حورية عبيدة تكتب: أشجار وارفة

حورية عبيدة تكتب: أشجار وارفةحورية عبيدة تكتب: أشجار وارفة

* عاجل17-9-2017 | 23:05

كلما ارتجَّ قلبي برحيل واحدٍ من القامات النبيلة؛ أخالُه ألو تحول إلى شجرة وارفة؛ تُظلل بالحكايا الأجيال القادمة، أمّا الشائهون المُدّعون التافهون فما لهم من مَآلٍ - أو هكذا يجب - إلا أن يتحولوا إلى حفنة من تراب تحت أقدام تلكم الشجرة.

وهاهو قلبي يرتجُّ أخيراً برحيل العالِم الأستاذ الدكتور/ شفيق الخليل أبوبشار؛ المؤرخ والمفكر والمحلل السياسي والإعلامي الفلسطيني؛ الذي قضى جُل عُمره بأمريكا ينافح عن فلسطيننا، فيكتب ويحلل ويُبصّر بحقيقة الصراع العربي الصهيوني، ويفضح فظائع الصهيونية وحكماءها وبروتوكولاتها.

كلما تذكرته؛ أراه كشجرةٍ وارفةٍ؛ تقصُّ علينا حكايا شعبٍ جبارٍ عَصيّ على الركوع، عَصيّ على الإذلال.. وحكاياه هذه ضَمنّها في العديد من كتبه التي صارت مرجعاً هاماً باللغتين العربية والإنجليزية.. ومنها: "اليهود في التوراة والتلمود وضياع فلسطين".

تفاجأتُ بمتابعته الدقيقة لمقالاتي، وحرصه الأشد على التعليق عليها، أو إعادة نشرها على مُتصفّحه الخاص، خاصة تلك التي تخص فلسطين وقضاياها المُترعة بالهموم والنكبات والإصرار والتحدي.

"حَنظلة في غزة" و"العروس مستوفية الشروط لكنها متزوجة" مقالان كتبتهما، لفَتا انتباهَه، فكَتبَ شهادةً قال فيها: "أْشهدُ الله أنّي أُفاخر بهذه الصحافية الأديبة على فِكرها النيّر الذي تجاهد به لأجل فلسطين السليبة، والله أٌُشهد أنها جاءت بالحقيقة الكاملة حول الادعاءات الصهيونية الكاذبة بأن الفلسطينيين قد باعوا أرضهم.. تحيةً لك أيتها الأديبة المؤمنة بربها وشعبها العربي، المُدافعة بل والمُحاربة بالقلم".

ذات صباحٍ؛ فتحتُ بريدي الخاص؛ لأجد مفاجأةً سارةً تنتظرني، فقد شرّفني الأستاذ الدكتور عبد الجواد النادي - أستاذ اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة طنطا - وقام مُتفضّلاً بترجمة مقالي: "حنظلة في غزة" للغة الإنجليزية، وما كدتُ أُبلغه وافر شكري وتقديري لفضله وكرمه؛ إذ بي أتفاجأ بذات الوقت برسالةٍ من المؤرخ الفلسطيني د.شفيق يطلب موافقتي على نشر بعض مقالاتي في الصحافة الأمريكية وبعض صحف الجالية العربية، شرط ترجمتها للإنجليزية، فأصابني الذهول فعلاً لاجتماع المُصادفتين في آن واحدٍ!

عن "الإسراء والمعراج" كتبتُ مقالا، فكتبَ أبوبشار لي : "حورية عبيدة تدافع عن فلسطين أكثر من الكُتّاب الفلسطينيين أنفسهم؛ الذين قد لا يتمكنون من تناول قضيتهم العادلة مراعاةً لظروف معيشتهم في غير وطنهم، تَحية للقلم النبيل؛ قلم الكفاح والجهاد الذي قلّما نجده عند صحافي عربي آخر".

في بداية متابعته لكتاباتي سألني: من أي بلدٍ عربيٍ أنتِ؟ فتلك الجرأة في الكتابة لا تأتي إلا من فلسطين، فأهلها أكثر الناس ثقافة ومعرفة بقضيتهم، فهل أنت آكِلة للزعتر والزيت لتكوني بهذه الفصاحة وهذا الشعور الطيب؟ لكن مصر بلد التسعين مليوناً لابد وأن تنجب أمثالك، فأنتم مَن ساند فلسطين على مدى التاريخ القديم والحديث.. سيدتي أعتزُّ بصداقتك، لأني أُقدسُ الفكر وأُجِلُّ أهله".

كان قد بلغ من الكبَر عتيّاً، واقترب عمره من التسعين؛ ومايزال يحتفظ بذاكرة حديدية ووعي يملؤه الحماس لوطنه حد الثمالة، حتى أنه بشرني ذات مرة باكتشافه أنه قادر - ولأول مرة - على نظم الشِّعر، ثم أرسل لي قصيدة مُترعة بعشق الوطن؛ طالباً رأيي حتى ينشرها مطمئناً، وأردفَ قائلاً : سأدافع عن وطن طالباً رأيي حتى ينشرها مطمئناً، وأردفَ قائلاً: سأدافع عن وطني بكل ما أُوتيت؛ رغم أن حالتي الصحية لا تسمح بالكثير، وسأرسلُ لك نسخةً من الصحف الأمريكية التي نشرتُ بها مقالاتك".

انتظرته أياماً وأياماً، لكنه جاءني هذه المرة مُترجلاً عن صهوة القلم والفكر، يتصدرُ صفحته الشخصية خبر وفاته إثر معاناته مِن مرضٍ عضال.

رحمهُ الله بقدر عشقه لوطنه، وإيمانه بقدرته ودَوره في الذّود عن قضيته، ورحم الله كل من دافع عن الإنسانية الحقة في عالمنا الوحشي هذا.

أضف تعليق