تتلاحق الأحداث فى شرق أوروبا وتتسارع معها تصريحات المسؤولين على الجانبين.. روسيا من جانب و أوكرانيا وعدد من قادة دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر.
حالة من الترقب العالمى والحذر من الخطوات القادمة والتى زادت حدتها وارتفعت درجة حرارتها لتحول المنطقة المتجمدة فيما بعد الحرب الباردة وعقب سقوط الاتحاد السوفيتى وتفكك جمهورياته فى سبتمبر 1991.
تسارع فى الأحداث جعل وسائل الإعلام تتحول بالكامل إلى شرق أوروبا لمتابعة تطورات الأوضاع هناك وسيطرت صورة «ساحة الاستقلال» وسط العاصمة الأوكرانية «كييف» على شاشات استوديوهات الأخبار. البعض ذهب إلى هناك فى انتظار حرب «عالمية ثالثة» كما ذكر له بعض المحللون، بينما ذهب البعض الآخر ليكون أحد أدوات المعركة، وآخرون يتابعون تطورات الأوضاع ولديهم قناعة أن الأمر لن يتعدى حدود أوكرانيا.
لكن الوضع المتسارع للأحداث، خاصة بعد اجتماع بوتين بمجلس الأمن الروسى الإثنين الماضى وإعلانه اعتراف بلاده باستقلال دولتى «لوجانسك – ودونتسيك» (تلك المنطقة التى يسيطر عليها الانفصاليون منذ عام «2014» ضمن إقليم دونباس شرق أوكرانيا، ومعظم سكانها من الناطقين بالروسية.
عقب الإعلان أذاع التلفزيون الروسى مراسم توقيع معاهدات صداقة وتعاون مشترك بين موسكو والدولتين المعترف بهما من جانب واحد.
تسارعت وتيرة الأحداث وارتفعت حرارتها ليذوب الجليد فى شرق أوروبا بشكل غير متوقع جعل بعض المحللين يقف كثيرا قبل الحديث عن تطور المشهد، لكن الجميع اتفق أن المشهد لن يدفع بنا إلى حرب عالمية ثالثة كما يحاول البعض ممن يأخذون الأحداث إلى منطقة أبعد من الواقع.
هنا علينا أن نتوقف قليلًا لنرى المشهد فى أوكرانيا بصورة أوضح ودقة أكبر، ولنفهم لماذا تسارعت وتيرة أحداثه بهذا الشكل، الأمر الذى جعل البعض - ممن كانوا على يقين أن الحرب العالمية الثالثة لن تحدث - تتذبذب آراؤهم وباتوا غير واضحى الرؤية، خاصة بعد نشر الصور ومقاطع الفيديو للعملية العسكرية الروسية داخل أوكرانيا، والتى شملت شرق وشمال وجنوب أوكرانيا.
عمدت وسائل الإعلام الغربية إلى تقديم صورة للاجتياح الروسى على أنه مرحلة للتقدم نحو دول أخرى إلى جوار أوكرانيا كانت قبل 1991 ضمن دول الاتحاد السوفيتي، وأن كل ذلك مقدمة لاستعادة حلم الإمبراطورية السوفيتية، وهو ما نفاه بوتين.
وما بين تصريحات موسكو والغرب نتوقف عند عدد من النقاط المهمة لنستوضح تأثير ما يحدث فى شرق أوروبا على العالم.
هنا لابد أن نفرق بين تأثير تلك الأحداث على الدول الكبرى، وتأثيره على الدول النامية أو ما يعرف بدول العالم الثالث، فى ظل الآثار التى لم تنته بعد جراء جائحة كورونا.
(1)
استطاعت روسيا خلال الأشهر الأخيرة أن تختبر رد فعل أوروبا وأمريكا من خلال التحركات الغربية، وأن ترى المسار الذى من الممكن للغرب السير خلاله حال حدوث الأزمة.
وهنا حددت إدارة الرئيس بوتين خطوات تحركاتها باتجاه الأزمة الأوكرانية، وما هى البدائل والحلول المتاحة، فى ظل وجود الحركات الانفصالية فى شرق أوكرانيا منذ 2014 فى منطقة دونباس وإعلان الدولتين (لوجانسك ودونتسيك) من جانب واحد.
كان هؤلاء بمثابة أحد أوراق التحرك المهمة من جانب موسكو لتحقيق أهدافها بشأن أوكرانيا، ومنع وصول الناتو إلى حدود روسيا.
فكانت ورقة إعلان الدولتين فى شرق أوكرانيا وتوقيع معاهدات التعاون المشترك التى استخدمها بوتين بمثابة المدخل الشرعى للقيام بالعملية العسكرية الروسية داخل الأراضى الأوكرانية.
وهنا يبرز الدور الذى من الممكن أن تلعبه الحركات الانفصالية فى التأثير على استقرار الدولة الوطنية، والحفاظ على وحدة أراضيها.
(2)
جاء تقدم أوكرانيا بطلب الانضمام لحلف الناتو العام الماضى بمثابة رفع لمستوى درجة حرارة الأزمة مع روسيا، ففى أبريل من العام الماضى جاء تصريح الرئيس الأوكرانى فولوديمير ويلينسكى خلال زيارته لباريس فى مقابلة مع صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية: «لا يمكننا البقاء إلى أجل غير مسمى فى غرفة انتظار الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى الناتو».
هنا ارتفعت وتيرة الأزمة وأدركت روسيا خطورة ما يحدث من تمدد لحلف الناتو باتجاه حدودها الغربية التى لم تهدأ منذ 2014 وعقب أزمة «القرم».
كما أن التحرك الأوكرانى باتجاه الناتو قد يجعل روسيا محاصرة، خاصة أن انضمام أوكرانيا قد يتبعه انضمام جورجيا.
وبذلك تنجح واشنطن وحلفاؤها الغربيون فى القضاء على وريث الاتحاد السوفيتى وتقويضه، وهو ما يدركه الرئيس الروسى فلادمير بوتين، فكان رد الفعل سريعًا وتقدير الموقف أكثر سرعة واستعدادًا.
فى الوقت الذى تحرك فيه الرئيس الأوكرانى باتجاه الاتحاد الأوربي، استغلت موسكو المناوشات العسكرية بين كييف وجمهوريتى لوجانسك – ودونتسيك الشعبيتين والناطقتين بالروسية لتكون بمثابة ذريعة لدخول أوكرانيا وقطع الطريق على الناتو.
منذ الخميس قبل الماضى ومع تلاحق الأحداث وعقب الجلسة الثانية لمجلس الأمن التى فشلت فيها واشنطن فى الحصول على قرار من المجلس باتخاذ إجراءات دولية حيال موسكو، أدرك بوتين أن توقيت المواجهة يحتاج لخطوة سريعة بعد نجاح الحرب السيبرانية التى كانت بمثابة تمهيد للتحركات العسكرية.
هنا بدأت ترتفع وتيرة التصريحات ما بين واشنطن وموسكو، بل وفى أوكرانيا والاتحاد الأوربي.
وعقب توقيع اتفاقيات التعاون مع الجمهوريتين المعترف بهما من جانب موسكو فقط كانت العملية العسكرية تحت دعوى تأمين الدولتين ونزع سلاح كييف حتى لا تواصل الاعتداء على الدولتين الناطقتين بالروسية.
جرى خلال الـ24 ساعة الأولى من الهجوم الروسى باتجاه شرق أوكرانيا السيطرة على مدينة تشيرنوبل وتدمير 83 موقعًا عسكريًا أوكرانيًا ما بين مطارات وقواعد جوية ودفاع جوى ومراكز عسكرية، كما تم إسقاط مقاتلتى Su- 27، ومقاتلتى Su- 24 وطائرة هليكوبتر وأربع طائرات هجومية بدون طيار من طراز (بيرقدار TB- 2) تابعة للقوات الأوكرانية.
كما تم توجيه هجوم سيبرانى على أنظمة الدفاع الجوى فى أوكرانيا، ما أدى إلى تعطلها فى مواجهة العمليات العسكرية.
كما حرص الجانبان الروسى والأوكرانى بمعاونة الغرب على استخدام الإعلام فى نشر نتائج العمليات العسكرية من الجانبين بحسب وجهة نظر كل منهما، فعمدت رويترز والفرنسية والأسوشيتد برس إلى تقديم صورة للعمليات الروسية تظهر الجانب الروسى وكأنه قام باجتياح شامل لأوكرانيا، وهو ما يجعل الخطر قريبًا من دول الجوار الأوربي، ويعد تهديدًا لدول حلف الناتو فتتسارع وتيرة الضغط على موسكو.
على الجانب الآخر، كانت وكالة الأنباء الروسية وموقع سبوتنك و RT بالعربى تتابع العمليات وتعمل كأحد أدوات الحرب النفسية باتجاه أوكرانيا.
وقد حرص الرئيس الروسى على التأكيد خلال العمليات على أن روسيا لا تستهدف احتلال أوكرانيا وإنما تستهدف حماية إقليم دونباس من الاعتداءات الأوكرانية.
(3)
تبقى النقطة المهمة فى تلك الأحداث، والتى يتساءل الكثيرون عنها: هل ستصبح أوكرانيا بمثابة نقطة البداية لحرب عالمية ثالثة؟
أستطيع أن أقول إن الحرب الهجين التى تقوم بها روسيا باتجاه أوكرانيا لن تخرج عن حدود الدولة الأوكرانية، فقد حققت العمليات العسكرية فى اليوم الأول أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لها، وهى أن روسيا ما زالت تمثل القطب الثانى والقوى فى مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يعد العالم أحادى القطب، كما تروج الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يعد القرار العالمى قرارًا منفردًا.
كما نجحت موسكو فى وقف تقدم الغرب باتجاه حدودها الغربية، فقد باتت دول أوروبا تسعى إلى الحفاظ على حدودها وتتحسب لأى تطور فى القرار الروسي، ما جعلها تنشغل عن مساندة أوكرانيا عسكريًا وتكتفى بالتصريحات وحزم العقوبات ضد روسيا.
لكن على الجانب الآخر كانت المجموعة الغربية وأمريكا أحد أدوات توريط أوكرانيا فى تلك الأزمة، ثم وتوقفوا جميعًا عند حدود التصريحات والتهديد بالعقوبات ضد موسكو، أما الدعم العسكرى فكان خارج أوكرانيا لإدراك الدول الغربية أن الدخول فى مواجهة عسكرية مع موسكو سيكون بمثابة إشعال حرب عالمية ثالثة، وهو ما سترفضه الشعوب الغربية فى ظل تأثير الأزمة على الاقتصاد العالمي، خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط إلى 103 دولارات للبرميل خلال اليوم الأول للعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا.
كما أن أوروبا قد تتأثر سلبًا حال الدخول فى صدام عسكرى مع موسكو، وما قد تتخذه الأخيرة من قرارات بشأن توريد الغاز الروسى لأوروبا، وهو ما يهدد أوروبا بالتجمد، إذ تمد روسيا أوروبا بحوالى 40% من احتياجاتهم من الغاز.
أما واشنطن، فرغم حزمة العقوبات الضخمة التى وجهتها ضد موسكو إلا أنها لم تستطع أن تنتصر فى خطة تقويض القوة الروسية، فقد أعلنت أنها لن تحارب فى أوكرانيا كما أنها تعلم أن موسكو قادرة على امتصاص العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
إلا أن الأزمة قد رسمت خريطة جديدة للعالم تؤكد أن مرحلة القطب الأوحد قد انتهت، وأن عودة روسيا الوريث للاتحاد السوفيتى أسقط الحلم الأمريكى الذى ظنت واشنطن أنها قادرة على الحفاظ عليه بأن يظل العالم أحادى القطبية.
كما كشفت الأزمة وتلاحق أحداثها أن النزاعات الداخلية والانقسامات هى أحد أهم أدوات السيطرة واختراق الدول.
كما وجهت روسيا والصين - حليفتها القوية - صفعة قوية للإدارة الأمريكية.
إننا أمام مرحلة يمكن أن نسميها بالحرب الدافئة القابلة أن تكون ساخنة نسبيًا فى بعض الأحيان، ولكن دون أن تصل إلى مرحلة الانفجار الكامل الذى يهدد السلم والأمن الدوليين، وهى مرحلة ستستمر طويلًا، فالصراع الدولى بين الولايات المتحدة و روسيا لن ينتهي؛ فلابد أن يكون هناك مثل هذا الصراع نظرًا لأن المصالح الدولية والتنافس على كسب مناطق النفوذ سيظل اللغة السائدة فى هذا العالم.