إحدى مدن بلجيكا اسمها جنت، بها كنيسة، أهم ما فى الكنيسة نافذة زجاجية من 11 قطعة، رسمها الأخوان «فان ايك»، على اللوحة يظهر الرب والعذراء وهى تتلقى البشارة وإلى جوارها يوحنا المعمدان، ومن حولهم الملائكة يعزفون والحواريون والأنبياء وفرسان المسيح وآدم وحواء.. ثم الرجل الذى أنفق على هذه اللوحة ومعه زوجته!
البداية
واستولى الفرنسيون فى القرن الـ 18 على هذه المدينة وعلى الكنيسة، وأخذوا النافذة الزجاجية، ثم عادوا بعد ذلك، ولكن القسيس وكان ألمانى الأصل سرق هذه النافذة وباعها لأحد التجار الألمان!
هذه النافذة من عمل الأخوين «يان فان ايك» و «هوبير فان ايك»، ولكن اسم الفنان فى ذلك الوقت لم يكن هاما، فهى نافذة تاريخية والسلام، وقد أكمل الأخوان عملهما البديع عام 1432م، وكان عرضها 14.5 قدم وارتفاعها 11.5 قدم.
وفى يوم 21 أغسطس عام 1566م هاجم البروتستانت هذه الكنيسة، وحاولوا نهب هذه النافذة، فما كان من القسيس إلا أن أخفى ألواح النافذة فى برج الكنيسة.. ثم نقلها سرًا إلى أحد مخازن البلدية، ولما تحولت مدينة جنت إلى المذهب البروتستانتى فكر أبناء المدينة فى إهداء هذه النافذة إلى الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، فقد كانت راعية البروتستانتية وهذه المدينة أيضًا.
ولكن أحفاد الرجل الذى أنفق على رسم هذه اللوحة رفضوا نقلها.. ولذلك بقيت فى مكانها من الكنيسة.
ولم يعد أحد يسمع عن هذه النافذة، حتى جاء عام 1781 عندما زار الكاتدرائية الامبراطورية يوسف الثانى ملك بوهيمبا والمجر، ورأى النافذة، وأعجبته جدًا.. لولا أنه تضايق من أن يبدو آدم عاريا وحواء، ولذلك نزعوا آدم وحواء من النافذة ووضعوهما فى الأرشيف!
وفى عام 1794 جاءت قوات نابليون ودخلت الكنيسة، ونزعت ألواح النافذة الزجاجية ونقلوها إلى متحف باريس!
وحاول مدير المتحف أن يحصل على بقية النافذة – آدم وحواء – مقابل لوحات فنية أخرى، ولكن الكنيسة رفضت.
وظلت النافذة 22 عاما أخرى فى متحف باريس! غير أن لويس الثامن عشر الذى هرب إلى هذه المدينة خوفا من نابليون الذى هرب من منفاه من جزيرة البا، قد أعاد النافذة امتنانا لها – وذلك بعد هزيمة نابليون فى موقعة ووترلو عام 1815.
ولم تكد النافذة تستقر فى موقعها من الكنيسة، حتى سرقها قسيسها الفرنسى الأصل، وباعها إلى تاجر فرنسى باعها للامبراطور الألمانى «فريدريش فلهلم الثالث».. وكان هذا الامبراطور يحلم بأن تكون لديه مجموعة فنية أكبر من التى يملكها الفرنسيون فى متحف اللوفر.. ونقل النافذة إلى متحف فريدريش فى برلين.
وغضب البلجيكيون، وطالبوا بعنق القسيس الذى أنكر علمه بهذه السرقة!
وفى عام 1861 اتفقت حكومة بلجيكا مع هذه الكنيسة على شراء هذه النافذة، وبذلك تصبح من ممتلكات الدولة، على أن تبقى النافذة فى مكانها بالكنيسة، ودفعت الحكومة المبلغ، وتم توقيع عقد بهذا المعنى، ثم قررت الحكومة نقل هذه النافذة مؤقتا إلى متحف الفنون الجميلة فى مدينة بروكسل.
ويوم استقرت النافذة فى هذا المتحف، أحس أحد الحراس بأن هناك حركة غير عادية، وراح يتجول فى كل جوانب المتحف، لم يجد شيئًا أو أحدًا، ولفت نظره أن هناك لفافة كبيرة فى جانب من المتحف، وعندما اقترب من اللفافة وجد رجلا اختفى وراءها.. لم يكن لصا، وإنما واحد أراد أن يتأكد بنفسه إن كانت هذه النافذة تضىء ليلا!
وبعد ذلك بأيام فوجئ مدير المتحف بأسرة كاملة قد اختفت فى إحدى غرف المتحف، رجل وزوجته وثلاثة أطفال وسيدة عجوز.. ولم يكونوا لصوصا، وإنما قيل لهم إن ضوءًا يخرج من هذه اللوحة يشفى المريض، ولذلك جاءوا بهذه العجوز لعل العذراء تشفيها إذا هى أشرقت عليها!
الحرب العالمية الأولي
ونشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وتنازعت على النافذة ثلاث مدن، بروكسل وجنت وبرلين.. فكل واحدة تقول إن النافذة ملك لها.. بروكسل العاصمة ترى أن الدولة قد اشترتها.. وجنت المدينة الصغيرة تقول إنها صاحبة الحق التاريخى.. وبرلين تقول إنها دفعت فيها مبلغًا كبيرًا.. وقررت مدينة جنت أن تنزع النافذة من مكانها وأن تخفيها تماما حتى تنتهى الحرب، ووجدوا صعوبة فى إرسالها خارج البلاد.
الحيلة
ولذلك اهتدوا إلى حيلة.. فقد حصلوا من وزارة الفنون على خطاب بإرسالها إلى بريطانيا.. ولكنهم نقلوها فى أربعة صناديق وأخفوها فى أحد البيوت بعيدًا عن الكنيسة، وحدث ما توقعوه، فقد جاءت القوات الألمانية تسأل عن النافذة.. فعرضوا عليها خطاب وزارة الفنون.. ولم يكن غريبا أن تنتقل أعمال فنية إلى بريطانيا.. ففيها الكثير مما تملكه بلجيكا.. ولكن الألمان لم يصدقوا.. وجاء القسيس وأقسم أنه لا يعرف أين هى.
وكان القسيس قد طلب من أهل المدينة أن يخفوا النافذة دون أن يدلوه على مكانها حتى إذا أقسم أنه لا يعرف كان صادقا.
وكادت النافذة تقع فى أيدى الألمان وتقع من أيديهم أيضًا.. فقد حاصروا منطقة وراحوا يقلبون البيوت ويهدمونها بحثا عن النافذة.. ولكنهم لم يهتدوا إليها.. فجاء أهل المدينة ونقلوها عام 1918 إلى مكان آخر فى عربة تحمل المخلفات القديمة من الخشب والحديد.. وانتهت الحرب، ووقعت ألمانيا اتفاقية فرساى – 440 مادة!
ولكن المادة 247 هى التى أغاظت الألمان، فهذه المادة تطالب الألمان بإعادة كل اللوحات الفنية والتماثيل والتحف والكتب والمخطوطات التى سرقوها، وبمقتضى هذه المعاهدة أعاد الألمان جانبًا من النافذة إلى بلجيكا.
وأعادوا أيضًا لوحة اسمها «العشاء الأخير» كان قد رسمها الفنان «ديريك بوتس».. وأعادوا لفرنسا مئات اللوحات والتماثيل!
ويوم أقامت ألمانيا معرضا للفنان البلجيكى «فان ايك» وضعوا لوحة بيضاء كتبوا عليها، هذا المكان كان مخصصا للوحات التى اشتريناها واستردتها بلجيكا بمقتضى معاهدة فرساى!
وكان عيدًا قوميا يوم عادت اللوحات والتماثيل المشهورة إلى بلجيكا، الطبل والزمر وأجراس الكنائس ولنشيد الوطنى فى كل مكان.. والزهور تلقى على العربات التى نقلت اللوحات من برلين والدموع فى العيوان والأطفال على أكتاف الآباء والأمهات والمرضى فى النوافذ!
وتشددت الحراسة على الكنيسة فى مدينة جنت، التى أصبحت أشهر كنيسة فى التاريخ.. والتى أصبحت نافذتها الزجاجية أكثر التحف انتقالا فى الحرب والسلام بين العواصم الأوروبية!
ويوم 10 أبريل عام 1934 تسلل لص إلى كنيسة مدينة جنت وسرق لوجة زجاجية اسمها «القضاة العدول» وهرب ولم يعرف أحد من الذى سرقها، ولماذا؟ ولكن رجلا مريضا اتصل بالقس وقال له: أنا الوحيد الذى يعرف مكان هذه اللوحة.. أنا فلان الفلانى.
وعندما جاء القسيس.. كان الرجل قد مات.. وأيقن أولاده أنه هو الذى سرقها، ولم تظهر اللوحة حتى اليوم!
وفى عام 1940 عادت القوات الألمانية بالحرب العالمية الثانية ودخلت بلجيكا.. فقررت مدينة جنت نزع النافذة الزجاجية وإرسالها إلى الفاتيكان فى إيطاليا، ولكن إيطاليا دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا – مشكلة لا حل لها!
فطلب مدير متحف اللوفر فى باريس استضافة النافذة فى باريس، ثم نقلها إلى متحف دبو فى مارسيليا، ونقلت النافذة، ولكن القوات الألمانية قد دخلت فرنسا أيضًا، وتقدم مدير متحف اللوفر يطلب من القوات الألمانية تأمين متحف مرسيليا إلى نهاية الحرب.
ووافق الألمان، ولكن كانت موافقة على الورق فقط.. وفى اليوم التالى للموافقة الكتابية انتقلت معظم مقتنيات متحف مارسيليا إلى باريس، ومنها إلى مكان مجهول.
وذهب مدير متحف اللوفر إلى إيزنهاور قائد قوات الحلفاء، فأصدر إيزنهاور أمرًا لكل قواده: نحن جئنا إلى أوروبا لإنقاذ الحضارة الإنسانية من الهمجية النازية.
ومن مظاهر الحضارة: اللوحات والتماثيل وغيرها من إبداعات الإنسان، ولذلك يجب أن نحمى كل الذى جئنا من أجله، وكل القواد مسئوليتهم كاملة عن سلامة هذه الآثار، وسوف أحاسبهم شخصيا، وهى أمانة عظمى، ونحن قادرون على حمل هذه الأمانة، وردها إلى أهلها.. ونحن أهله!
عملية البحث عن اللوحات
وبدأت أكبر عملية بحث فى التحف التى سرقها الألمان من كل المتاحف والقصور، وتكونت كتيبة الفنون من العلماء والخبراء والتجار تبحث فى كل مكان وتسأل كل الذين لهم صلة بالفن وتجارته وترميمه وتسويقه.
وشاءت الصدفة أن يلتقى خبير أمريكى بطبيب أسنان ألمانى، هذا الطبيب كان من «قوة العاصفة» وهى القوة ذات المهام الخاصة والتى ترتبط مباشرة بهتلر، هذا الطبيب قال للخبير الأمريكى، سوف أساعدك بشرط أن تضمن حياتى أنا وزوجتى وأولادى، فأنا لا أخاف من الأمريكان، وإنما أخاف من الألمان، فلو عرفوا لقتلونى.
ولكن الأمريكى لم يعد بشىء.. فهو قد تسلل إلى النمسار سرًا، وما تزال النمسا بعيدة عن قوات الحلفاء، ولكن هذا الطبيب أعطاه خريطة بمواقع مخابئ اللوحات الفنية.
ودخلت قوات الحلفاء الأراضى النمساوية، واهتدى الخبير الأمريكى إلى المكان الخرافى الذى أخفى فيه هتلر كنوز أوروبا المسروقة، هناك فى مناجم الملح.. هذه المناجم تعمل منذ قرون وتتوارثها أسرة توقف نموها الجسمى بسبب حياتها المستمرة فى المناجم، حتى أصبحوا جميعًا من الأقزام، ولم يكد الخبير الأمريكى وحراسه يدخلون هذا المنجم حتى وجدوا عجبا، لقد تحولت الكهوف إلى مخازن فخمة ضخمة، الأرض مغطاة، والجدران أيضًا، ثم إنها مضاءة، وقد امتلأت بصناديق من خشب وحديد كم كل حجم ولون.. ما هذا؟
لقد عرف الحلفاء فيما بعد الحرب أن هتلر كان قد قرر أن ينقل كل هذه الكنوز إلى مدينة «لنس» النمساوية، وهى المدينة التى ولد فيها، وقرر هتلر أن يجعلها أم الدنيا، أروع وأعظم مدينة فى العالم، أليست المدينة التى تشرفت بولادته؟!
أما عدد اللوحات التى سرقها الألمان من العواصم الأوروبية فقد بلغت تسعة ألاف لوحة:
-6577 لوحة بالزيت..
-730 لوحة بالماء..
-137 تمثالا..
-128 درعا من ذهب..
-179 سلة بها قطع ديكور نزعت من القصور..
-1500 صندوق كتب..
-500 صندوق مخطوطات..
-387 قطعة أثاث..
-1200 سجادة..
-3500 نجفة..
وعدد كبير من التماثيل الفرعونية والجعارين والنقوش المنزوعة من المعابد والمقابر المصرية القديمة!
أما طبيب الأسنان الألمانى فقد أطلق على زوجته وأولاده وعلى نفسه النار – خوفا من انتقام الألمان، وهذا الطبيب هو أعظم إنسان ظهر فى أوروبا، فهو الذى أنقذ كل هذه الكنوز، ولم يكتف بذلك، بل إنه هو الذى أنقذ مناجم الملح من الدمار، فقد دل الأمريكان على صناديق بها قنابل وديناميت قد أعدها الألمان لنسف المنجم إذا ما وقع فى أيدى الحلفاء، وقد وجدوا القنابل والديناميت كما وصفها هذا الطبيب المجهول!
وكان الخبير الأمريكى مكلفا بإعادة الآثار والتحف البلجيكية، ولذلك عندما وجد النافذة الزجاجية لكاتدرائية مدينة جنت نقلها إلى إحدى الطائرات، ولم تكد الطائرة ترتفع فى الجو حتى صادفتها عاصفة عاتية، وكان لا بد أن تعود إلى ألمانيا، غير أنه أصر على ألا يعود إلى ألمانيا، ولذلك هبط فى أحد المطارات الحربية البريطانية.. فى فرنسا.. ثم انتقل بالسيارة إلى بلجيكا.. إلى القصر الملكى، وقدم بطاقته للحراس.
وطلب أن يقابل الملك شخصيًا، فليس عنده وقت، وكان ذلك عند منتصف الليل، ونزل الملك بالبيجاما والروب والملكة بالروب أيضًا، وأمام رقة الخبير الأمريكى وباقة الورد التى يحملها وتحيات خاصة من الجنرال إيزنهاور قائد قوات التحالف، قد له النافذة الزجاجية لكاتدرائية مدينة جنت.. وظهرت السعادة على وجه الملك والملكة.
وقام بفتح الصناديق.. وبرفع الألواح الزجاجية ووضعها على المائدة.. وقامت الملكة بنفسها وفتحت زجاجة شمبانيا وقدمت للخبير الأمريكى ومساعديه، ابتهاجا بأعظم ثمرات النصر واقتراب السلام الذى أنقذ الحضارة الإنسانية، والذى أطل من هذه النافذة التاريخية!
تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر بتاريخ 25 سبتمبر 1988، العدد"668"، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر