أمانة الرأي والكلام في أجهزة الإعلام

أمانة الرأي والكلام في أجهزة الإعلاممسرحية البغل فى الأبريق

كنوز أكتوبر7-3-2022 | 13:30

هل من حق المخرج أو المعد أو الرقيب أن يحذف بإرادته المنفردة شطرا كاملا من حاديث الضيف المتحدث.. أو أن هذا يعتبر اعتداء بربريا على حق الشخص فى التعبير عن وجهة نظره؟.. قضية مهمة وحساسة أكتب عنها لأنها ظهرت بشكل أكثر من ملحوظ، سواء بالنسبة للأخوة المتحدثين، أو بالنسبة للسادة المستمعين والمشاهدين.

والقاعدة العامة الأصيلة فى هذا الشأن هى أنه من حق المواطن أن يعبر عن وجهة نظره وآرائه بحرية تامة فى حدود ما تسمح به قواعد القوانين.. ومعلوم لدى الكافة أن تلك القواعد قد تحددت بحدود الآداب العامة والنظام العام.

ومادام المتحدث قدم التزاما بتلك القواعد والضوابط، كما التزم أيضا بإجراء الحديث فى حدود المادة المسموح له بها، فإن عملية الحذف تشكل عدوانا ثلاثيا على حرية الرأى، سواء تمت بمعرفة المخرج أو المعد أو الرقيب، ولكن الأمور تجرى فى وسائل الإعلام لدينا على نحو آخر يختلف تماما مع هذا النحو.

وأنا لا أفهم ما هو الأساس المنطقى، الذى يبنى عليه أحدهم أن يمنح نفسه حقا يشكل فى نفس الوقت اعتداء على حقوق الآخرين، بينما أفهم وأعلم أن قواعد التعامل مع أجهزة الإعلام تقر وتعترف صراحة باحترام حقوق السادة العملاء والمتعاملين ولا تمنح أى عامل فى سلكها حق الصلف والدكتاتورية والتعامل مع خلق الله من أعلى عليين.

فى يوم من الأيام قام أحد الزملاء المخرجين بتسجيل إحدى مسرحياتى لإذاعة صوت العرب. وكانت مسرحية "البغل فى الأبريق"، وهى مسرحية أحدثت لغطا وضجة فى ذلك الوقت؛ لأن فكرتها الأساسية قامت على توجيه وجهة نظر ضاربة لتنظيم الاتحاد الاشتراكى، الذى رآه بعض السطحيين نظاما مقدسا ورآه المثقفون والمفكرون تشكيلا معيبا ودخيلا وقائما على غير أساس من الواقع أو المصلحة العامة لجماهير المواطنين؛ ولأن الأخ العزيز الذى قام بعملية المونتاج والتنفيذ قد آثر التعامل مع نص المسرحية طبقا للقاعدة القائلة "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فقد اتكل على الحى الذى لا يموت وتعامل مع النص بحد المقص والنبوت.. وعندما أذيعت المسرحية، فوجئت كما فوجئ المستمعون بأن الفصول الثلاثة قد انكمشت إلى ما يقارب الفصل الواحد وأصبح زمنها ساعة بعد أن كان فى الأصل ثلاث ساعات. وبحثت فى النص المذاع عن شبهة رأى أو وجهة نظر أو حتى مجرد نكتى تتضمن معنى أو مغزى فلم استدل! وعندما سألت الأخ المخرج عن أسباب هذا التصرف الغريب أجابنى بأنه كان حريصا ألا يذهب بسببى إلى داهية! ولم يدر فى خلده أن بتصرفه هذا قد أوقع نص المسرحية فى ستين داهية.

وهناك أجهزة الإعلام، بعض قليل من مدعى الحداقة والوعيان وهم نتيجة لهذا قد لجأوا إلى تقسيم المتحدثين إلى فئات.. وضعوا أصحاب الرأى منهم فى القوائم السوداء.. بمعنى أن مبدأ التعامل مع آرائهم هو سوء النية، والحرص الذى يصل فى حده الأدنى إلى درجة الاتهام والبحث بين الألفاظ عن شبهة الالتواء، وخبث الخبثاء ولؤم اللئام.. وهم لهذا يضعون أقوال هؤلاء تحت المجهر ويتولون تشريحها بالأقلام الحمر، كما يشرح طلبة الطب أجساد الضفادع والصراصير وفئران التجارب.

وأنا لا أفهم سببا لتلك الرعشة والإصفرار الذى يصيب هؤلاء الجهلاء الصغار الذين يلعبون بمقصاتهم ومشارطهم فى وجهات نظر الكبار.. ولا أفهم كيف يكون جبنهم وجهلهم سببا للحذف والبتر بكل بساطة وإصرار، وكيف يصبح من حقهم ألا يفرقوا بين كلام المفكر ونهيق الحمار؟!

والذى أفهمه هو أن الأخ، المذيع أو المقدم أو المخرج، ليس لأى منهم وجهة نظر بل هو على وجه الدقة والتحديد إنسان محايد تنحصر مهمته فقط فى توجيه السؤال وعدم التحيز لوجهة نظر معينة بأى حال من الأحوال، وإذا كان من حقه أن يستطرد فلا يتم هذا إلا بقصد توضيح الرأى أو الاستزاده أو التفسير أو تحديد خط المسار.

والذين يمارسون العمل فى أجهزة الإعلام يعلمون بالقطع أنهم يحملون أمانة التوصيل، وليسوا مكلفين بإبداء الرأى والتفلسف أو الجنوح إلى المشاركة فى التعبير. وهم لهذا يحملون فى رقابهم رسالة الحرص على أمانة الكلمة والحفاظ على حرية الفكر والتعبير. وفى استطاعة أى منهم بدافع الحرص على علاوته ودرجته ومرتبه – أن يمتنع عن استضافة المدرجين فى قائمة المشاغبين من المفكرين. وفى إمكانه أيضا أن يحذف الحديث بأكمله، ولكن ليس باستطاعته ولا بإمكانه أن يتناول الحديث بمعوله ليهدمه ويبتره ويهلهله دون موافقة صاحب الرأى وقائله. وأقول قولى هذا وقد قمت من جانبى سلفا - وكرد فعل شرطى منعكس – بتصنيف الأخوة مقدمى البرامج والأحاديث والمذيعين إلى فئات وطبقات. وأدرجت البعض منهم فى قوائم الممنوعات والمحظورات. وأعتقد أن هذا من حقى بعد أن عانيت كثيرا من تعرض أحاديثى لمقص الحذف وعانيت أكثر من التعامل معهم بأسلوب العسف والشطب والضغط والخسف. فليس معهم بأسلوب النفس من شعورها بأن شخصا ما قد تفضل مشكورا بتزييف رأيى وفكرى، وما أردت من وجهات نظر وأقوال – وهو أمر دونه ضرب الصرم.. وربما ضرب النعال.

تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، بتاريخ 14يونيو 1981، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر

أضف تعليق