فى الوقت الذى شهدت ترسانة الأسلحة التقليدية تطورًا كبيرًا، لمواكبة التطور التكنولوجي، كانت ترسانة المصفوفة الخوارزمية تستعد هى الأخرى لدخول المعركة، وبات سلاح الحرب السيبرانية أحد أسلحة المواجهة؛ ليس الأمر ببعيد فمنذ بداية القرن الماضى وبعض معارك الحروب السيبرانية تدور رحاها وتتطور يومًا بعد يوم.
ومع نهاية شهر يناير 2022 وبالتحديد يوم الإثنين الماضى وخلال جلسة عاصفة بمجلس الأمن الدولى دعت إليها الولايات المتحدة الأمريكية لحشد الموقف الدولى تجاه الأزمة الأوكرانية، دارت معركة من التصريحات والاتهامات المتبادلة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا حول حرب وشيكة تحشد لها روسيا على حدود أوكرانيا مما يهدد الأمن والسلم الدوليين.
تحولت الجلسة إلى مجرد تبادل للاتهامات بين «ليندا توماس جرينفيلد» سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ونظيرها الروسى «فاسيلى نيبينزيا» ولم يخرج الاجتماع بالقرار الذى استهدفته واشنطن.. وهو فرض مزيد من العقوبات على روسيا، بعد أن استخدمت روسيا والصين حق الفيتو أمام القرار الأمريكي.
(1)
تروج وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية للمشهد على الحدود الأوكرانية مع روسيا وروسيا البيضاء على أننا نقترب من إشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة أو حرب خاطفة تستعد لها موسكو لاحتلال كييف – عاصمة أوكرانيا - على الجانب الآخر نجد روسيا وحلفاءها يقدمون المشهد وكأنه أمر طبيعى وأن أرقام الحشد الروسى التى قدمتها واشنطن لدول حلف الناتو وذكرتها السفيرة الأمريكية فى جلسة مجلس الأمن (100 ألف جندى روسى على حدود روسيا البيضاء مع أوكرانيا و30 ألف جندى إضافى أوائل فبراير الجاري) مبالغ فيها.
ومع تبادل الاتهامات بين واشنطن وموسكو ومحاولات حصول أمريكا على دعم أوروبى فى مواجهة روسيا وحشد ترسانات الأسلحة التقليدية الغربية والشرقية على الجبهة الأوكرانية، نجد المشهد يتحول بعيدًا عن المواجهة أو الحرب التقليدية إلى مواجهة جديدة قد تكون أوكرانيا مسرح عمليات تلك المعركة خلال الفترة القادمة بعيدًا عن المواجهة العسكرية المباشرة.
فما زال مشهد سقوط 14 ألف جندى فى المواجهة الأخيرة والتى نتج عنها استقلال شبه جزيرة القرم عالق فى الأذهان، الأمر الذى يتطلب التحرك على جبهة أخرى بدت أول تحركاتها تظهر فى الأفق خلال الفترة الأخيرة عندما تعرضت أوكرانيا منتصف يناير الماضى لأكبر عملية هجوم سيبرانى استهدف 70 موقعًا من المواقع الإلكترونية التابعة لهيئات حكومية وسفارات أجنبية أدى لتوقفها عن العمل، وشملت تلك الهيئات مجلس الأمن والدفاع ومجلس الوزراء ووزارتى الخارجية والتعليم من بين عدة وزارات، وكذلك المواقع الإلكترونية لسفارة المملكة المتحدة والولايات المتحدة والسويد.
كما استهدف الهجوم موقع (Diia) الإلكترونى (وهو نظام أساسى يضم الدوائر الحكومية الأوكرانية، ويُخزّن بيانات شخصية خاصة باللقاح وشهاداته)، بجانب خدمات الطوارئ ومكتب تأمين المركبات.
(2)
خلال التسعة أشهر الأخيرة تعرضت أوكرانيا لأكثر من 1200 هجمة سيبرانية.
وجاءت الهجمة السيبرانية الأخيرة تحمل رسالة تحذيرية للأوكرانيين بثلاث لغات (هي: الأوكرانية، والروسية، والبولندية)، قائلة: «انتظروا الأسوأ.. أيها الأوكرانيون! كل بياناتكم الشخصية باتت محمّلة على الشبكة العامة للإنترنت، وهذا بالنسبة لماضيكم، وحاضركم، ومستقبلكم». كما تضمنت الرسالة عدة رموز، كان من بينها صورة لعلم أوكرانى مشطوب، كما ذُكِر جيش المتمردين الأوكرانى (UPA) الذى انخرط فى حرب عصابات ضد الاتحاد السوفيتى خلال الحرب العالمية الثانية.
وعقب الهجوم السيبرانى مباشرة، عكف المتخصصون على إصلاح الخلل فى أنظمة المعلومات، فيما فتحت الأجهزة الأمنية تحقيقًا موسعًا على الرغم من تضارب التحليلات فى تأويلاتها لتداعيات الهجوم السيبراني.
فى الوقت ذاته أكدت وزارة التحول الرقمى - فى بيان لها - أن عملية التخريب المشار إليها تُشكّل دليلًا على الحرب الهجينة التى تشنها روسيا على أوكرانيا منذ عام 2014؛ كما أشارت إلى أن الهدف لا يقتصر على ترهيب المجتمع، بل يتعدّاه إلى زعزعة الاستقرار عبر تقويض ثقة الأوكرانيين بسلطاتهم.
ومع تطورات الهجمات السيبرانية بدأت تعود للأذهان خطورة تلك الحرب التى قد تدمر دولًا بأكملها دون تحرك جندى واحد على الأرض فتصيب الاقتصاد بالشلل، وتوقف شبكات الدفاع الجوي، بل وقد يصل الأمر إلى تفجير رءوس نووية وإعاقة وسيطرة على كامل المجال الجوى والبحري، وتستطيع عزل دول بالكامل عن العالم، ما جعل دولًا عدة تتنبه لخطورة الأمر.
وكانت حادثة شبكة أنابيب النفط «كولونيال بايبلاين» التى تعرضت لهجوم سيبرانى العام الماضى جعلها تتوقف عن ضخ الوقود مما أحدث أزمة ضخمة فى جنوب شرق الولايات المتحدة.
(3)
بدأ الاهتمام الروسى بالأبعاد السياسية للأمن الإلكترونى بعد تأسيس مجلس الأمن الروسى عام 1992، وإضافة إلى المؤسسات الأمنية الروسية تم إنشاء مؤسسات أخرى تختص فقط بالقضايا الإلكترونية وبحماية الأمن الإلكترونى الروسي.
فى عام 2000، طورت روسيا استراتيجية أمنية تستند إلى الإيمان الكامل بالدور الذى يلعبه الأمن الإلكترونى فى تحقيق المصالح القومية وتعزيز الاستقرار الاجتماعى والسياسي.
وفى عام 2007، شنت روسيا حربًا سيبرانية شاملة على إستونيا بسبب نقل تمثال يخلد تضحيات جنود روس فى الحرب العالمية الثانية، فبدأت سلسلة من الهجمات يطلق عليها «DDOS attacks» ضد المواقع التى تديرها الحكومة الإستونية، وتسبب الهجوم فى عرقلة دخول المواطنين إلى بعض المواقع، ولم يعد المواطنون قادرين على إجراء معاملاتهم البنكية الإلكترونية التى يتم 97% منها عبر الإنترنت، أو التواصل مع بعضهم بالبريد الإلكترونى لأيام عديدة، وتم تعطيل البنية التحتية للاقتصاد الرقمى الإستوني.
ونتيجة لشدة تعقيد هذه الهجمات، وما أحدثته من شلل کامل لكافة أجهزة الدولة، استعانت إستونيا بحلف شمال الأطلسى (الناتو) لمواجهتها.
وفى يناير 2009، توقّف اثنان من مزوّدى خدمة الإنترنت فى قرغيزستان عن العمل، بعد قيام قراصنة روس بشن هجمة (DDOS)، فى إطار الجهود التى کانت تبذلها روسيا آنذاك من أجل الضغط على رئيس قرغيزستان لإزالة قاعدة عسكرية أمريكية، بيد أن تلك الهجمة قد أتت ثمارها بعد قيام قرغيزستان بإزالة القاعدة الأمريكية، وهو ما دفع الكرملين إلى منح قرغيزستان قروضًا ومساعدات مالية بقيمة 2 مليار دولار لاحقًا.
وفى يونيو 2010، ضرب فيروس (Stuxnet) البرنامج النووى الإيرانى وكان وراء انفجار مجمع «نطنز» النووي، فقد كشف مصدر رفيع المستوى فى المجلس الأعلى للأمن القومى الإيرانى فى تصريحات صحفية لصحف خليجية فى ذلك الوقت عن خرق كبير فى شبكة التشغيل والاتصالات فى المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية.
ذكر المصدر الإيرانى أنه بينما كانت الأجهزة الأمنية تحقق فى حادثة «سینا أطهر»، وقع انفجار «نطنز» ليبيّن أن حجم الاختراق كان كبيرًا جدًا، وأن العديد من المنشآت العسكرية والنووية الإيرانية باتت مكشوفة أمام الفيروس.
بدأ تطوير هذا الفيروس وفق برنامج متكامل بين الولايات المتحدة وإسرائيل منذ عام 2005، وهو ما جعل إيران توجه أصابع الاتهام إلى هاتين الدولتين فى ذلك الوقت.
يعمل Stuxnet على مهاجمة أنظمة التحكم الصناعية المستخدمة على نطاق واسع فى مراقبة الوحدات التى تعمل آليًا حيث لا يعمل بشكل عشوائى كما هى العادة، وإنما بدقة شديدة.
بعد اختراق الأجهزة وأجهزة الكمبيوتر، يبدأ الفيروس بالتفتيش عن علامة فارقة تتعلق بأنظمة صنعتها شركة سيمنز الألمانية، وبمجرد وجودها يبدأ الفيروس بتفعيل نفسه للعمل على تخريب وتدمير المنشأة المستهدفة من خلال العبث بأنظمة التحكم؛ وقد تتعدد المنشآت التى يستطيع مهاجمتها من خطوط نقل النفط إلى محطات توليد الكهرباء وحتى المفاعلات النووية وغيرها من المنشآت الاستراتيجية الحسّاسة، أمّا إذا لم يجدها، فيترك الكمبيوتر وشأنه.
ومع تطورات الأوضاع فى شرق أوروبا (الأزمة الأوكرانية) وخوفًا من هجمة سيبرانية توجهها روسيا إلى أوروبا، أعلن رئيس الوزراء «بوريس جونسون» عن إنشاء «قوة إلكترونية» يديرها الجيش بالاشتراك مع وكالات التجسس للتعامل مع التهديدات فى العالم الرقمي؛ ومن المتوقع أن يتشكل الجيش من بضع مئات من الأفراد ليصل إلى (3000 فرد) خلال العقد المقبل، وسيجمع الجيش قدرات بريطانيا الإلكترونية الهجومية فى وحدة مشتركة.
كانت بريطانيا قد شنت عملية إلكترونية سرية لتقويض أيديولوجية داعش وإضعاف مقاتليها فى ساحة المعركة وتعطيل الطائرات بدون طيار والتشويش على الهواتف واستهداف الخوادم لمنع الدعاية عبر الإنترنت وفقا لما ذكرته صحيفة «Financial Times» فى 8 فبراير 2021.
كما خصصت المفوضية الأوروبية فى 5 أكتوبر 2021 نحو 11 مليون يورو لتمويل 22 مشروعًا جديدًا بهدف تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبى على ردع التهديدات والحوادث السيبرانية والتخفيف من حدتها من خلال استخدام أحدث التقنيات فى هذا المجال، فضلًا عن تعزيز قدرات الأمن السيبرانى؛ وذكرت المفوضية فى بيان صحفي، أن «المشروعات، التى تم اختيارها بعد الدعوة مؤخرًا لتقديم مقترحات فى إطار برنامج مرفق التواصل الاوروبى CEF» ستدعم العديد من منظمات الأمن السيبرانى فى 18 دولة من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبي.
إن التطور التكنولوجى السريع أحدث تحولًا كبيرًا فى مفهوم القوة ترتب عليه دخول العالم مرحلة جديدة تلعب فيها هجمات الفضاء السيبرانى دورًا أساسيًا.
خلال 2021، برز تحول جوهرى فى الدفاع البريطانى والسياسة الأمنية، إذ زادت الميزانية المخصصة للتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعى والفضاء الإلكتروني، فيما انخفض التمويل المخصص للمعدات التقليدية.
إن ما يحدث الآن على الحدود الأوكرانية لن يصل إلى المواجهة المباشرة لكن من المتوقع حدوث هجمة سيبرانية موجهة إلى أوكرانيا ودول أوروبا، وهو ما حذرت منه الاستخبارات البريطانية.
لقد أكدت الأرقام فى تقرير القمة العالمية للحكومات أن متوسط الضرر الناتج من اختراق البيانات التى تتحملها أى مؤسسة بلغ
3.6 مليون دولار، وفى تقرير لوكالة «بلومبيرج» ورد أن الهجمات الإلكترونية تشكل تهديدًا كبيرًا لشركات النفط والغاز فى منطقة الشرق الأوسط، مرجحة أن المخاطر السيبرانية شكلت تهديدًا لحوالى 5.2 تريليون دولار من الأصول حول العالم، وذلك من 2019
وحتى 2020.
تلك الحرب التى قد تدمر دولًا بأكملها دون تحرك جندى واحد على الأرض.. فتصيب الاقتصاد بالشلل وتوقف الدفاع الجوي وتفجير رءوس نووية والسيطرة على المجال الجوى والبحري وتستطيع عزل دول بالكامل.