" عالماشي ".. يا فكرة تمت

" عالماشي ".. يا فكرة تمتمحمود عبد الشكور

الرأى19-5-2024 | 15:58

من الاعتقادات الخاطئة في الكتابة الدرامية ، بل وفي فنون الكتابة عموما، التوهم بأن العثور علي فكرة ذهبية يعني ضمان إنتاج عمل عظيم، وينسي الكثيرون أن العمل والشغل علي الفكرة وتطويرها، أهم من العثور علي الفكرة نفسها، وأنه يمكن إهدار أفكار ذهبية كثيرة، بالاستسهال، أو بعدم الجدية، أو بتقديم معالجة هزيلة، اعتقادا بأن الفكرة وحدها كافية، أو انخداعا ببريق المفارقة الدرامية، والواقع أن «الفكرة تساوي مليون جنيه»، ليس لأنها طرأت علي بالك فجأة، وإنما تساوي هذا المبلغ وأكثر، لأنها تحولت إلي دراما جيدة، بصرف النظر عن طبيعة المعالجة، كوميدية أو تراجيدية، أو حتي ميلودرامية.

عبد الوهاب وكريم سامي وهدير الشريف، وإخراج محمد الخبيري في أول فيلم روائي طويل له، نموذجية تماما في شرح هذه المشكلة المتكررة، فقد عثر مؤلفو الفيلم علي فكرة ذهبية وظريفة، بتورط رجل كسول في أزمة مرضية، تجعله مضطرا للسير دائما دون توقف، وإلا تعرّض لخطر الموت، ولكن هذه الفكرة قدمت بشكل فيه الكثير من الاستعجال، ودون دراسة حقيقية للموضوع، ودون تطوير وتعميق للمعالجة، ليقتصر الأمر علي بعض المشاهد المرحة، وندور ونلف لفترة طويلة في استهلاك إمكانيات المفارقة، وصولا إلي معني أخير يهاجم الكسل، وينصحنا باستغلال كل لحظة من حياتنا، في تقديم ما يفيد الذات والآخرين، وهو حقا معني جيد، ولكنه لا يصل إلينا من خلال دراما متماسكة، ولكن عبر حكاية حافلة بالثغرات والمشكلات.

لا بأس من بداية الفيلم، ومن مبالغات مقبولة لأسرة تحترف الكسل، فالابن هادي عبد الهادي ( علي ربيع )، ولاحظ دلالة الاسم المباشرة، يعمل في مجال خدمة العملاء من بيته، ولا ينزل من الشقة تقريبا، ويصل كسله إلي درجة عدم الذهاب إلي عمله لتوقيع ورقة هامة لصرف راتبه الشهري، والذي يضيع معظمه في الخصومات، بسبب انعدام لباقته مع الزبائن، أما والده (صلاح عبد الله) فهو أيضا أعجوبة في الكسل في المنزل، وانفصلت عنه زوجته ،أم هادي، التي تلعب دورها انتصار، لأنها لم تتحمل كسله، ولا كسل حماها العجوز المصاب الزهايمر (عبد الله مشرف).

يدهشنا بعد ذلك أن يحظي هادي بمحبة مدربة لياقة بدانية تلعب دورها آية سماحة، ولا تغير الفتاة موقفها بعد أن التقته مباشرة، إثر فترة طويلة من التعارف عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويدهشنا أكثر أن هادي سينقل إلي المستشفي، أثناء الاحتفال بعيد ميلاده، ليكتشف فجأة، ودون مقدمات، من خلال الطبيب (محمد رضوان)، أنه مصاب بمرض نادر يسمي «متلازمة الجلطات»، وينصحه الطبيب بأن يسير طوال الوقت، لأنه لو جلس سيتجلط دمه ويموت.

هناك فعلا مرض التجلط السريع، وله علاجات دوائية، ولكن اقتراح الطبيب بعدم الجلوس، يبدو حلا فانتازيا لا علاقة له بالطب، ويتناقض ذلك مع سياق الدراما الواقعي، ولكن المشكلة الأوضح أن عدم النوم والسير طوال اليوم، يمكن أن يسبب كوارث صحية، لا تقل عن حكاية متلازمة التجلط هذه، وقد أدرك كتاب الفيلم أنه من المستحيل أن يستمر هادي في المشي بدون توقف، فاخترعوا حكاية الاستراحة لساعة واحدة، ثم تقرر أن يكون المشي لعدة ساعات وهكذا.

عندما لا تتم دراسة الفكرة، ولا تتطور بطريقة منطقية، يتورط صناع الأفلام في مشاكل متتالية، وقد كان من الممكن البدء بالمشي بعدد محدود من الساعات، مع استخدام علاج دوائي مثلا، ولكنهم بدأوا بالمشي المستمر، الذي يثير الضحك بالطبع، ولكنه لا يبدو مقنعا، ويقتصر الهدف منه علي استنزاف إمكانيات المفارقة، ويستمر ذلك لفترة طويلة من الأحداث، حتي يتذكر الفيلم ضرورة وجود عقدة وحل، فتدخل علي الخط حكاية قضية رفعها صاحب البيت "حجاج عبد العظيم" لطرد أسرة هادي، وتدخل علي الخط أيضا حكاية مشاركة هادي في ماراثون للفوز به.

ومثلما قُدمت حكاية المرض بدون دراسة، وبكثير من الفهلوة والاستسهال، ستقدم جلستا قضية هادي بخفة وسذاجة، ولن يتوقف أحد ليسأل عن العلاقة بين أن تمشي طوال الوقت، وبين أن تصبح «عدّاء» في الماراثون الذي يحتاج إلي موهبة واستعداد كبيرين، ولكن «كله عند العرب مشي»، والمهم تقفيل الفيلم، وحشر أغنية بعنوان «كتاكيت»، يظهر فيها عبد الباسط حمودة ، في محاولة لاستعادة نجاح « أغنية سطلانة » الشهيرة في فيلم علي ربيع الناجح «بعد الشرّ».

مازلت أعتقد أن علي ربيع ممثل موهوب، ولكنه، مثل زملائه في مسرح مصر ، بدون بوصلة، والحقيقة أنه بدا في التخلص من الأداء المسرحي، والصوت المرتفع، والأداء الحركي اللافت باليدين، وهو هنا أفضل كثيرا، ويحاول أن يكون لفيلمه معني ومغزي، ومعه زميله كريم عفيفي في دور صديقه المخلص، وبدون تميز كبير، ولكن ذلك وحده لا يكفي، مادام الفيلم حافلا بالثغرات، ومادام لا يوجد من يتعب علي الفكرة والحبكة، أو يبذل جهدا حقيقيا في دراسة أي شيء.

لا يمكن أن تكون محصلة فكرة ذهبية بعض المشاهد الضاحكة، ولا تستحق هذه الفكرة علي وجه التحديد هذه الخفة في المعالجة.

يبدو لي في النهاية أن « عالماشي » ليس فقط اسم الفيلم، ولكنه تعبير عن الطريقة التي تم «سلق» الفيلم بها، وكأن صنّاعه أنتجوه بسرعة و عالماشي ، وهم يهرولون من أجل اللحاق بمباراة لنادي ليفربول في الدوري الإنجليزي !

يا صناع السينما: اجلسوا واكتبوا الكوميديا «بمنتهي الجدية» يرحمكم الله.

أضف تعليق