حضارة يتسابق فيها الصغير قبل الكبير على كسر حاجز المعرفة، رفعت علماءها مكانا عُليا، كما كانت تتوج فرسانها، ولم يمر الظلام على عصر من عصورها، وكان علماؤها أهل حظوة في القصور الملكية، وتزاوج العلم والدين في رحابها، وربط القرآن الكريم بينهما في أكثر من موقع.
أنصف جل كبير من علماء الغرب أفذاذ الحضارة الإسلامية، وأشادت "زيجريد هونكة" الكاتبة الألمانية بأحد علمائها، وهو علي بن عيسي بن علي الكحال، ووصف المستشرق الألماني مرجعه العلمي "تذكرة الكحالين" بقوله: لا نجد في أوروبا قبل القرن الثامن عشر الميلادي كتابا يرقى إلى مستوى هذا الكتاب، وعكف على ترجمته إلى اللغة الألمانية، وشهد ويل ديورانت صاحب موسوعة قصة الحضارة أن علي بن عيسى أعظم أطباء العيون، وأضاف أن كتابه ظل يدرس في أوروبا حتى القرن الثامن عشر.
وأجمع علماء المشرق والمغرب على أن مؤلف ابن عيسى "تذكرة الكحالين" يعتبر أقدم كتاب مرجعي في طب العيون، وتضمن نظريات أطباء العيون المتقدمين من العرب واليونانيين، ويصنفه المختصون بكتاب انتهج المنهج العلمي من خلال أسلوب يسير على الفهم.
وعرفه التاريخ بمؤسس علم طب العيون في الحضارة الإسلامية، وقد ذكر 130 مرضًا من أمراض العيون، واعتني بتوضيح ماهية كل مرض، وشرح أعراضه وعلاماته وأسبابه، وخلص في النهاية إلى وصف العلاج، وما وصل كتابه من شهرة علمية ليس فقط على طريقته المنهجية الدقيقة، بل على اهتمامه بوضع نماذج وإسهامات علمية في طب العيون.
ووضح التهابات الشريان الصدفي والقحفي والعلاقة بينهما في أمراض العيون، وأعد تفسيرًا عن كيفية عملية الإبصار، فكانت خطوة لينطلق من بعده العالم الحسن بن هيثم، شارحا فيها كما قال: إن الروح الباصر يخرج من العين ليقيس المنظورات، ثم يعود إلى العين ويدخلها ليطبع صورها على الدماغ، وعلي بن عيسى أول من استخدم التنويم والتخدير بالعقاقير في الجراحة، خاصة عندما يتعلق الأمر بعلاج العين.
ولم يقتصر مرجعه العلمي على النصوص الطبية، إنما نص على أخلاقيات الطبيب الكحال أو طبيب العيون، أوصى بالتزام الطبيب بالرأفة نحو المريض، وتوخي الحذر عند تشخيصه، وأمر بالتؤدة والتأني أثناء العمل الجراحي.
وعلي بن عيسى وأشقاؤه من أفذاذ الحضارة الإسلامية يقف العقل الحديث عاجزًا عن استيعاب إنجازاتهم وإبداعاتهم، ومهما رصد المؤرخون من تدوينها، فلا تزال كنوزها تبحث عن مكتشفها، وسطور كتب التاريخ تحتاج إلى مزيد من التفسير عن هذه البيئة التي احتضنتهم، ونبغوا من خلالها.