صباح الخميس الماضى توجه الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى دولة جيبوتي، إحدى دول الوطن العربى والقرن الأفريقي، فى زيارة تعد الأولى من نوعها لرئيس مصرى يقوم بزيارة هذا البلد الشقيق.
لم تكن الزيارة عادية نظرًا لما تمر به المنطقة من متغيرات وأحداث واستعادة الدولة المصرية لمكانتها مع حرصها على تقوية علاقاتها مع الأشقاء من الدول العربية والقارة الإفريقية.
التحركات المصرية خلال السنوات السبع الأخيرة كانت نتائجها واضحة وتأثيرها كبير من أجل تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية فى المنطقة العربية والقارة الإفريقية.
جاءت زيارة الرئيس لجيبوتى تأكيدًا على عمق العلاقات بين الدولتين فى المقام الأول ونظرًا للأهمية الاستراتيجية والدور الذى تلعبه الدولتين فى تأمين البحر الأحمر.. فمصر حارس البوابة الشمالية للبحر الأحمر وجيبوتى حارس البوابة الجنوبية بالتعاون مع اليمن (مضيق باب المندب).
كما جاءت الزيارة فى ظل أحداث تدفع بالمنطقة إلى حالة من عدم الاستقرار، تستوجب التباحث واتفاق الرؤى لمواجهة أى محاولات عبثية قد تضرب استقرار المنطقة وتدمر دولها وتدفع بشعوبها نحو الصدام الذى لا تجنى منه الدول سوى الدمار.
حملت زيارة الرئيس السيسي التاريخية إلى جيبوتى مجموعة من الدلالات الاستراتيجية منها:-
الدلالة الأولى:
عودة مصر إلى محيطها الاستراتيجى وتوطيد علاقاتها مع الدول التى تمثل جزءًا من الأمن القومي، فكيف لدولة بحجم مصر ومكانتها ودورها المحورى والاستراتيجى أن تظل علاقتها الدبلوماسية تقتصر مع دولة مثل جيبوتى ذات تأثير استراتيجى على تبادل الزيارات على مستوى الوزراء لأكثر من 40 عامًا؟! فلم يزرها رئيس مصرى طوال تلك الفترة.
رغم أن مصر كانت من أوائل الدول التى فتحت سفارة لها فى جيبوتى عام 1977 عقب استقلالها.
ورغم إدراك مصر أهمية العلاقات بين الدولتين خاصة وأن مضيق باب المندب كان ومازال له أهمية استراتيجية لضمان أمن واستقرار البحر الأحمر.
وفى ظل حرص القيادة المصرية الحالية على دعم استقرار وتنمية كافة دول العمق الاستراتيجى للأمن القومى المصرى كان التحرك المصرى نحو القارة الإفريقية بالتزامن مع التحرك نحو دول القرن الإفريقى بهدف الحفاظ على الأمن القومى المصري.
الدلالة الثانية:
ضرورة عدم ترك فراغات فى المحيط الإقليمى يمكن أن تنفذ إليها دول تستهدف التأثير على الأمن القومى المصري.
خلال الفترة من 2014 وحتى الآن كانت مصر تدرك خطورة ما يحدث فى القرن الإفريقى فى ظل تنامى نفوذ عدد من الدول من خلال الدفع بمزيد من الاستثمارات ووضع قواعد عسكرية لها فى دول القرن الإفريقى (الصومال، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا).
كان التحرك المصرى نحو دول القرن الإفريقى نظرًا للأهمية الاستراتيجية لتلك المنطقة وتأثيرها على عدد من الملفات المصرية منها الملف الأمنى والعسكرى وملف المياه.
من هنا جاء التحرك المصرى نحو جيبوتى وقد سبقها التحرك المصرى نحو أوغندا وإريتريا وكينيا والصومال وجنوب السودان.
رغم أن المساحة الإجمالية لدولة جيبوتي23200 كيلو متر، ويبلغ عدد سكانها مليون نسمة تقريبًا إلا أنها تمتلك حدودًا على ساحل البحر الأحمر وخليج عدن تصل إلى 370 كم تمنح جيبوتى أهمية جيوستراتيجية خاصة، إذ تعد بمثابة الحارس على البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، ما جعل القوى الدولية والإقليمية تحرص على التواجد بها.
تضم جيبوتى 9 قواعد عسكرية عاملة، منها 6 قواعد للولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والصين، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا، إضافة إلى 3 قواعد فرنسية، بينها قاعدة بحرية، ومطاران، أحدهما فى منطقة ساحلية، الأمر الذى يستوجب على الدولة المصرية إقامة قاعدة عسكرية لها فى جيبوتى فى ظل تنامى العلاقات بين البلدين، لاسيما أن التواجد العسكرى من تلك الدول اتبعه تعاون اقتصادى أحدث حالة من القلق بين تلك الدول، فقد قامت الصين بإنشاء قاعدة عسكرية لها فى جيبوتى 2017 بعد إقامتها منطقة تجارة حرة فى «نيكولاس» لصناعة الخدمات، ما أثار حفيظة كل من الولايات المتحدة وفرنسا واليابان.
كما دفعت الصين بحجم استثمارات فى مجال النقل البحرى بجيبوتى بلغ 2 مليار دولار، كما قامت بإنشاء قاعدة عسكرية لها فى ميناء «دواريه» بالإضافة إلى إنشاء خط سكك حديدة بين إثيوبيا وجيبوتى بطول 750 كم، وبتكلفة بلغت 4 مليار دولار، ليعد بمثابة منفذ بحرى هام لإثيوبيا على البحر الأحمر.
هنا كان التحرك المصرى ففى 2015 عندما قام اللواء الركن زكريا شيخ إبراهيم، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الجيبوتى على رأس وفد بزيارة مصر، والتقى الفريق أول صدقى صبحي، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربى فى ذلك الوقت، وبحث الجانبان سبل دعم التعاون وتعزيز العلاقات العسكرية بين القوات المسلحة لكلا البلدين فى مختلف المجالات؛ كما تناول اللقاء المستجدات والمتغيرات المتلاحقة على الساحتين الإقليمية والدولية فى ظل الظروف الراهنة والتطورات الأخيرة فى اليمن وما تشهده منطقة جنوب البحر الأحمر من توترات وحالة من عدم الاستقرار الأمني، إلى جانب مناقشة أوجه التعاون المشترك والعلاقات المتميزة التى تربط البلدين، والتعاون العسكرى فى مجال مكافحة الإرهاب والتطرف والقرصنة.
وفى 27 مارس 2015، قام الرئيس الجيبوتى إسماعيل عمر جيله بزيارة لمصر لحضور القمة العربية فى دورتها الـ 26، استقبله الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبحث الجانبان سُبل دعم العلاقات الثنائية بين البلدين.
أعقب تلك الزيارة مجموعة من الزيارات المتبادلة لعدد من الوزراء فى البلدين لزيادة حجم التعاون الاقتصادى والسياسى والأمنى والعسكري، وخلال زيارة الرئيس عمر جيله للقاهرة فى ديسمبر 2016 تم توقيع 7 اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين مصر وجيبوتي.
الدلالة الثالثة:
ضرورة شرح وجهة النظر المصرية بشأن أزمة سد النهضة الإثيوبى والتأكيد على أن مصر لا تستهدف الإضرار بالغير، بل تستهدف تحقيق التنمية فى إطار الحفاظ على الحقوق القانونية لدولتى المصب دون الإضرار بهما.
ويعد ذلك أحد ثوابت السياسية الخارجية للدولة المصرية، وهو ما أكد عليه الرئيس السيسي خلال زيارته الأخيرة.
كما يأتى التحرك المصرى باتجاه جيبوتى فى تلك القضية كونها مقر مجموعة الإيجاد "IGAD" (التجمع التنموى لشرق أفريقيا) وبوابة مجموعة التبادل التجارى لجنوب وشرق أفريقيا (الكوميسا) وهما من أهم المنظمات الإفريقية، ما يثبت أن مصر دائمًا ما تسعى للتنمية والاستقرار لكنها لا تتهاون أبدًا فى حقوقها أو المساس بأمنها القومي.
الدلالة الرابعة:
فتح آفاق جديدة وزيادة حجم التبادل التجارى والتعاون بين مصر وجيبوتي، خاصة بعد توقيع مذكرة تفاهم بين هيئة قناة السويس وهيئة موانى جيبوتي؛ ففى الوقت الذى تحرص فيه مصر على تطوير صناعة الخدمات فى شمال البحر الأحمر (محور قناة السويس) تستهدف أيضًا التعاون مع دول جيبوتى وإريتريا والصومال بشأن تطوير صناعة الخدمات، مما يزيد من حجم النمو الاقتصادى للبلدان الثلاثة ويحافظ على أمن واستقرار المدخل الجنوبى للبحر الأحمر (مضيق باب المندب).
كل ذلك جعل مصر بمثابة الضامن لاستقرار أمن واستقرار الأوضاع فى البحر الأحمر وزيادة حجم التجارة العالمية العابرة لقناة السويس.
الدلالة الخامسة:
زيادة حجم الدور الذى تقوم به الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية من خلال زيادة برامج التدريب بين البلدين وكذلك مشروعات البنية التحتية التى تقوم بها الشركات المصرية فى جيبوتي، ما يزيد حجم تأثير القوى الناعمة للدولة المصرية فى منطقة القرن الإفريقى وشرق إفريقيا من خلال زيادة حجم التعاون فى مجال الكهرباء والطاقة (إنشاء محطات للطاقة الشمسية) ونقل الخبرات المصرية إلى جيبوتى فى مجال أنشطة البترول والغاز الطبيعي.
هذا إلى جانب التعاون فى مجال الدواء والصحة، خاصة بعد أن اتفق الرئيس السيسي على إنشاء المستشفى المصرى فى جيبوتي، بالإضافة إلى مشروعات أخرى فى مجال النقل والزراعة والاستزراع السمكي.
إن زيارة الرئيس السيسي التاريخية لجيبوتي، والتى تعد الأولى من نوعها، هى بمثابة رسالة تأكيد على حرص الدولة المصرية على تقوية علاقاتها بمحيطها الإقليمى وإحداث مزيد من التعاون من أجل تنمية دول القارة، وتنسيق المواقف بين مصر وكافة دول الجوار فى كافة الملفات ذات الاهتمام المشترك ومواجهة أى تحديات أو تهديدات تؤثر على أمن واستقرار المنطقة.
إن التعاون بين مصر وجيبوتى فى المجال العسكرى والأمنى فى ظل تنامى الوجود الأجنبى فى القرن الإفريقى يستوجب أن يكون لمصر وجودًا فى تلك المنطقة لتأمين الملاحة عند المدخل الجنوبى للبحر الأحمر والحفاظ على استقرار حركة التجارة العالمية فى المنطقة.
إن ما تحققه مصر من تنامى فى علاقاتها الإقليمية والدولية، وتأثيرها فى القرار الدولى ودورها المحورى الذى أشاد به العالم فى العديد من الملفات الخاصة بالمنطقة يدل على نجاح مصر فى مواجهة كافة التحديات وقدرتها على مواجهة أى تهديدات تمس أمنها القومي.