يمر الزمن دون أن نشعر، وتمضى الأيام راكضة كحصان يجتاز الحواجز.
مرت فى غمضة عين أربع سنوات قضيتها بمصر، تاركةً لديّ العديد من الذكريات الجميلة. امتلأ عقلى بالأفكار ونفسى بالمشاعر المختلطة، بينما قاربت مدة منصبى على الانتهاء.
فى الواقع، كانت هذه هى المرة الثانية التى جئت لأعيش فيها بمصر. ما زلت أذكر المرة الأولى، التى كانت فى صباح أحد أيام الجمعة من شهر نوفمبر عام 1991، حين هبطتُ بالطائرة فى ا لقاهرة قادمًا من العاصمة السودانية الخرطوم، وبينما كنتُ فى طريقى إلى بيتى الجديد بالجيزة من مطار القاهرة، رأيتُ أشياء رائعة تعجز العين عن الإحاطة بها، حيث كان طريق المطار واسعًا ونظيفًا، ومبانى ا لقاهرة الجديدة عالية والأشجار وارفة، وتتوالى المناظر الطبيعية الجميلة لنهر النيل الواحدة تلو الأخرى. جعلنى ذلك المشهد الرائع أشعر وكأننى عدتُ إلى الجنّة من جديد، بعدما قضيت عامًا مُمِلًا فى السودان. مكثتُ فى مصر لمدة ثلاث سنوات فى سعادة. كنتُ قد سافرتُ خلال هذه الفترة إلى جميع أنحاء مصر تقريبًا، حتى تركتُ منصبى فى خريف عام 1994 وعدتُ إلى الصين.
«من يشرب من نهر النيل يجب أن يعود إليه»، تعلمتُ هذا المثل عندما جئتُ إلى مصر فى المرة الأولى، وكما هو المتوقع، وفّيتُ بوعدى وجئتُ إلى مصر بعد 23 عامًا فى يوليو عام 2017 للعمل فيها مرة أخرى، ومنذ ذلك الحين، عملتُ لمدة أربع سنوات أخرى. لم أتغير أنا فقط خلال فترتيّ عملى فى مصر من فتى كثيف الشعر إلى شيخ أشيب، بل حدثت فى مصر أيضًا تغيرات هائلة، وخاصة فى السنوات الأربع الأخيرة، فقد كان ذلك التغيير واضحًا وبشدة.
بادئ ذى بدء، ازداد المجتمع المصرى انفتاحًا، وصار الناس أكثر واقعية فى التفكير؛ ففى الماضي، كان الفخر الوطنى القومى قويًا بشكل خاص، وكثيرًا ما تترد جُمل التباهى بأن مصر «أم الدنيا» وغيرها من الجُمل، لكن الشعب المصرى صار عمليًّا أكثر من ذى قبل، ففى نفس الوقت الذى يحافظ فيه الشعب على فخره بالحضارة المصرية القديمة، أصبح يمتلك الجرأة على مواجهة الفجوة الموجودة بينه وبين الدول المتقدمة.
يُعد الرئيس السيسي قائدًا عمليًّا. فإنه لم يرسم «رؤية مصر 2030» لبلاده فحسب، بل اقترح خطة «حياة كريمة»، وتنفذ الحكومة كل سياساته. لقد شاهدت عبر التليفزيون الرئيس السيسي يركب الدراجات مع الشباب فى شرم الشيخ، ويحتضن الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة، ويترجل فجأة من سيارته أثناء تفقد مواقع البناء، ليطلب من العمال بجدّية ارتداء الكمامات واتخاذ الإجراءات الاحترازية وغيرها.تركت هذه المشاهد لديّ شعورًا عميقًا بالاحترام.
لم تكن هناك محطات تليفزيونية خاصة فى مصر بالماضي. أما الآن فقد شُيدت مدينة الإنتاج الإعلامي، وفيها تُبث قنوات DMC, CBC، صدى البلد وغيرها من القنوات التليفزيونية الخاصة، وقد حالفنى الحظ بالظهور ضيفًا فى البث المباشر لهذه المحطات التليفزيونية لعدة مرات. كما افتُتحت وسائل الإعلام فى كُل مكان بأعداد لا تُعد ولا تُحصى.
فى الماضي، ترك المصريون لديّ انطباعًا باللامبالاة وقلة الاهتمام، إذ كانوا عادة ما يتجولون فى الشوارع ببطء، أما الآن فأرى المصريين فى الشوارع يسيرون فى عُجالة مشغولين بكسب رزقهم، وبعض المتاجر تكون مفتوحة حتّى فى الصباح الباكر، وقد تكون فكرة الثراء من خلال العمل تضرب بجذورها فى قلوب الناس. علاوة على ذلك، فمعظم المصريين الذين أقابلهم فى الشوارع تعلو الابتسامة وجوههم، ويمكن مُلاحظة رضاهم المتزايد عن حياتهم.
ثانيًا، اكتست مصر بملامح جديدة:
فى الماضى كنتُ أرى سيارات قديمة للغاية تسير فى الشوارع، وتبدو كأنها كلاسيكية من التى يحلو للأجانب الحديث عنها، أما اليوم فهناك أنواع عديدة من السيارات الحديثة التى تسير فى شوارع مصر الكبيرة. تعددت خطوط مترو الأنفاق، كما تتقاطع الطرق السريعة والمستقيمة خارج المدينة. فى التسعينيات لم تكن هناك مراكز تجارية كبيرة فى القاهرة، أما الآن فهناك الكثير من الأسواق الضخمة التى أصبحت مراكز تسوق رئيسية بالنسبة للناس، كما تم الانتهاء من بعض الأماكن الجديدة ووضعها قيد الاستخدام، مثل: المطار الجديد ومدينة الإنتاج الإعلامى والمتحف القومى للحضارة المصرية والمتحف المصرى الكبير. على الرغم من أن شارع الهرم الذى أعيش فيه يبدو قديمًا بعض الشيء، فإن التجمع الخامس، ومدينتي، والمدن السياحية، مثل: شرم الشيخ والأقصر وأسوان يختلف فيها المشهد تمامًا، إذ تكون فى غاية التنظيم والنظافة. وعلى صعيد آخر، فقد كانت الكهرباء والمياه فى مصر كثيرًا ما تنقطع سابقًا، فأذكر فى عام 2010، عندما جئت إلى المركز الثقافى با لقاهرة لحضور إحدى الفعاليات، ولضمان عدم انقطاع الكهرباء أثناء الفعالية، لم يجرؤوا فى ذلك اليوم على استخدام مصدر الطاقة الكهربائية المحلي، بل استأجروا خصيصًا مولدا للكهرباء متنقلا، لضمان استمرار تدفق التيار الكهربي. لكن قلّ حدوث هذه الظواهر فى السنوات الأخيرة؛ مما يوضح أن المجتمع المصرى فى طريقه إلى التقدم والتنمية.
ثالثا، أصبحت التبادلات الثقافية بين مصر والصين تزداد تنوعًا وثراءً يومًا بعد يوم:
إن مصر والصين حضارتان عريقتان فى العالم، وتمتد الصداقة بين البلدين لتاريخ طويل. فمنذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والصين فى عام 1956، وخاصة منذ الإعلان عن إقامة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين فى عام 2014، بدأ الجانبان فى عملية تعاون شاملة فى مختلف المجالات، واستفاد التبادل الثقافى من التعزيز المستمر للعلاقات السياسية، مما أظهر حالة أكثر نشاطًا. وقد لعب المركز الثقافى الصينى با لقاهرة -والذى تم بناؤه والانتهاء منه فى نوفمبر 2002- دورًا مهمًا فى ذلك. أنا أقيم فى مصر منذ أكثر من أربع سنوات، وقد كانت مصر والصين تستخدمان المركز الثقافى الصينى با لقاهرة كمنصة للتبادل والتفاعل بين الجانبين، كما جرى تنفيذ سلسلة من مشاريع التعاون التى تركت انطباعًا جيدًا لدى الناس فى مجالات ثقافية كبيرة، مثل: الثقافة والفن والسياحة وغيرها.
نظم المركز الثقافى الصينى با لقاهرة حوالى 100 فعالية ثقافية سنويًا منذ عام 2017 حتى عام 2019، شاركت فيها جماهير الشعب المصرى بفاعلية، وكان تأثير هذه الفعاليات واضحًا. وبعدما اندلعت أزمة تفشى وباء كورونا المستجد، تأثرت الأنشطة الثقافية التى تُقام على أرض الواقع والتبادلات بين الأفراد سلبًا، فغيّر المركز الثقافى الصينى با لقاهرة أساليب عمله فورًا، وتعاون مع وزارة الثقافة المصرية، ودار الأوبرا المصرية بالقاهرة، وقنوات Nile TV وغيرها من المؤسسات الثقافية الرئيسية الرسمية لتنظيم عشرات الفعاليات عن بعد. كما تولى حكومتا الصين و مصر أهمية كبيرة للأنشطة الثقافية المشتركة، فمنذ عام 2017 تبادلت العشرات من الفرق الفنية ووفود الخبراء فى السياحة والثقافة الزيارات فى كلا البلدين سنويًا، ونظموا مختلف أنشطة التبادل، مثل: المعارض والمحاضرات والعروض والحفلات وما إلى ذلك. من بينها، ومنذ بدء الاحتفال بعيد الربيع فى 2018، كانت هناك بعض الأنشطة التى خططتُ لها، مثل: إضاءة الأهرامات وبرج ا لقاهرة وقلعة صلاح الدين ومعبد الكرنك ومعبد فيلة بلون العلم الصينى الأحمر، مما عمّق فهم الشعب المصرى للصين. فى الوقت نفسه وفى ظل تشجيع المركز الثقافى الصينى بالقاهرة، عُرض فيديو ترويجى للسياحة المصرية فى مترو أنفاق شانغهاى والمواصلات العامة والشاشات الإلكترونية الخارجية ومحطات البث المتداول، استهدف عشرات الملايين من الأشخاص، وقد أدى الترويج لتلك الأنشطة اللافتة للنظر بواسطة وسائل الإعلام الصينية والمصرية إلى جعل مصر تلك الدولة الحضارية القديمة فى العالم تدخل أكثر فأكثر فى وعى الشعب الصينى بعمق.
بصفتى مستشارًا سياحيًا، فأنا أركز فى عملى على تعزيز التعاون فى مجال السياحة بين مصر والصين، ودفع التبادلات الودية بين الجانبين. فقد تزايدت أعداد السياح الصينيين إلى مصر فى السنوات الأخيرة. فى عام 2018، أصبحت مصر واحدة من الوجهات الخمس الأكثر شعبية بالنسبة للمواطنين الصينيين للسفر إلى إفريقيا، وبلغ عدد السياح فى مصر قرابة 500 ألف. وفى عام 2019، دعت وزارة الثقافة والسياحة أكبر خمسة وكلاء سفر فى مصر للذهاب إلى الصين والمشاركة فى معرض الصين الدولى للسياحة. كما لاقت أنشطة الترويج السياحى التى أقيمت فى بكين وخونان وخهنان وأماكن أخرى فى عام 2019 اهتمامًا واسع النطاق من الشعب المصري.
ومن ناحية أخرى، فقد حقق التعاون المصرى الصينى فى مجال علم الآثار والآثار الثقافية انطلاقة تاريخية، فبدأ أول مشروع أثرى مشترك بين الصين و مصر بقيادة معهد الآثار التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية فى عام 2018 فى معبد مونتو فى الأقصر، ولهذا ذهبت إلى الأقصر خصيصًا لحضور حفل إطلاق المشروع الأثري، كما تُحقق أعمال الحفر فى الوقت الحاضر تقدمًا تدريجيًا، ويُخطط معهد الآثار لإنشاء أول مركز أثرى صينى فى مصر فى المستقبل القريب. بالإضافة إلى ذلك أُطلق مشروع جامعة بكين الأثرى فى الدلتا. ووفقًا لـ «اتفاقية حماية وإعادة الممتلكات الثقافية المسروقة التى تم الاتجار بها بصورة غير مشروعة فى بلد المنشأ»، التى وقعتها حكومتا الصين و مصر فى عام 2010، أعادت وزارة السياحة والآثار المصرية 13 قطعة نقدية صينية قديمة صودرت فى مصر وذلك فى عام 2017، كما ستعاد 31 قطعة نقدية صينية قديمة ضُبطت فى مصر فى عام 2020، وسيقوم الجانبان بمزيد من التعاون فى مجال مكافحة تهريب الآثار الثقافية.
وفى السنوات الأخيرة، استمر تحقيق إنجازات جديدة بلا توقف فى مجال التبادلات الأدبية بين البلدين، وبتفويض من تيه نينغ (رئيسة رابطة الكتاب الصينيين)، تواصلت مع الدكتور علاء عبد الهادى رئيس اتحاد كتاب مصر، وتضافرت جهودنا، وعقدنا لأول مرة «منتدى الأدب الصينى العربي» فى ا لقاهرة عام 2018، واجتمع معًا كل من: تيه نينغ وما جيا وليو جين يون و13 من أشهر الكتاب الصينيين حاليًا مع حوالى 50 كاتبًا عربيًا، وأجروا تبادلات واسعة ومتعمقة تحت عنوان «الإبداع الأدبى على طريق الحرير الجديد». وقعت رابطة الكتاب الصينيين خلال المنتدى «وثيقة القاهرة» مع الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، و «اتفاقية التعاون والتبادلات الأدبية المصرية الصينية» مع اتحاد كتاب مصر، مما أدى إلى خلق آلية جديدة للتبادلات الأدبية المصرية الصينية.
وللتبادل والتعاون السينمائى بين مصر والصين تاريخ طويل، ففى وقت مبكر من التسعينيات، عندما عملتُ فى ا لقاهرة للمرة الأولى، التقيتُ بالرئيس الأسبق لمهرجان ا لقاهرة السينمائى الدولى السيد: سعد الدين وهبة، ونمت صداقة عميقة مع السيدة: سهير عبد القادر (الأمين العام)، التى شجعت العديد من صانعى الأفلام الصينيين على القدوم إلى مصر والمشاركة فى المهرجان، كما دعت الممثل الشهير يحيى الفخرانى والممثل الكبير الراحل نور الشريف وغيرهما لزيارة الصين فى استضافتها لأسبوع الفيلم المصري.
وفى السنوات الأربع التى عُدت فيها للعمل فى مصر، أقمتُ اتصالات مكثفة مع رؤساء التليفزيون المصرى ومهرجان ا لقاهرة السينمائي، وقمنا بالترويج المشترك للتبادلات التليفزيونية والسينمائية بين البلدين، ففى العامين الماضيين، قمنا بالعمل بقوة على تعزيز التعاون بين الوكالات التليفزيونية فى الصين ومصر، وأكملنا العمل بشكل مشترك على عرض العديد من الأعمال الدرامية الممتازة على الشاشات المصرية، مثل: «حب الوالدين» و «نشيد الفرح» و «الريش يحلق فى السماء» وغيرها.
وفى عام 2019، جرت دعوة الممثل الصينى تشين هاى لو لعضوية لجنة التحكيم فى الدورة الـ41 لمهرجان ا لقاهرة السينمائى الدولي، وحصل فيلم «الجدار الرابع» على «جائزة الهرم البرونزي» عن المسابقة الرئيسية، وفى عام 2020، وفى ظل أوضاع تفشى الوباء، شاركت المخرجة الصينية تساو جين لينغ فى مهرجان ا لقاهرة السينمائى الدولى الثانى والأربعين بفيلمها الأول «أنيما»، والذى لاقى الترحيب فى مصر.
لطالما اعتقدت أن الثقافة هى الغذاء الروحى للبشرية، ولا يمكن حصر أى حضارة إنسانية وثقافتها فى نطاقها الخاص دون أن تنتشر فى العالم، ولا يمكن للمجتمع البشرى أن يتقدم ويتطور إلا من خلال التبادلات الحضارية طويلة الأمد والتعلم المتبادل. وبصفتى منخرطًا فى التبادلات الثقافية الدولية دائمًا؛ يملؤنى الأمل فى آفاق أرحب للعلاقات الثقافية بين الدولتين العريقتين الصين ومصر، وأؤمن أنه فى ظل رعاية وتوجيهات قادة البلدين، وحينما تمر أزمة تفشى الوباء، سيستمر تزايد التعاون والتبادل الثقافى متعدد المستويات والأبعاد والمجالات بين مصر والصين، مما يعود بالنفع على شعبى البلدين وتعزيز الصداقة بين الجانبين.