بل أستطيع أن أعيش لا مائة عام.. بل مائة ألف.. ادفنونى فى القطب الشمالى.. هاها.. هاها.
لم تتغير الدنيا.. إنما أنا الذى تغيرت.. فأنا أمشى فى الشارع لا أريد أن أرى ولا أن أسمع. ولا أحب أن أنظر فى وجوه الناس كأننى قررت أن أعطل حواسى كلها، فلم يعد هناك شىء أو أحد يستحق الاهتمام، كأننى مثل الراديو نزعت بطاريته، فأصبح بعد ذلك صندوقًا من الخشب أو من البلاستيك، ثم إن عندى شعورًا بالرفض – فأنا أرفض الناس. واستكثر أن تعيش، كأنه مفروض أن يموت العالم كله ولا يموت الأستاذ العقاد. أو يموت نصف العالم ويموت الباقى فداء له.
فإذا كان العقاد شجرة شامخة فهم أعشاب، ملايين الأعشاب. ويوم مات أبى قررت ألا أمشى فى جنازته. وكنت متفلسفا صغيرا عنيفا شاردا ثائرا. وكنت أقول إن أبى الذى عرفته لم يمت. أما أبى الذى يعرفه إخوتى والناس فقد مات. ولذلك فهم يمشون فى جنازته ويتلقون فيه العزاء. أما كيف استطاع أبى أن يظل حيا وقتا طويلا.. فإنى لا أعرف الأسباب النفسية أو البيولوجية التى جعلته يعيش.. إن له ظهورا عجيبا.. إننى أراه كثيرا شبحا أمامى.. أراه كأنه ظل.. وأحس بوجوده كأنه يلمسنى.. فإذا رأيته أو تخيلت ذلك فلا بد أن مصيبة أو كارثة سوف تقع. وكأنه جاء يحذرنى من ذلك. أو جاء يهيئنى لكى أتقبل الكارثة بهدوء.
وقد سألت أساتذتى فى علم النفس عن معنى ذلك، ولكن أحدًا لم يجبنى على شىء، أو قالوا أشياء كثيرة ولكنها لم تقنعنى، ولكى أكون أوضح فإننى أروى لك ما يحدث عادة.. فأنا جالس الآن أكتب، وفجأة أرى وجه أبى على الورق أمامى، يبدو لحظة أو لحظتين بصورة تجعلنى أتوقف عن الكتابة.. أو إذا كنت جالسا أو فى سيارة أو بين الناس فإننى أراه وجها أو ظلالا لوجه.. وأراه من بعيد يقترب.
فما الذى يحدث بعد ذلك؟ لا بد أن تقع مشاجرة. أو خناقة أو يصيبنى سوء. لا بد وقد بدا ذلك واضحا بعد وفاة أبى بعام واحد، ولكن بعد وفاة الأستاذ أصبحت أرى ذلك كثيرا وبشكل بدأ يزعجنى.
وقررت فى أحد الأيام ألا استسلم لهذا الشىء الغريب. فجلست أرصد هذه الظاهرة النفسية وأحللها بمنتهى الدقة الموضوعية العلمية المجردة من كل عاطفة.
وأمسكت ورقة وقلما، وانتظرت زيارة هذا الطيف أو هذا الشبح الشفاف الذى يتخذ معالم وجه أبى – يرحمه الله – وانتظرته أن يجيئ.
ودق جرس التليفون، ولم أكد أرفع السماعة حتى رأيت هذا الوجه: مستديرًا أبيض اللون أخضر العينين له طربوش ومنظار ويرتدى البدلة والصديرى وله سلسلة ذهبية تعلقت فيها الساعة فى داخل الصديرى، وكان المتكلم الأستاذ فريد شحاتة سكرتير د. طه حسين، قال: إن الدكتور يبحث عنك منذ يومين.
أين أنت؟. إنه يريد أن يراك.
وسألته: ألا تعرف ما الذى يريده؟
قال: لا أعرف. إنه يريد أن يراك.
قلت: غدًا سوف أجيئ!
ولم يكن من عادتى إذا طلبنى د. طه حسين أن اتساءل ماذا يريد. ويكفى أنه أراد. إنه طه حسين. وهو يريدنى.. وهذه سعادة كبرى. ولقاؤه متعة عظمى. يكفى أنه طلبنى.. ولكنى هذه المرة لم أجد ذلك ضروريا. ولا يهمنى كثيرا أن أراه أو يرانى. فما الذى عساه يريد. هل هو مجرد حب الاستطلاع. يسألنى: ماذا قال الناس عن وفاة الأستاذ؟ ومن الذى سار فى جنازته؟ ومن الذى لم يسر؟ وماذا قال قبل موته؟.. وهل عرفت أنه اتصل به تليفونيا؟.. وأنه استمع إليه.. وأنه لولا مرضه هو أيضًا، لكان قد ذهب إليه؟
وطلب الأستاذ فريد شحاتة. فقال: إننى أتحدث إليك والدكتور إلى جوارى.. إنه يريد أن يكلمك.
قال طه حسين: أين أنت يا سيدى؟ إننى أبحث عنك منذ يومين. ففى أى البلاد كنت؟
قلت: آسف يا دكتور. إن أحدًا لم يخبرنى بذلك.
قال طه حسين: إذن فمتى آراك؟ تعال الآن.
قلت: حاضر يا دكتور.
ولاحظت أننى أتحدث إليه بلهجة فاترة. حاضر يا دكتور.. لا أظن أننى قلتها قبل ذلك.. ولكن شيئا ما قد اختفى من نفسى أو من حديثى أو من فكرى.. حاضر يا دكتور.. كأننى تمرجى وهو طبيب.. كأننى واحد من أهل مريض، ثم جاء طبيب يطلب ماء ساخنا.. أو أن أغلى له الحقنة.. أو اشترى الدواء الذى وصفه للمريض.. حاضر يا دكتور..
ووجدتنى أمام الفيلا التى يسكنها د. طه حسين فى الهرم. الفيلا اسمها «رامتان». ولا أعرف كيف وصلت إلى هذا المكان. فلم أشعر بوجود شارع الهرم ولا الشارع المتفرع منه.
وقبل ذلك كنت أضع كل علامات الطريق فى عينى طولا وعرضا ولونا. كان الطريق إلى طه حسين شريطا من الصورة والصوت والعطر. وكان الطريق له مذاق التاريخ. فكنت أرى زيارتى له علامة من علامات القضاء والقدر. إنها ليست زيارة، إنها شىء جليل ونقطة تحول، ولكن هذه المرة وجدتنى أمام باب «رامتان»، وانفتح باب لم أعرف لونه، ولم أسمع صوته، وامتدت يد سوداء تشير إلى غرفة بالقرب من الباب، ودخلت.. ووجدت د.طه حسين ضاحكا كعادته يقول: أهلا يا أستاذ أنيس.. أين كنت؟ إننى أعرف مدى حزنك وعمق مأساتك، ولكنى لم أكن أعرف أن الرجل عميق فى نفسك، وأنه مصاب فلسفى، لقد ظننت أول الأمر أن عبد الرحمن بدوى هو أستاذك، ولكن قرأت أن ذلك تحفظات على فكره، وأنا أشاركك هذا الرأى، وقرأت أن لك تحفظات على الأستاذ العقاد، ولكن إعجابك به أكبر وأعمق.. ورأيت وفاءك له نموذجيا، فليس بين الشباب كثيرون يعرفون الوفاء لأحد.. لأب أو أم أو أستاذ أو زعيم.. أهذه هى المرة الأولى التى تزرونى هنا؟
قلت: نعم هذه هى المرة الأولى التى أجيئ فيها فى هذه الفيلا.
قال: أعجبتك؟
قلت: جميلة.
قال: وما الذى أعجبك فيها؟
قلت: إنك فيها.
قال: «بالفرنسية» مرسي.. مرسي. إن سوزان زوجتى يسعدها أن تسمع منذ ذلك.
ثم قال: أتدرى ما معنى «رامتان»؟ إنها رامتان.. ومفردها رامة.. وهى مكان فى البادية، ومنها جاء أخونا الشاعر أحمد رامى.. أو أهله قد جاءوا من البادية الشعودية.. والشاعر القديم يقول..
وكان طه حسين يحب أن يلقى الشعر القديم العجيب الغريب. ويجد فى ذلك لذة كبرى، لأنه يحب الشعر، ولأن صوته جميل، ولأنه الذين يسمعونه يطلبون إليه ذلك.. ولأنه يختار شعرا يندر أن يحفظه أحد.
قال طه حسين: والشاعر القديم يقول:
تسألنى برامتين «سلجما».
يا مى لو سألت شيئا أمما.
جاء به الكرى أو تجشما.
وفى رواية أخرى:
تسألنى برامتين «سلجما»
لو أنها تطلب شيئًا أمما.
جاء به الكرى أو تجشمًا!
وسكت طه حسين، ثم ضحك لأنه على يقين من أننى لم أفهم شيئا من هذه الأبيات، وكان يجد فى ذلك متعة أخرى، ذلك فقال: يا أستاذ أنيس أفسر لك هذه الطلاسم العربية القديمة.. فالعرب تضرب المثل فتقول: تسألنى برامتين سلجما.. أى أنك تسأل عن نبات السلجم هذا فى منطقة جرداء.. أى أنك تطلب شيئا صعبا أو مستحيلا.. والسلجم أو الشلجم أو الثلجم نبات ينبت فى الوديان.. وربما كان نوعا من البقول.. ثم يقول لمحبوبته مى: يا ليتك طلبت شيئا سهلا يمكن الحصول عليه.. أو يأتى به البائع أو حتى يحاول ذلك.
قلت: منتهى التواضع يا دكتور.
قال: كيف؟
قلت: أن تسمى بيتك رامة أو حتى رامتين، فإن بيتا يعيش فيه طه حسين لهو الوادى والغابة والواحة والينبوع والكعبة يحج إليها الناس من كل مكان.. تماما كما نسمى الجنة الخضراء بالصحراء الجرداء، أو كما نسمى النهر بالسراب.. أو نسمى الشمس بقعة سوداء.
وأدهشنى من نفسى أننى أقول كل ذلك، ولكن إرضائى أننى اكتشفت أنى لا أقصده، إنما أقصد الأستاذ العقاد الذى لم يكن له بيت، وكان متواضعا رغم عظمته وثرائه العقلى وطوفانه الوجدانى.
قال: يا أستاذ أنيس.. لم تقل لى كلاما واضحا فى التليفون حين سألتك عن وفاة الأستاذ العقاد – يرحمه الله – سمعت كلاما كثيرا من الأطباء وغيرهم، ولكن لابد أنك تعرف الحقيقة.. مسكين، لقد تعذب فى وفاته ولم يسعد فى حياته.. وعاش غريبا ومات أكثر غربة وغرابة.. كان غريبا عن عصره لأنه كان يرى ما لا يرى الناس، ويسمع ما لا يسمعون، ولكن كان يعيب على الناس أنها لا تدرك ما يدركه.. مع أنه من المنطقى جدا أن يحدث ذلك.. فهو أطول قامة وأطول باعا، وأقوى بصرا وأعمق بصيرة.. إن الناس يرون بعيونهم المجردة وهو قد اتخذ منظارا مقربا.. ورغم واقعية الأستاذ العقاد، فإنه فى ذلك كان مثاليا.. فهو لم يغفر للناس عجزهم عن ملاحقته، إنما أراد لهم أن يكونوا مثله.
فقد نسى العقاد نفسه.. نسى أنه واقعى، أو أن العقاد لم ينس واقعيته، إنما ضاق بواقعية الناس، وما واقعية الناس إلا عجزهم، وما مثالية العقاد إلا رغبته القوية فى أن يرفع إليه الناس، فإذا لم يطاوعوه لعنهم وضاق بهم.. مع أن الأستاذ العقاد أقدر الناس على فهم الناس.. فكيف غاب عنه عجز الناس وقلة حيلتهم؟ ولذلك فالمستشرقون الذين يضعون العقاد فى صف المثاليين المتطرفين، لم يخطئوا كثيرا، والعقاد هو الذى ربط المثالية والتشاؤم، وكان العقاد هذين الطرازين معا: مثاليًا ومتشائمًا! فالمثالى هو الذى لا يرضيه الواقع ويتمنى أن يكون أفضل، ولذلك فالمثاليون متشائمون لأنهم لا يجدون ما يريدون، ويجدون صعوبة شديدة فى تحقيق ما يريدون، وهم يريدون تحقيق ذلك بين الناس، والناس لا يطاوعونهم، فيزداد غضب المثاليين من الناس، ولذلك فهم متشائمون، وربما كان هذا موقف العقاد من الأطباء أيضًا، إنهم لم يطاوعوه فى تشخيصه لمرضه، فضاق بهم، ورفض دواءهم.. واختار دواءه.. وموته أيضًا!
(لم أجد عندى شهية للفلسفة، ولم أجدنى قادرا على مجاملة طه حسين فى المضى فى هذه المناقشة، ولم أحب أن أتهجم على جسد العقاد فأشرحه ببروده طه حسين، فلم يمت العقاد بعد، إنه هو الآخر ما يزال فى أعماقى، وما يزال فى عينى وفى أذنى، وما يزال دمه عالقا بثوبى، كأنه مات قتيلا، كأنه واحد من أئمة الشيعة، قتلوه.. صلبوه.. ووجدت فى موته تعاسة لى وسوء حظ، فما أسعد الناس الذين لا يعرفون العظماء، وما أسعد الناس الذين لا يملكون الملايين ثم لا يفقدونها فجأة، ما أسعد الناس الذين لم يركبوا طائرة، ثم لا يسقطون منها بلا مظلة.. ما أسعد الذين ولدوا بلا عينين، وما أشقى الذين كانت لهم عيون انطفأت بلا سبب. فانطفأت بهجة الدنيا، وماتت فى عيونهم الحياة).
ثم قلت: والله يا دكتور إن هناك أسبابا أخرى قد أدت إلى الوفاة.. وهى أسباب تافهة، وليس من الضرورى أن يموت العظيم بسبب عظيم.. قد ينزلق على قشرة موز فيموت.. قد يقف الماء فى حلقه ويموت.. كما وقفت الشمبانيا فى حلق الخديو إسماعيل، وكذلك الأستاذ، فقد ذهب إلى أسوان وعاد غاضبا وأقسم ألا يعود.. وأقسم كل عضو فى جسمه وكل خلية فى عقله أن تبر جميعا بهذا القسم، فامتنعت كلها عن العمل فجأة، ولم يعد، هذا كل ما حدث يا دكتور!
سألنى طه حسين: وهذا ما سمعته أيضًا، ولكن لماذا غضب العقاد؟
قلت: لقد بعث إلى أهله فى أسوان بقماش ليجعلوا منه ستائر للنوافذ.. نوافذ البيت الذى بناه، وفوجئ بأن الستائر أقصر مما يجب.. وأن يعض القماش قد استخدم فى أغراض أخرى.. وكان قد بعث بتعليماته الخاصة بتركيب هذه الستائر وكيف ومتى وأين، وكانت غضبة الموت..
قال: ألا ترى أن العقاد كان عصبيا؟
قلت: أرى ذلك.
قال: جاءنى المستشرق الفرنسى لوى ما سينيون، وكان قد ذهب إلى العقاد يهديه كتابه عن «عذاب الحلاج».. أنت تعرف الكتاب ودرسته.. وقد استمعت إلى حديث لك فى الراديو عنه فأعجبنى.. وأعجبنى أنك قلت: إن كل إنسان عرف الحلاج قد تعذب به وله وإلا هذا المؤلف الفرنسى.. فهو طبيب أو وكيل نيابة أو سفاح.. صدقت، فالمستشرق ماسينيون له هذه الصفات.. وعذره أن الباحث يجب أن يكون قاضيا أو طبيبا جراحا لا يهتز أثناء عمله ولا يشارك أهل الفقيد فى حزنهم عليه.. فماذا وجد عند العقاد؟.. قال ماسينيون: إن العقاد نظر إليه بامتعاض شديد وقال: ولكنك يا سيدى لم تفهم الحلاج.. إنك جعلته مسيحيا، ثم تحدثت عن المسيح ولم تتحدث عن هذا الصوفى المسلم العظيم.. كأنك قمت بتهريب الحلاج إلى فرنسا، ثم أعطيته الجنسية الفرنسية وغيرت ملابسه واسمه ودينه أيضًا.. وأرى أنك ارتكبت جريمة تستحق عليها العقاب.. فقال له ماسينيون: إذا كانت النية الطيبة جريمة، فإننى اعترف لك بهذه الجريمة.. فقال له العقاد: إننى أقبل هذا التفسير، وأرى أن تضعه على الغرف الخارجى للكتاب فتقول: عذاب الحلاج جريمة ارتكبها ماسينيون.. فإذا فعلت فسيتكون أول مجرم يدافع عنه العقاد مع إيمانه ببراءته التاريخيه!! هاها.. هاها!
ثم سكت طه حسين ليقول: ألا ترى يا أستاذ أنيس أن العقاد كان قاسيا.. قاسيا فى عصبيته الشديدة؟ ثم إن كتاب ما سينيون ليس كما وصفه العقاد، ولا أعرف بأية لغة قرأه.. إنه مكتوب بالفرنسية ولم يظهر فى أية لغة أخرى.. ربما ظهرت بعض مقالات عن هذا الكتاب.. واحدة ممتعة كتبها عبد الرحمن بدوى.. وواحدة كتبها المستشرق الألمانى «ليمان» وقد ظلم ماسينيون ظلما شديدا.. ومقاله ثالثة كتبها على ما أظن الأب قنواتى، صديقك من رهبان الدير الدومنيكى.. إذن لقد كان العقاد عصبيا منذ وقت طويل جدًا.. ولم يكن العقاد يقبل الدعابة حين تقول له: يا عباس لو أنك تزوجت.. فيقول: يكون ماذا؟ فأقول له: تكون أهدأ نفسيا.. وكان العقاد يضحك قائلا: يا دكتور طه إنى على دين آلهة الإغريق الذين أنت سعيد بالكتابة عنهم.. هل كانوا متزوجين؟ إنهم كانوا يدعون ذلك.. هاها.. هاها.
وتضايقت من طه حسين، وعرف لماذا ظهرت صورة والدى أمام عينى عندما مددت يدى إلى التليفون!
وفى ذلك الوقت عرفت الأحلام المفزعة.. فكنت أرى العقاد يحاكم فى جهنم.. وأراه يفتح مدرسة فى الجنة.. وفى إحدى الليالى تخيلت أننى مع أبى العلاء فى الجنة التى وصفها فى «رسالة الغفران» ومع الشاعر الإيطالى «دانى الليجرى» فى «الجحيم»، وانتقلت من الجحيم إلى «المطهر» استعدادا لأن أدخل مع الأستاذ إلى الفردوس بنفس الترتيب الذى وصفه لنا الشاعر الإيطالى الذى اقتبس الفكرة من شاعرنا أبى العلاء المعرى، وقبل أن ندخل الجنة وضعوا السلاسل فى أيدينا، ووقفت مع الأستاذ فى قفص واحد، أما الذى يحاكمنا معا فهو طه حسين، وقد سمعته يطلب لنا أقصى العقوبة.
وصحوت من النوم.. ووجدت أن هذا يخفى كراهيتى لطه حسين، ولكن لم أجد سببا معقولا لأن أكره طه حسين، ولا أظن أننى كنت أتمنى أن يموت ليعيش العقاد، فإن لم يكن هذا الحلم معناه الكراهية، فهو دليل على الضيق والحزن والظلم الشديد.
وبعد أيام طلبنى د. طه حسين.
قلت له: عندى رسالة إليه من د. عبد القادر حاتم وزير الإعلام، فهو يضم صوته إلى صوتى ويرجو أن نسجل معك برنامجا تليفزيونيا أجمع لك عددا من الأدباء.. يناقشوك، وكلهم تلامذتك.
ذهبت إليه وشرحت فكرتى، وذكرت له بعض الأدباء فوافق، وقبل أن أتركه سألنى: وكم يدفع التليفزيون أجرًا عن هذا اللقاء؟
قلت: كم تريد يا دكتور.
قال: ليس أقل من العقاد.
قلت: موافق.
أى أنه يريد أن يتقاضى مائتى جنيه، ثم عاد يقول لى بسرعة: وأن أتقاضى هذا المبلغ قبل التسجيل.
قلت: موافق يا أستاذ..
ولم أكن أعرف أن هناك مشكلة إدارية، فلم يحدث قط أن أحدًا تقاضى أجرًا قبل تسجيل البرنامج أو إذاعته، وقابلت د. عبد القادر حاتم، ووافق على أن يذهب المرحوم حسن حلمى مدير التليفزيون بنفسه ويدفع له المبلغ، وذهبنا إلى بيت طه حسين، ووقفت سيارة التليفزيون تسد الشارع الصغير، وأدخلونى على طه حسين فى غرفة صغيرة فى الطابق الثانى من الفيلا، وكان قد ارتدى ملابسه، ولكنه كان عاجزا عن الحركة تماما، وكان لا بد من أن تحمله على مقعد وأن ننزل به السلم، وسألنى إن كنت قد أحضرت الفلوس، فقلت: نعم.
فجاءت زوجته السيدة سوزان وأخذت المبلغ وراحت تعده أمامنا.. فوجدته ناقصا، وأخجلنى ذلك، ونظرت إلى السيد حسن حلمى، ولم يعرف الرجل ماذا يفعل.. فعادت السيدة سوزان تعد العشرين ورقة واحدة واحدة، وكان المبلغ صحيحا، وقالت بالفرنسية: مضبوط، وأخرج طه حسين خاتما من جيبه، وأعطاه لسكرتيره فريد شحاتة، ليوقع بالاستلام.
وتركت طه حسين لأرى زملائى، ولأعرف متى يبدأ تصوير هذه الجلسة العائلية التاريخية، ولم أجدهم، فأشار الخادم إلى أنهم فى الحديقة، فلم توافق السيدة سوزان على دخولهم الصالون الذى تغطى بالسجاجيد العجمية الجميلة، وكان العشب فى الحديقة مبللا، ولم نعرف كيف ندخل، ولا كيف نستأذن حرم طه حسين، ولكن سمعتها تصرخ وتلعن الأدباء الذين سيفسدون الصالون الجميل، ولكنها انصرفت لحسن الحظ، لتشهد حفلًا فى السفارة الفرنسية، وكان مخرج البرنامج سعيد عيادة، وطلبت منه أن يوقف سيارة التليفزيون بعرض الشارع، فإذا جاءت زوجة طه حسين فليحاول تعويقها أو تعطيلها أو منعها من الدخول.. فهى لا تقوى على أن ترى الأدباء وقد اتسخت أحذيتهم بطين الحديقة قد جاءوا ينظفونها فى السجاجيد.
وقد ضم البرنامج عشرة من الأدباء والمفكرين، ولما لاحظ طه حسين أن عددهم كبير سألنى: يا أستاذ أنيس كم يبلغ عدد هؤلاء؟
فقد اتفق معى على ألا يزيد عدد الأدباء على خمسة.. لم أرد عليه.
ولما سمع طه حسين حركة وضوضاء حوله قال فى البرنامج: يا أستاذ أنيس لا تعنفوا البيت!
وقبل نهاية البرنامج ذكرنى طه حسين بما وعدته به فقال: يا أستاذ أنيس.. وأوفوا بالعهد!
ولم يفهم الذين شاهدوا البرنامج أو حتى شاركوا فيها ما هذا العهد الذى لم أف به، لقد وعدته أن أدفع له مائتى جنيه إذا كان المشتركون خمسة، وأدفع ضعف هذا المبلغ إذا كانوا عشرة..
ومن المؤكد أننا أفسدنا نظام البيت وترتيبه، ثم نقلنا طين الحديقة إلى كل مكان فى الصالون.. فقد كان إلى جانب الأدباء عمال التليفزيون الذين ينقلون الكاميرات ويضبطون العدسات ويشدون الأسلاك ويضبطون الأنوار.
وفى هذا البرنامج هاجم طه حسين الأستاذ العقاد، وقال إنه لم يفهم كتاب «عبقرية عمر» وفى نفس الوقت لا يوافق العقاد على استخدام المنهج النفسى فى تحليل الشخصيات الأدبية كما فعل العقاد فى شخصية «أبى نواس»، وقال إن حفيده يدرس «عبقرية عمر» ولم يفهمها.. ثم ضحك ساخرا من هذا الكتاب ومن المؤلف أيضًا!
ولم أطق صبرا على ذلك.. وضاق ألوف الناس وأرسلوا للصحف مقالات يهاجمون فيها طه حسين الذى لم يجرؤ أن ينتقد العقاد حيا، فانتقده ميتا، ونشرت الصحف رسائل بعث بها طه حسين يبدى فيها إعجابه الشديد بهذا الكتاب بالذات.. وحملت أنا على طه حسين بعنف فى عدد من المقالات.. وقررت بعد هذه المقالات الغاضبة أن ألقاه، وذهبت إليه فقال: لم أكن أعرف أنك تحب العقاد إلى هذه الدرجة.
فقلت: ولم أكن أعرف أنك تمقت العقاد إلى هذه الدرجة، إن الموت لم يحسم ما بينكما من خلاف.
قال طه حسين: ولكن العقاد قد ألقى محاضرة عن شوقى، ثم هاجمه أخيرًا، ولما سألته أنت عن ذلك قال: ولكن شوقى لم يمت.. فالعقاد لم يمت، ولذلك فأنا انتقده، لأن هناك من يستطيع أن يناقشنى أو يستأنف الحكم فى قضية العقاد.
قلت: ولكن الذى لا يعجبك من العقاد هو الآن الذى أعجبك قبل ذلك.
تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر