ملاحظات على دراما رمضان (2)

ملاحظات على دراما رمضان (2)محمود عبد الشكور

الرأى13-4-2024 | 14:22

سحر « جودر » وحكاية « فراولة » وأزمات « بدون سابق إنذار »

انطلقت فى النصف الثاني من رمضان عدة مسلسلات جديدة ، ولا شك أن ذلك منح دراما الشهر الكريم حيوية بالغة ، وكانت السمة الواضحة فى وجود نوعيات مختلفة ، فمن دراما وطنية تاريخية سياسية بثوب معاصر مثل مسلسل " مليحة " عن القضية الفلسطينية، انتقلنا إلى إنتاج ضخم فانتازي أعاد عالم ألف ليلة ولية فى صورة قوية ومبهرة من خلال حلقات "جودر"، وصولا إلى الدراما الاجتماعية "بدون سابق إنذار"، التي تتعرض لقضايا شائكة ، ومسلسل " فراولة " الذي يناقش قضية بيع الوهم فى قالب كوميدي خفيف، بينما استمر عرض حلقات الثلاثين حلقة، التي يحتمل موضوعها ذلك، وعلى رأسها مسلسل "الحشاشين"، هو فى رأيي، أفضل مسلسل رمضاني تم عرضه خلال موسم رمضان .

نستكمل فيما يلي ملاحظات إضافية على ما تيسر متابعته من هذه الوجبة الدرامية العامرة:

اختيارات صعبة

أشياء كثيرة مميزة فى حلقات " بدون سابق إنذار " قصة ومعالجة ألما كفارنة وإخراج خالد خليفة، أولها تحويل حكاية يمكن أن تكون ميلودرامية زاعقة إلى رحلة بحث عميقة عن الجوانب الرمادية فى حياتنا، وعن الأحاسيس والمشاعر، وعن الاختيارات الصعبة والمؤلمة فى موضوعات شائكة، وثانيها أداء الممثلين المنضبط والمؤثر، فى أعمال هاني خليفة عموما يبدأ دائما من الداخل، من أعمق المشاعر وأكثرها صدقا، ويخلق جوا عاما، وإيقاعا خاصا يمزج بين التشويق والتعبير، وثالثها التأكيد من خلال الدراما، وعبر المواقف وحدها، على تعقد الشخصية الإنسانية، وهشاشة الأمان والاستقرار، وظهور الاختبارات فى كل الأوقات، وبدون أي توقعات.

الدراما الناضجة تبتعد عن الأبيض والأسود، وتوازن بين التأثير العاطفي، وترك مساحة للتأمل والتفكير، تثير الاهتمام، وتحافظ على تدفق الأحداث وانتظار الجديد فيها، وتحافظ فى نفس الوقت على الفكرة وتنويعاتها على كل الخطوط والمسارات، والحلقات التي شاهدناها فيها الكثير من كل ذلك.

سحر الليالي

سعيد بعودة عالم ألف ليلة وليلة من خلال حلقات " جودر " كتابة أنور عبد المغيث، وإخراج إسلام خيري، وبإنتاج ضخم، يجسد الخيال، ويمنح هذه النوعية الصعبة سحرها اللائق بها، وعبر عناصر فنية ممتازة، ومواهب حقيقية أعادت بناء دنيا الحكاية وتفصيلاتها، ورفعت سقف الإجادة والإتقان، بل ويمكن أن نقول إنها نقلت النوع (وحكايات ألف ليلة وليلة فى الدراما المصرية نوع إذاعي وتليفزيوني مستقل) إلى منطقة أخرى.

اختيار حكاية مصرية من عالم الليالي أيضا أمر لافت، وعالم الشمعيين الغامض، يحتمل بعض التأويل، والصراع حاضر من اللحظات الأولى، وتصميم واضح منذ البداية على كل التفاصيل، والعودة للقصة الإطارية (شهريار وشهرزاد) يتم بشكل جيد حتى الآن، والأفضل أن يكون هناك تقاطع موضوعي ما بين حكاية جودر، وحكاية شهريار، يتجاوز مسألة أن جودر مجرد حكاية نجحت فى تسلية شهريار، وأنقذت شهرزاد من الموت.

نجاح المسلسل فى رأيي لن يضيف فقط عملا مميزا ل دراما رمضان 2024، ولكنه سيفتح الباب أيضا لعودة أقوى لاستلهام عالم ألف ليلة وليلة فى ثوب جديد، بإمكانيات إنتاجية وتقنية استثنائية، ومن يدري فقد ينتقل هذا العالم إلى السينما بكل سحرها وإبهارها، وبكل قدراتها على ترجمة الخيال إلى صور وألوان، وخدع مذهلة ومتفردة.

تابعت الحلقات الإذاعية فى سنواتها الأخيرة، وبصوت عبد الرحيم الزرقاني (شهريار)، وزوزو نبيل (شهزراد)، وبالحوار البديع المسجوع، وتابعت بعث الراحل فهمي عبد الحميد لعالم الليالي رغم ضعف الإمكانيات، وما زلت أعتقد أن إمكانيات الليالي الدرامية، ودلالات حكاياتها المعاصرة، وخيالها الجسور والحر، بل وانفتاحها على التجريب والابتكار، فى انتظار معالجات وأعمال كبرى قادمة.

البحث عن الطاقة

أعجبني فى مسلسل " فراولة " قصة أحمد الدسوقي وسيناريو وحوار محمد سليمان عبدالمالك وإخراج محمد علي هذا الاستلهام المعاصر لعالم بيع الوهم، ودنيا العلاج بالطاقة، ومن خلال شخصية طريفة مرحة، تملك هي نفسها طاقة حياة ومعافرة، تتجاوز حتى الأحجار العجيبة التي تبيعها، وحولها شخصيات
لا تقل طرافة، وبمعالجة كوميدية ذكية.

تقف نيللي كريم بكل حضورها وبساطتها وحيوية أدائها وراء فراولة، فتجعلنا نراها بكل تفاصيلها، تبدو حتى الآن أقرب إلى الفهلوة منها إلى نموذج النصابة، نتعاطف مع همومها ومتاعبها ومشاكلها مع والدها، وتلمسنا علاقتها الخاصة مع صديقة طفولتها القعيدة، ومع زوجة أبيها، وتدهشنا قدرتها على المواقف الصعبة، وتناقضات علاقتها مع الطبيب النفسي. الرحلة كلها، بشخوصها وأحداثها طريفة وغريبة، مغزاها الأعمق فيما أعتقد عن الطاقة التي نمتلكها فى داخلنا، ولكننا نهدرها، بينما نبحث عن الطاقة فى حجر أصم، أو فى العالم من حولنا، نحن نبحث عن الطاقة دائما فى الاتجاه الخاطيء، ويا لها من فكرة جميلة تتجاوز قصة اللعب بالبيضة والحجر فى زمن السوشيال ميديا.

تجربة "نعمة"

نكتب كنقاد عن الأفلام والمسلسلات بعيدا عن حظها من المشاهدة أو التجاهل، وبشكل مستقل عن مدى شعبيتها فى ميزان الجمهور.

ولكن نجاح فيلم أو مسلسل، لا يجب أن يكون موضع تجاهل من الناقد، حتى لو كانت لديه مآخد فنية على العمل، وحتى لو كان هذا العمل مختلفا عن تفضيلات الناقد، أو بعيدا عن ذائقته، أو مذهبه الفني أو الجمالي الذي يتحمس له.

مرة أخرى ينجح محمد سامي بحلقات يمكن أن تصنف أيضا بأنها ميلودراما هي "نعمة الأفوكاتو"،

لا أتحمس عادة لهذا النوع، ولكن لا يمكن تجاهل إجادة سامي لمفرداته كلها، ومثلما كتبت فى العام الماضي عن "جعفر العمدة"، فإن أبرز ملامح الميلودراما المبالغة الشديدة فى الصراعات والتحولات الدرامية، والتنميط بين الأبيض والأسود، والإسراف فى التأثير العاطفي سواء فى الأداء، أو فى استخدام الموسيقى، وسامي يطبق ذلك دوما كما يقول الكتاب، فإذا كانت تيمة الانتقام هي العنوان، فإن التوليفة تصل إلى ذروتها.

قد لا تكون مي عمر كممثلة بنفــس درجــة حضور وموهبة وإجادة محمد رمضان، ولكن تفاصيل الشخصية، وتحولاتها، وصراعاتها، حافظت على ضبط الحكاية من البداية حتى النهاية.

وكما قلت عن "جعفر العمدة"، فإن توليفة الميلودراما وحدها لا تكفي، فكثيرون يقلدونها، ولكن محمد سامي لديه حرفة وإتقان فى صنعها، وتشعر أنه يصدّق النوع كله، ومتأثر به فعلا، ولا يقلّده فقط، كما أنه درسه جيدا، ويريد أن يقدم منه نسخة عصرية، وهذا واضح جدا فى أعماله السابقة، كما أنه يعرف كيف يحكي ويسرد بطريقة مشوقة، ويعرف كيف يكتب حوارات مناسبة لشخصياته، وخصوصا بتعاونه مع الكاتب مهاب طارق، الذي اشترك فى كتابة "جعفر العمدة" و"نعمة الأفوكاتو".

الميلودراما نوع راسخ فى المسرح والسينما المصرية، أستاذه بلا منازع يوسف وهبي، ومن عباءته خرج أعظم مخرجي النوع فى السينما المصرية، وهو الراحل حسن الإمام، ولسنوات طويلة كانت الميلودراما حاضرة فى السينما، ثم انحسرت وتراجعت، ربما لصعود الاتجاه الواقعي التراجيدي، ولمنافسة أفلام الواقعية الاجتماعية، التي تميل إلى التحليل والتأمل، ثم لتألق مخرجي الواقعية الجديدة، وهؤلاء كانوا بارعين جدا فى التأثير، والسرد، وفى لغة السينما، ولكن بدون المبالغات الميلودرامية.

ربما يكون الجدير بالالتفات هو عودة النوع ونجاحه منذ سنوات فى التليفزيون، لأنه يعتمد كما ذكرت على التحولات الدرامية، والصراعات المثيرة، التي تغري بالمتابعة، كما أن ثنائية الأبيض والأسود أقرب إلى روح الحكايات والحواديت الشعبية، ومازالت تعمل بنجاح فى الأفلام الهندية حتى اليوم.

ليس سهلا ما حققه محمد سامي، وبتأثير ونجاح كبيرين، ولكن التحدي الأهم أن يطور النوع نفسه.

فهل يمكن أن يفعل ذلك بمبالغات "أقلّ" فى الكتابة وفى استخدام الأدوات الفنية؟

اكتشاف جديد

أحمد عيد فى دور زيد بن سيحون فى حلقات " الحشاشين " يقدم شخصية غريبة ومركّبة بكل تمكّن واقتدار، لا يفلت منه تعبير، ولا يبالغ أو يقدم انفعالا زائدا، مع أن الشخصية تغري بذلك، هدوء كامل، وملامح وجه لا تلين، نموذج إنساني مليء بالتناقضات، نصير حسن الصباح وأقرب رجاله، أسير العقيدة الجامدة والحشيش، الشخصية لا وجود لها فى التاريخ كما قال عبد الرحيم كمال، ولكنه أودع فيها كل كوارث أصحاب العقول الضيقة، وأتاح لأحمد عيد تقديم أحد أفضل أدواره عموما.

مغامرة من أحمد عيد أن يقدم أدوارا غير كوميدية، وثقة كبيرة فى نفسه وفى قدراته، ليس سهلا ما فعله، نجوم كوميديا كبار لم ينجحوا فى ذلك، لأن الجمهور لم يتنازل عن صورتهم التي حفظها عنهم، ولكن عيد، وهو بالمناسبة كوميديان متفرد طريقة وأسلوبا وحضورا، مشخصاتي جيد بالأساس.

أتمنــى ألا يـــؤدى نجاحه فى الأدوار غير الكوميدية إلى أن يوضع من جديد فى خانة محددة، الآن فقط هو أكثر حرية فى اختيار الأفضل، سواء فى الكوميديا أو فى غير ذلك، بدعم من موهبته واجتهاده.

تألق إيمان

يكفي ايمان السيد أن تظهر حتى تملأ المشهد حضورا وبهجة سواء فى دورها الأشهر "أشغال شقة" أو فى شخصية مس عبلة فى "امبراطورية م" أو حتى فى مشاهدها الأولى فى حلقات "فراولة" ..


أحيانا أظن أنها شخصية خرجت من فيلم كارتون، لا أتحدث عن الموهبة والقبول وحدهما، ولكني أتحدث عن تكنيك الأداء، وتعبيرات الوجه، وحركة الجسد، وضبط الإفيه، وكلها أمور أنضجتها التجربة.

مع الأسف من النادر أن نجد من يكتب لكوميديانة كما كانوا يفعلون زمان، وإلا كانت فى مكانة أكبر وأهم.

تستحق إيمان أدوارا وشخصيات كثيرة تظهر موهبتها الفريدة.

مفاجآت " الحشاشين "

من أجمل مفاجآت مسلسل " الحشاشين " أداء ميرنا نور الدين لشخصية دنيا زاد زوجة حسن الصباح . ممثلة جميلة يمكن أن تلعب أدوارا رومانسية أو خفيفة، تقدم هنا شخصية صعبة، تمر بمرحلتين تأخذها من الانبهار والإيمان بزوجها وعظمته ودعوته، إلى الكراهية العنيفة له بعد أن قتل ابنها، فى أحد أقوى مشاهد المسلسل.

عبّرت ميرنا عن طاقة حزن وغضب صادقة ومؤلمة وهائلة، وأصبحت صرختها كأم مكلومة عنوانا على المأساة، أما مشاهد مواجهة حسن الصباح بلا خوف، واتهامه بالكذب والقسوة، فهي تكشف أيضا عن ممثلة مهمة كانت تنتظر الفرصة لتقول إنها أكثر من مجرد وجه جميل.

وفى مشهد واحد فقط.. لفتت الممثلة ركين سعد الأنظار بدور ريحانة التي تقف فى شجاعة لتحدي حسن الصباح فى حلقات "الحشاشين" بل إنها تثير إعجابه بشجاعتها رغم أنه يأمر فى النهاية بالتخلص منها.

فكرة ذكية إسناد الدور القصير إلى ممثلة مهمة ومتمكنة، لتبدو وكأنها جان دارك جديدة، وتعبر بقوة بوجهها وعينيها فلا تهتز ولا تبالغ أيضا.

هذه الشخصيات يجب أن ترسخ فى الذاكرة حتى لو ظهرت فى مشهد.. ولا أظن أننا سننسى ريحانة بأداء ركين البديع.
أداء خالد
لعل شخصية مختار أبو المجد التي لعبها بحضور باذخ وبراعة مدهشة خالد النبوي فى مسلسل "إمبراطورية م"

من أفضل شخصيات الآباء الدرامية بكل تناقضاتها، سواء بالمحبة والعاطفة، وبالانفتاح والحوار، أو سواء بفرض الرأي والتزمت، وباستخدام السلطة الأبوية بطريقة ناعمة أو خشنة لتنفيذ رأيه، أو بهذا المزيج بين الجدية والكوميديا الخفيفة.

كل تلك التناقضات والتفاصيل كتبها محمد سليمان عبد المالك، ونقلها خالد النبوي برهافة وذكاء، وبانتقالات صعبة داخل المشهد الواحد أحيانا، من الجدية إلى الكوميديا، ومن الهدوء إلى الانفعال والصخب، ومن إثارة الاستفزاز إلى إثارة التعاطف، مشخصاتي ممتع الأداء، ولا شك أن دور المخرج محمد سلامة محوري فى تقديم خالد للدور بهذه الصورة الممتازة.

أصعب ما فعله صناع مسلسل "إمبراطورية م" أنهم نجحوا فى جعل المشاهد يبتعد عن المقارنة مع الفيلم العظيم، وأن يركّز تماما مع الشخصيات الجديدة، دون تجاهل مناقشة نفس الأسئلة والأفكار التي طرحها فيلم إحسان وفاتن وحسين كمال.

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء (2)

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2