بعد أن قطعت السيارة مائة كيلو متر من الطريق إلى المدينة لاحظت أننا لا نقول شيئًا له معنى: كأننا لا نريد أن نتكلم مباشرة فى معنى الطريق والمعارك الإسلامية على جانبيه.. ولا عن الذى فعلته قريش مع الرسول صلالله عليه وسلم .. فقريش غليظة عنيفة، ويقال إنها سميت قريشًا لأنها مثل سمك القرش تأكل أى شىء.. ويقال سميت قريشا بهذا الاسم من التقرش أى الكسب والتجارة – كسب أى شىء من أى أحد، قال شاعر قديم:
وقريش هى التى تسكن البحر
بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا
تترك لذى الجناحين ريشا
كأننا فى حالة هرب من أن نتحدث فى موضوع محدد.. وإنما نريد أن تبقى فى حالة انتظار لما سوف يفيض علينا بعد قليل.. ولو سألت نفسى عن الذى أعرفه عن المدينة المنورة لوجدت معلومات متناثرة.. وصورا غامضة.. والطريق أمامنا طويل عريض مرصوف وليس رصفا جيدًا.. وليس هذا هو طريق الرسول إلى المدينة.. وإنما طريق الرسول كان ضيقا جبليا صاعدا نازلا.. رأيته عند مدينة الطائف.. ولا أعرف كيف كانت الرحلة بين مكة والمدينة.. ونحن عندما كنا نقرأ أنه هاجر إلى المدينة، لم نكن نعرف أن هذه الجملة القصيرة هى مئات الكيلومترات، وهى الأيام والليالى والتعب والمشقة.
ولم أشأ أن أسأل السائق.. فمن الواضح أنه اعتاد على الطريق، وكلمات: بدر وأحد والخندق ليست إلا محطات فى الطريق.. والسائق أقل انشغالا بكل الذى نقول.. وحتى عندما نزلنا نتوضأ من مساء السيل، لم يفعل.
لا توضأ ولا صلى ولا وجد ذلك ضروريا.. وعلى حافتى الطريق كانت خيام.. لا بد أنها فى هذا الموقع من أيام الرسول.. ولا بد أن الذين يعيشون فيها من أحفاد الذين ناصروه والذين حاربوه.. اقتربنا أكثر.. الأطفال الصغار فى صحة وعافية وملامحهم عربية.. والرجال يرتدون البنطلونات الجينز.. وحولهم علب الكولا والسجائر وتعلقت من رقابهم الراديوهات الصغيرة.. كأنهم خرجوا من كتاب السيرة، أما أدوات حياتهم فهى أمريكية يابانية كالسيارة المكيفة التى نركبها.
قالوا إن الرسول صلالله عليه وسلم بعدما خرج من مكة أظلمت الدنيا، وعندما دخل المدينة أضاءت الدنيا، وكما كانت مكة حرم إبراهيم، ف المدينة حرم محمد، وكانت أحب المدن إليه، وفى كتب السيرة أن للمدينة مائة اسم: دار الأبرار.. وقرية الأنصار.. وقبة الإسلام.. والمباركة.. والمجبورة والمحبورة – أى المسرورة.. والشافية.. وفى الحديث أن الله أمرنى أن اسمى المدينة طابة.
فاسمها الطيبة أى الطيب والطيبة أو التى نزل بها ومات فيها الطيب.. وسميت العاصمة التى عصمت المهاجرين من الكفار.. وسميت القاصمة التى قصمت ظهر كل جبار عنيد.. وسميت العراء – أى العذراء التى لم يعتد عليها أحد.. وسميت الغراء.. وسميت المرحومة لأنها دار المبعوث رحمة للعالمين.. وفى حديث قدسى قال الله: يا طيبة.. يا طابة.. يا مسكينة.. إلخ.
والرسول عليه السلام قد دعا للمدينة أن يبارك الله فيها وفى أهلها.. وقال أيضًا: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله فى النار كذوب الرصاص أو الملح فى الماء.
وكل المدن قد فتحت بالسيف إلا المدينة فقد فتحت بالقرآن.
وفى القرآن الكريم: وقل ربى ادخلنى مدخل صدق.. وأخرجنى مخرج صدق.. فهو خرج من مكة وهى صدق، ودخل المدينة وهى صدق.
وقد تحدث الرسول عن تراب المدينة وهوائها وتمرها وأهلها، وقد حرم الرسول فيها القتل والقتال، وحرم فيها قطع الشجار وقال: من قطع شجرة فليزرع نخلة.
سألت السائق: هل تعرف من أين دخل الرسول المدينة.. وهل مايزال الناس يعرفون أين مدخل المدينة.. وأين كانت بنات التجار وهن ينشدن له:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
فهز السائق رأسه بأنه يعرف.
وأشار إلى شارع ضيق تعالت فيه أصوات السيارات التى تتزاحم وتتضارب مما أفسد علينا أى أمل فى التفكير أو التأمل أو استحضار أية صورة من صور الماضى العظيم.. وكانت أصوات الموتورات وأجهزة التنبيه مثل كرابيج تلسع المعانى التى تحوم حول رؤوسنا.. فلم أعد قادرا على أن أرى أو أسمع أو أتخيل.. كل ذلك تبدد وطار.. سألت السائق: إن كان فى الإمكان أن أترك السيارة وأكمل الطريق على قدمي، فلم يرد، فقد وجد الفكرة سخيفة.. وحاولت أن اشرح له، ولكنه كان مشغولا بالزحام أمامه ووراءه، وقال: المسافة بعيدة بيننا وبين مسجد الرسول!
لا أعرف كم مضى من الوقت حتى وصلت إلى الفندق.. وبسرعة نزلت إلى الشارع.. الناس كثيرون من كل البلاد.. هل الوجوه طيبة سمحة؟! أو أننى أراها كذلك؟.. أو أحب أن أراها كذلك؟!
من الهند وأندونيسيا ومن إيران، من تركيا ومن إفريقيا.. المصريون بوجوههم التى أعرفها وأصواتهم العالية.. ووجدت مقهى وجلست، تشرب إيه.. قلت: ماء زمزم.. فضحك الجرسون: تشرب ماذا؟ قلت: قلت له.. فأجاب ضاحكا: إن الرسول صلوسلم عليه قد جعلنا نحب المدينة ولو أمرنا أن نسف ترابها لفعلنا.. فقد وصف تراب هذه المدينة لعلاج الأمراض الجلدية.
هل المدينة نورها شديد.. ما الذى يضىء فيها أكثر من مكة.. ما الذى جعل هواءها خفيفا نسيما.. ما الذى ملأها عطرا.. ما هذه الوضاءة فى كل الوجوه.. ما هذا السناء.. سبحان الله.. كيف رضيت نفوسنا عن الدنيا حولنا فأصبح كل شىء هو مفرادات من النور.. الناس نور يمشى والفاكهة ثريات من النور أشكالا وألوانا.. إنه الصوت والصوت.. فكل صوت له صدى إلا فى المدينة فكل صوت له صوت.. ثلاثة أصوات.. أربعة.. خمسة.. كما أنه لا ظلال.. وإنما نور فقط.. فكذلك لا أصداء.. أصوات فقط.. من أين تجىء؟ ما رأيك أننى لم أجد أحدًا قد ترك مكانه وذهب للصلاة.. ولا أحد أغلق دكانه وذهب للصلاة.. واندهشت جدا لذلك.. فسألت الجرسون: لا أحد يصلى هنا؟!
-لماذا والعياذ بالله؟!
-أليس هذا آذان العصر؟
-العصر؟ ليس قبل نصف ساعة..
-لا.. ليس بعد!
تصور أنه لم يكن هناك آذان.. وأنا أنا تخيلت ذلك.. كأنه خرج من أعماقى إلى أذنى.. إلى الدنيا حولى.. سبحان الله كيف ذلك.. ووجدت على الترابيزة طبقا من التمر.. فالجرسون عندما وجدنى لا أعرف ما الذى أشربه أتى بهذا الطعام الذى أحبه الرسول صل الله عليه وسلم ودعا إلى التمر وإلى العجوة.. وأكلت وأكلت.. فأضفت حلاوة التمر إلى حلاوة كل شىء.
سألت جارى: من أى البلاد؟
قال: من الفلبين.
أنا زرت بلادكم.
أين؟
مندناو.. ورأيت المسلمين هناك.
لا أريد أن أعود.. لقد بعت كل ما عندى وأقمت فى المدينة إلى جوار الرسول منذ عشر سنوات.
وعملك؟
لا أعمل.. ولا أريد.. فقد عملت كثيرا وكسبت كثيرا.. وتركت لأولادى كل ما كسبت.. وجئت أموت هنا..
وماذا تعمل؟
فى حضرة الرسول وإلى جواره ومن أجله.. أنت لست فى حاجة إلى عمل.. أما الطعام فموجود.. ولا أعرف كيف أجد طعامى وملابسى.. وكيف أننى لم أعد أفكر فى أولادى وبلدى.. إننى هنا فى إجازة من كل شىء.. وجئت وكنت اشكو من سبعة أمراض.. وأنت ترانى أبدو أصغر منك.. كم عمرى فى رأيك؟
خمسون.
لا والله.. ثمانون غدا!
أنت لم تذهب إلى مسجد الرسول؟
تمنيت طول عمرى أن أكون هنا، ولكن يا أخى غير قادرنفسيا.. إننى احتاج إلى بعض الوقت لكى أتأهل نفسيا.. لكى أستعد وجدانيا.. ألست ترى أن الإنسان لكى يقابل صاحبا فإنه يقابله بملابس البيت.. وإذا أراد أن يقابل وزيرا فى مكتبه، فلا بد أن يرتدى البدلة.. وإذا كان فى لقاء ملك فلا بد أن يرتدى ملابسه كاملة.. وأن يستعد لهذا اللقاء وما سوف يقول.. ولا بد من طريق طويل قبل أن يصل إليه.. فما بالك إذا كان اللقاء مع أعظم مخلوقات الله.. ذلك العظيم الرائع الذى هو تاج على رأس البشرية.. صاحب الدعوة.. وصاحب الهجرة وشفيعنا يوم القيامة.. إن النبى صلالله عليه وسلم كان يذهب إلى غار حراء لكى يتم إعداده واستعداده لهبوط الوحى.. للقاء جبريل.. فكيف نحن.. إننى ما أزال أتهيب الطريق إلى مسجد الرسول.. والمسجد.. والروضة الشريفة.. والأرض العامرة التى دفن فيها وإلى جواره أبو بكر وعمر.. والحجرات التى عاشت فيها أمهات المؤمنين.. صعب على النفس أن تتلقى كل هذه الفيوضات دفعة واحدة! وأنت ماذا فعلت؟
-أنا لم أفكر فى كل هذه المعانى.. ولو فكرت مثلك ما ذهبت.. أنا فعلت ما نفعله نحن مع أطفالنا إذا أردناهم أن يتعلموا السباحة.. إننا نلقى بهم فى الماء ونترك لغريزة حب البقاء أن تعلمهم كيف يكافحون من أجل البقاء.. أنا ألقيت نفسى فى خضم البركات والضياء.. وكان أول يوم صعبا.. لا أعرف كيف أصور لك.. لقد غرقت فى خضم من الماء، ولم يكن ماء.. ألقيت بنفسى فى قرص الشمس، ولم يكن حارقا، قفزت من أعلى الشجرة وهبطت إلى الأرض سالما.. أو إننى لم أهبط حتى الآن.. ولا أعرف حتى اليوم، كيف كانت النار بردا وسلاما، وكيف كان الهبوط ناعما، أو كيف نبت الريش فى ذراعى فلم أسقط، فلا أزال فراشا يحوم حول نور النور وبركة البركة وسيد الخلق.. إننى، كما قلت لك أستاذ الفلسفة بجامعة جاكرتا.. ولكن ما الفلسفة؟ هى دروع كملابس العصور الوسطى.. فما حاجتى إلى كل ذلك وأنا لم آت محاربا الرسول وإنما مستسلما.. خلعت دروعى وملابسى وظنونى وفلسفتى.. فأنا لست عاريا وإنما كأننى.. ولست جثة هامدة، وإنما كأننى.. ولست منهارا، وإنما كأننى.. فهذه هى النشوة الغامرة التى تجعلك ذرة من العطر أو من الضوء أو من العدم.. أذهب وقف عند بابه ولا تسأل شيئًا.. فقد منحك الله كل شىء.. انهش.. فأنا أيضًا أريد أن أفقد وجودى فى وجوده، وأن أذوب فى محيطه، وأن أتلاشى فى حضرته.. تعال نستدرج أنفسنا إلى الموت الأبدى الذى هو حياتنا فى سر هذا الوجوده!
وفى الليل التقينا فى جانب بعيد من مسجد الرسول. رأيته وجلست إلى جواره، هل قال شيئا؟ لم يقل. هل قلت؟ ولا أنا.
قلت: كنت أتصور أننى رجل متماسك العقل قوى المنطق.. لا أكاد أفكر فى شىء حتى أتحول إلى عنكبوت أفرز خيوطا من المنهج والمنطق والتنظير والأرقام.. وتتحول الخيوط إلى شوارع لها علامات بيضاء.. لها أرقام، ولها علامات أحمر وأصفر وأخضر.. وأنا عسكرى مرور بصفارة، وفى يدى دفتر صغير لتسجيل المخالفات.. ولكن لم أعرف إن فى داخلى طفلا متمردا.. أو رجلا ضعيفا.. أو أننى اكتشفت أن الذى فى داخلى هو الحقيقى.. حقيقى.. أما الذى يراه الناس وأراه فليس إلا ممثلا بارعا.. اعتاد على أن يقوم بدور عسكرى المرور وضابط المباحث ورجل المخابرات وعالم النفس والطبيب.. فكل شىء لا بد من ضبطه وربطه وتسجيله فى ورقة، وكل ورقة روشته نفسية وجسمية وعقلية.. فكل ما كان أدخله هو معمل.. وكل شىء أكتبه هو محضر أو تقرير أو تحليل.. ولكن هنا انهدم المعمل.. وأزيلت علامات المرور ودفتر رجل المرور وروشتة الطبيب وأجهزة تصنت رجل المباحث والمخابرات، والكرسى الطويل الذى يجلس عليه المريض يعترف.. لا شىء من ذلك.. وإنما خرج منى واحد آخر لا أعرفه.. لا أعرفنى.. إننى احتاج إلى وقت لكى أعرف هذا الوجه الآخر.. هذا الكائن النورانى الذى أنا لست إلا ظلا له.. شبحا له.. مزورا لصوته.. ومزيفا لحقيقته.. وأنت؟
-أنا غيرت اسمى وغيرت اسم البلد الذى جئت منه.. وأقول الآن إننى لم أتزوج.. ولم أدخل مدرسة.. ولا تعلمت.. ولا تألمت.. ولا تقلبت بين النظريات.. ولا تالبت عليها.. ولو جاء سقراط حافيا فى المدينة ما اقتربت منه.. وأنا الذى أضعت من عمرى عشرين عاما أتمسح فى تراب سقراط وأجمع أشتات نصائحه ومعاركه فى كل كتب التاريخ.. إننى أعرف عشر لغات.. ولكنى لا أتكلم إلا العربية.. ولن أتكلم غيرها.. هل أنا فى حالة حرب مع نفسى؟ أبدًا.. أنا وجدت نفسى فاحببتها.. ووجدتها فى حضرة الرسول صل الله عليه وسلم فازدادت حبا لنفسى ولحضرة الرسول.. وأنت ما الذى يضطرك إلى أن تعود إلى بلدك.. ماذا لك.. ماذا يهم؟ من هو الإنسان الذى أنت ضرورى له؟ لا أحد.. صدقنى.. لا أحد.. لقد عاشت الدنيا بغيرك.. وتعيش بغيرك.. أنت ضرورى لنفسك فقط.. كل الدنيا كذب فى كذب.. ونحن إن لم نكن من ملوك الكذب، فنحن من أمرائه.. وإن لم نكن من أمرائه، فنحن حاشية الكذب.. ما الذى تخسره لو بقيت هنا؟ فقط تخسر الأبيض والأحمر والماكياج
الضرورى للدور الكاذب الذى تؤديه كل يوم.. فأنت أب كاذب وزوج كاذب ومفكر كاذب.. وكذلك زوجتك وابنك وأخوك.
وكما ينجح الممثل بقدر براعته فى الكذب، فكل الناس ممثلون.. فلا يوجد صدق.. وإنما كله كذب.. ولا يوجد إلا ممثل ردىء وممثل جيد.. المطرب الذى يغنى ويتقطع وهو يغنى ويبكى من حنجرته، إنه لا يبكى ولا يحزن.. إنه لا يختلف كثيرا عن الندابة.. إنها براعة فى إبكاء الناس، وهى لا تبكى.. ما الذى تعرفه الندابة الفرعونية عن الفقيد الغالى؟ لا شىء.. ولكنها قادرة على تذويب أولاده وزوجاته حزنا عليه.. ثم ما حاجة أهله إلى من يبكيهم عليه؟ إنهم أيضًا فى حاجة إلى ندابة كذابة تجعلهم يبكون ويبالغون فى البكاء عليه.. كذب فى كذب.. صدقنى إننى أدعوك إلى نفسك.. إننى أريدك أن تنفرد بأعز الناس عليك فى هذه المدينة المباركة، أن تنفرد بنفسك!
ثم نهض فسألته: إلى أين؟ فقال: أخشى أن أتحول إلى ناصح لك.. والنصح هو بداية الكذب!
سألت الجرسون: أين ذهب الرجل الذى كان يجلس هنا.. وهل هو يتردد عليك كثيرا؟
-رجل كان يجلس هنا؟ لم يكن أحد.. وإنما أنا الذى جلست إلى جوارك واستمعت إليك، ولا أعرف ما كل هذا الذى تقوله.. يبدو أنك متعب تماما.
-فعلا أنا تعبان جدا.
-هل تشرب؟
-شكرا.
-هل تأكل؟
-شكرا.
-هل تذهب للصلاة؟
-نعم.
-ولكنى نبهتك كثيرا إلى أن موعد الصلاة قد حان.. ولكنك كنت غائبا.. أو فى غيبوبة.. هل أنت مريض؟
-كأننى.
-هل أدلك على طبيب؟
-أنا طبيب.
-باب النجار مخلع.
-((((((((((((((((لولا)))))))))))) أننى لا باب ولا نجار ولا مخلع.. ولا حتى طبيب.
(هذه فتافيت الكوب التى سقطت من يده).
شىء واحد أنا على يقين منه.. هو أننى فى كل مرة اقترب من مسجد الرسول.. وأخلع حذائى وأتركه عند الباب.. أحس أننى خلعت أحمالا ثقيلة.. شيئا أثقل من الحذاء.. شيئا فى دماغى.. على أكتافى.. فى دمى.. ولكنها جميعا تتخذ شكل الحذاء.. احتقارا لها.. أو أنها يجب أن تكون فى القدم لا فى الرأس ولا فى القلب.. أو أنها يجب أن تكون فعلا فوق الأرض.. لا أضع دماغى فيه وقلبى وعلاقاتى وحياتى.. شىء واحد أنا على يقين منه، هو أننى أصبحت أخف وزنا.. وهى حالة تشبه الموت.. فالموت هو أن يخرج الإنسان من ملابسه.. من جلده.. من حذائه.. من قوالبه.. من كثافته.. وكل ما فى دنيانا كذب.. الموت فقط هو الحق.. وهذه الحالة كأنها الموت.. كيف يموت الإنسان فى كل مرة يدخل المسجد، كيف يسترد حياته عندما يخرج منه.. كيف ميت وليس ميتا؟ كيف هو شعاع وليس كذلك.. كيف هو يمشى فوق الأرض ولا يبرح الأرض؟!
بصراحة لا أعرف.. ولم أعرف.. وقد حاولت أن أرى على بعد، وأن أشم من بعد.. وأن أحسب.. وأن أزن.. وأن أقيس.. وأن أقوم بتنظير كل هذه المعانى.. وأن احتويها فى أوعية لفظية أو منطقية.. حاولت.. ولكن لم أستطع.. إن الذى أشعر به وقد ملأنى من الصعب أن اختصره.. من الصعب أن أحتضنه.. أن أحدده.. وهذا هو الفرق بين طبيعة التراب والنور.. بين كل البشر وهذا الإنسان الفريد فى كل صفاته.. لقد حاول كثيرون ونجحوا.. ولكنى حاولت ولا أزال.. وأملى أن أنجح.. وفى المرة القادمة فليساعدنى الله.. لعلنى.
تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر بتاريخ العدد"703" 15 أبريل 1990 ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر