مشابهة لحوادث القتل، لكنه يصر هذه المرة على إنكار التهمة، وتتحول مراقبة ديكي وجيمي له إلى لعبة أشبه بألعاب القط والفأر. لا يهبط إيقاع الفيلم المشدود والمتوتر لحظة واحدة، وكلما خفت الصراع، ظهرت معلومة جديدة، أو شخصية يعرفها ديكي من الماضي، تدفع الأحداث مرة أخرى للأمام، أما الشخصيات المحورية الثلاث، فقد رسمت بكل معالمها وتفاصيلها: ديكي الذي يعتبر القضية الجديدة مهمة شخصية، والذي انفصلت عنه زوجته السابقة، ولديه سر آخر فى قضيته القديمة، يؤرقه حتى النهاية، وجيمي الذي يبدو ضابطا محترفا ويقظا، ولديه أيضًا أسرة صغيرة، ستكون سببًا فى انفجاره فى مشهد النهاية دفاعا عنها، ثم المشتبه به ألبرت، وهو أحد أفضل الشخصيات غريبة الأطوار فى الأفلام البوليسية، وبدا فعلاً مثل شيطان لا مبالي، حاد الذكاء، ويستمتع بشكل خاص باستفزاز رجال الشرطة. لا يغلق الفيلم أقواسه بعكس الفيلم البوليسي التقليدي، لكنه يبدو متشككًا للغاية فى نجاح الإجراءات والمطاردات فى تحقيق العدالة، ويتحقق فعلاً ما تنبأ به الضابط المخضرم، بأن يكرر الضابط الشاب ما حدث له، ويبدو العثور على دليل حاسم على أن المشتبه به هو القاتل أمر بعيد المنال، ولذلك سيرسل ديكي دليلا مصنوعا فى النهاية إلى زميله جيمي، ويبدو الصراع الخارجي بأكمله طوال الفيلم، انعكاسا لصراع أكثر شراسة داخل رجلي الشرطة: ديكي بسبب قضيته القديمة بالأساس، وجيمي بسبب قضيته الجديدة، والاثنان أسرى للماضي بشكل أو بآخر. أما عن التفاصيل فقد استخدمت بشكل ممتاز، مثل تتبع نوع الطعام الذي تناوله القاتل، من خلال فحص أكياس القمامة الخاصة به، ومثل رصد عناوين ولافتات مكتوبة على الطريق السريع، حيث ارتكبت بعض الجرائم، ومثل تفاصيل عمليات التشريح لجثث الفتيات، والفيلم عموما لا يقدم تفاصيل مشاهد القتل متعمدا، إنما يوحي بها، وتكثيف المعلومات، وتوزيعها بذكاء على مدار الفيلم، من أفضل مناطق تميز الفيلم عموما، الذي ينتمي للنوع، ويكاد يناقض النوع أيضا، بالتشكك فى قدرة العدالة التقليدية، وبتحليل تناقضات رجال الشرطة، بنفس درجة تحليل تناقضات المشتبه به فى الجريمة.
    أضف تعليق

    تسوق مع جوميا

    الاكثر قراءة

    إعلان آراك 2