في ذكرى رحيله الـ 48.. في حضرة الأستاذ العميد طه حسين «1889-1973»

في ذكرى رحيله الـ 48.. في حضرة الأستاذ العميد طه حسين «1889-1973»إيهاب الملاح

الرأى28-10-2021 | 22:05

- 1 -


كنتُ في الثانية عشرة تقريبًا، عندما قرأتُ أول كتابٍ وقع تحت يديَّ ل طه حسين بعنوان «صوت أبو العلاء»؛كتاب صغير الحجم لكنه مثَّل لي حينها فتحًا في الطريقة والأسلوب واللغة المكتوب بها.. «صوت أبو العلاء» أشبه بخلاصة مُركَّزة ودقيقة لسيرة أبي العلاء وشعره تناسب سلسلة شعبية مثل (اقرأ) موجهة للقارئ العام، وطالعني طه حسين حينها بموسيقاه، وإيقاعه الرصين، واستشهاداته الرائعة من شعر أبي العلاء... لا أنكر أنني توقفت مشدوهًا مرتبكًا أمام معاني الأبيات والألفاظ التي كانت تواجهني للمرة الأولى.. أما التحول العظيم الذي حدث فهو خوض مكابدة وقراءة الشعر العربي مباشرةً. كنتُ أشعر بأن ثمة طيفًا يناوشني، أستشعر جمالًا لا أستطيع تحديد ماهيته أو الإمساك بعناصره..


وفي العام 1997 قرأتُ الجزء الأول من كتابه المذهل «حديث الأربعاء»، وكانت تجربة أخرى رائعة لم أتحرَّر من متعتها ولا استشعار لذتها حتى اللحظة، وكنت أتساءل: كيف لذلك الرجل الذي حُرم من نعمة البصر أن يُؤتى هذه الملكة، وتلك البصيرة في مقاربة هذا الفن المرهوب وأبياته الخالدة، وأن يستطيع تقديمها وتذليل صعوباتها وعوائق تذوقها بهذه السلاسة والعذوبة؟!


لقد استهل طه حسين محاولته الفذة في اختراق غابات الشعر الجاهلي ممسكًا بيد قارئه، هاديًا ومرشدًا ودليلًا؛ للتعرف على روح الثقافة العربية في العصر الجاهلي، وتمثيله جماليًّا في «حديث الأربعاء». راد طه حسين الطريق ووجه أنظار النقاد ودارسي الشعر القديم، ومتخصصيه، إلى ضرورة التوسط بين المقبلين على قراءة ودرس الشعر القديم، بتشابكاته اللغوية والجمالية والفنية، وبين النصوص ذاتها.


وفتح طه حسين الباب واسعًا، وجاء من بعده زكي مبارك في كتبه الكثيرة التي أفردها لقراءة وتحليل الشعر العربي وتذوقه في عصور ازدهاره، ومن بعده العظيم محمد مندور، وعبد القادر القط، وشكري عياد، وسليمان العطار، وغيرهم..

- 2 -


ومع دخولي الجامعة، افتتحتُ مرحلة جديدة رائعة من قراءة واكتشاف هذه القارة المعرفية والثقافية والأدبية والنقدية الهائلة؛ قارة اسمها «طه حسين».


رجل قد تعمق درس التراث العربي والإسلامي، على تشعباته وتداخلاته، حفظ القرآن الكريم وطرق أدائه؛ ترتيلًا وتجويدًا، وأتقن علوم العربية، واكتشف أسرارها وألمَّ بخوافيها. وهو رجل صاحب أسلوب خاص يكثِّف من خلاله أخص خصائص العربية، ويضيف إليها من فنه وشخصيته، وهو أيضًا رجل مبدع، كتب في الرواية والقصة القصيرة، والنثر الفني عمومًا، وأيضًا في الشعر وتحليل المسرح. وهو أيضًا صاحب أفكار رائدة في قراءة الشعر وتاريخ الأدب، وفي الفكر وعلوم الاجتماع، والفكر السياسي والإصلاح الاجتماعي.. إلخ.
صاحب ريادات واكتشافات لم يُسبق إليها في درس وقراءة الشعر الجاهلي، والشعر العربي عبر عصوره القديمة والوسيطة، والشعر المعاصر، والتراث القصصي. وهو أيضًا صاحب مواقف ريادية وسباقة، سواء في السياسة أو الفكر، أثارت الجدل واستفزت العقل العربي.
وقد كان أيضًا صاحب قدرات إدارية وقيادية قد ظهرت آثارها في الجامعة وفي الوزارة وفي المجتمع، وفي كثير من المجالات التعليمية والثقافية، وفي الترجمة وتحقيق التراث. وهو فوق كل ذلك صاحب منهج خاص شكَّل من خلاله مدرسة، امتدت في أرجاء الوطن العربي، وشكَّلت الإنسان العربي، ولا تزال حية في عقول تلاميذه وخلال مؤلفاته.

- 3 -
وأزعم أنه مع انتباه الوعي الذاتي لكاتب هذه السطور لقيمة طه حسين وأدواره المتعددة والكبرى، أدركت أن قيمة طه حسين الكبرى، في ظني، أنه استطاع في لحظةٍ مبكرة، في السنوات الأولى من القرن العشرين، إدراك لُبِّ الأزمة التي يعانيها مجتمعنا؛ مجتمع يحيا مشكلات عالم قديم في زمن حديث، أدرك طه حسين أننا ندق على أبواب العالم الحديث، ظاهريًّا، ونحن محملون حتى النخاع بقضايا وهموم عالم مضى وانتهى.


وشعرتُ بأن ثمة مسئولية أدبية وأخلاقية، قبل أن تكون فكرية وثقافية ومعرفية، في ضرورة الإلحاح (بل التشديد في الإلحاح) على إعادة «التعريف»، و«تجديد» التذكير بهذه القيمة التي أعتقد أننا ما زلنا في أشد الحاجة والاحتياج لما مثلته من رمز، وأشاعته من معرفة، ودعت إليه من تجاوز شروط التخلف والتراجع الحضاري والمادي الذي كنا نغرق فيه حتى الثمالة!


ومن هنا، اتخذ الاحتفال السنوي بذكرى رحيل عميد الأدب العربي، في الثامن والعشرين من أكتوبر من كل عام، مناسبة حافزة وضرورية على إعادة تأمل وتمثل بل استعادة سيرة طه حسين الإنسانية والفكرية والثقافية، والبحث في جانب أو أكثر من جوانب إنجازاته الضخمة ومسيرة حياته الزاخرة. بل الدعوة الملحة في ضرورة التذكير والتجديد ب طه حسين على كل المستويات.


وكان كتابي الصادر في يونيو الماضي عن عميد الأدب العربي، ثمرة هذه الدعوة التي يعلم الله أنها كانت خالصة من قلبي.


وعندما تحل ذكرى الأستاذ العميد، فإن عديدًا من الألقاب والأوصاف يبرز على الفور في الفضاء الثقافي الذي مارس فيه طه حسين إنجازه الضخم؛ لقد وصف بحق بأنه «مؤسس النهضة الأدبية الحديثة»، و«واضع بذور العقلانية والتفكير النقدي في ثقافتنا العربية المعاصرة»، و«أحد الكبار الذين حملوا عبء الحلم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية الحديثة».


وهذه مجرد أمثلة فقط على ما يصعب حصره واستقصاؤه من الألقاب والأوصاف والتمييزات، بتعدد الأشخاص والزوايا ووجهات النظر التي تناولت حياة العميد أو جوانب من فكره ومشروعه الثقافي والحضاري الزاخر

- 4 -


لقد استطاع طه حسين أن يمسك بمفاصل الثقافة العربية، منذ العصر الجاهلي وحتى القرن الثاني عشر الهجري في أعلامه وكتبه ونصوصه الكبرى؛ من «الشعر الجاهلي» وأدبه إلى «حديث الشعر والنثر»، إلى «حديث الأربعاء»، وصولًا إلى «ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية»، فضلًا على تناولاته التحليلية المعتبرة لكل من المتنبي وأبي العلاء وابن المقفع والجاحظ والتوحيدي، إنه بحق، وكما وصفه المرحوم عبد المنعم تليمة، قدم للثقافة المصرية والعربية ما يمكن تسميته بـ«بيان شامل للنهضة والتحديث». ربما كان الأهم والأكثر إحداثًا للجدل والنقاش في مصر والعالم العربي في القرن العشرين.


وبقدر ما كان مشروع طه حسين الثقافي، يقوم في جوهره على الاحتفاء بالعقل والعلم وقِيم التنوير والحداثة والنهضة، بقدر ما كان يمثل في الوقت ذاته احتفاء بالاختلاف والتنوع والتعددية والتسامح.


تقريبًا، كل الشخصيات الإبداعية والثقافية الكبرى، في تراثنا الفكري والأدبي، كتب عنها طه حسين كتابةً مرجعية تأسيسية، دراسة أو أكثر، ما زالت تحتفظ بقيمتها وأهميتها حتى اللحظة (مع الاعتراف بأن جهودًا أخرى قد تجاوزت بعض ما فيها من نتائج أو آراء).
في الشعر، كتب عن شعراء الجاهلية، وشعراء الغزل العذري، وشعراء المجون والهزل. كتب عن المتنبي، وأبي تمام، والبحتري، وأبي العلاء، وراجع كتبه الأصيلة «مع المتنبي»، و«تجديد ذكرى أبي العلاء», و«مع أبي العلاء في سجنه»، و«تعريف القدماء بأبي العلاء»، و«صوت أبي العلاء».

كتب عن ابن المقفع، والجاحظ، والتوحيدي، وابن العميد، وابن خلدون.. وقارن بين أبي العلاء وكافكا، وبين ابن حزم الفقيه الظاهري الأصولي وبين ستندال الفرنسي، قارن بين كتابيهما «طوق الحمامة» و«الأحمر والأسود»، وعرَّف بأعلام الأدب الأمريكي، والفرنسي، والألماني، حتى وقته.


كتب عن ابن مضاء القرطبي، وكتابه «الرد على النحاة»، وقدَّم رؤية تجديدية [جريئة] لعلم النحو العربي، وكتب مقدمة رائعة لكتاب زميله إبراهيم مصطفى «إحياء النحو»، صاحب أول محاولة لتيسير النحو العربي وطرق تدريسه، وقدم أيضًا في هذه الدائرة واحدة من دراساته العميقة المثيرة للجدل والنقاش عن «استخدامات الضمير في القرآن الكريم»، وكتب دراسته التأسيسية الملهمة (تاريخ البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر) التي تعد بحق أوفى تلخيص وتكثيف لمسيرة البلاغة العربية، والنقد العربي القديم.

- 5 -


وغطَّى طه حسين، ولأول مرة في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، دراسة الأدب العربي في عصوره المتعاقبة، منذ الجاهلية، وأبرز أعلامه شعرًا ونثرًا في القرون الخمسة الأولى للهجرة، وراجع مصداق ما أقول في كتبه ذائعة الصيت؛ «في الأدب الجاهلي»، و«من حديث الشعر والنثر»، و«حديث الأربعاء» (الجزءان الأول والثاني)، و«من أدبنا القديم».. إلخ.


لن أُحدِّثك عن أعماله الرائدة في الرواية، والقصة، والسيرة الذاتية، والنصوص الأدبية الخالصة؛ فهي أشهر من أن يُشار إليها، ولكنها لا تمثل في نظري، على قيمتها وأهميتها وجمالها، سوى شريحة محدودة للغاية من أثر طه حسين الأكبر والأوسع دائرة في الفكر العربي، والتربية والتعليم، والاجتماع، والنقد الأدبي، والنقد الفكري بمعناه الشامل، والدراسات التاريخية التحليلية، والترجمة، وتحقيق التراث وتيسيره وتقريبه، والتنمية الثقافية واللغوية الشاملة، ونظراته التجديدية في كل المجالات السابقة. فضلًا على أجيال من التلاميذ الذين صاروا بدورهم أساتذة وأعلامًا وأسماء كبيرة في الثقافة المصرية والعربية.


في ذكراه الـ 48 التي تحل اليوم (الخميس 28 أكتوبر) تحية للعميد الأستاذ الدكتور طه حسين الذي أحضر لنا الشمس والنور رغم أنه عاش عمره كله في الظلام..

أضف تعليق