الدولة ومواجهة التضخم المستورد

فى إطار سياسة السوق المفتوحة يجب عليك أن تدرك أن الاقتصاديات القوية هى الأكثر قدرة على مواجهة الأزمات وتخطى الصعوبات، كما أن إدارة الأزمة باحترافية تحتاج إلى رؤية متكاملة وعلمية.

ولكى يكون الاقتصاد قويًا فى مواجهة الأزمات العالمية لابد أن تتوافر فيه شروط مهمة منها أن يكون فيها حجم الصادرات أكبر من حجم الواردات، وألا تقع السلع الاستراتيجية تحت وطأة الاستيراد لأنها تستقدم معها حجم التضخم من الخارج، كما أن الدول الكبرى دائمًا ما تتأثر بمحيطها وبما يشهده العالم من أحداث.

إن ما حدث على الصعيد العالمى خلال السنوات الثلاث الأخيرة منذ 2019 وحتى الآن أصاب الاقتصاد العالمى بأكثر من صدمة أطاحت باقتصاديات دول كثيرة، وكانت الدول النامية هى الضحية والأكثر تضررًا من تلك الأحداث (جائحة كورونا – الحرب الروسية الأوكرانية).

فقد ضربت جائحة كورونا الاقتصاد العالمى فارتفع حجم التضخم، الأمر الذى يجعلنا نتوقف عند عدد من النقاط المهمة فى تلك الأزمة العالمية (التضخم العالمي) والذى قد يهدد العالم خاصة دول العالم الثالث بحدوث ارتفاع فى نسب الفقر وأزمة فى الأمن الغذائي.

(1)

هنا أذكر أن المهندس سيد مرعى رئيس مجلس الشعب، والذى كان قبل ذلك وزير للزراعة واستصلاح الأراضي، وخلال ندوة عقدها المجلس بعنوان «الطعام لكل فم» فى أواخر شهر سبتمبر 1976 قال إن العالم بات يبحث عن حل لأزمة الغذاء نتيجة الزيادة السكانية الرهيبة.

وأضاف مرعى أن مصر استطاعت أن تصل بإنتاجية الفدان من القمح إلى 6 أرادب وفى بعض المحافظات وصل إلى 10 أرادب، وتحلم الدولة إلى أن تصل إنتاجية الفدان إلى 12 إردبًا، عندها مع التوسع فى الرقعة الزراعية يمكننا أن نحدث اكتفاء ذاتيًا.

فى ذلك الوقت كان عدد السكان 36.6 مليون نسمة، والآن بلغ حجم إنتاج الفدان من القمح إلى 24 إردبًا وتضاعف حجم الرقعة الزراعية، لكن الزيادة السكانية استطاعت أن تلتهم الفارق الذى تحقق وتجاوز أضعاف الحلم.

إذا فالأمر يحتاج إلى حلول غير تقليدية ورؤية إصلاحية حقيقية، وهو ما اتخذته الدولة المصرية على عاتقها خلال السنوات الماضية من خلال رؤية متكاملة لتأمين الغذاء للمواطن، مع الوضع فى الاعتبار احتمال حدوث هزات عالمية عنيفة فى ظل العولمة والأسواق المفتوحة.

تم التحرك على محور التوسع الأفقى والرأسى معًا فى مجال الزراعة والأمن الغذائى ففى الوقت الذى تم العمل على زيادة إنتاجية فدان المحاصيل الاستراتيجية وفق نظم الزراعة الحديثة، وكذلك المحاصيل الغذائية، كانت عملية التوسع فى زيادة الرقعة الزراعية رغم التهام التعدى على الأراضى الزراعية مساحة كبيرة من الأراضى الخصبة بالبناء عليها.

كما تمت دراسة سبل توفير السلع الاستراتيجية والحفاظ عليها ومواجهة أى هدر فيها، وهو ما تم بإطلاق المشروع القومى للصوامع ليزداد حجم التخزين من المحاصيل الاستراتيجية وعلى رأسها القمح لأكثر من ثلاثة أضعاف.

فقد كان حجم المخزون الاستراتيجى من القمح قبل 2014 لا يتعدى 1.2 مليون طن وهو ما يكفى الاستهلاك المحلى لمدة 37 يوما فقط.

أما خلال الفترة الحالية وبعد الانتهاء من تنفيذ المشروع القومى للصوامع بلغ 4 ملايين طن وهو ما يكفى لمدة 4 أشهر، أى أكثر من ثلاثة أضعاف المدة السابقة.

بل إن المشروع أوقف هدرًا كانت تتسبب فيه الشون والصوامع المكشوفة فى السابق من 10 إلى 15% من حجم ما يتم تخزينه (10ملايين طن) أى ما يقارب من مليون إلى مليون ونصف طن من القمح كانت تهدر قبل 2014 بسبب سوء التخزين.

فقد استطاعت الدولة المصرية امتصاص آثار أزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية وزيادة التضخم فى ذلك القطاع وتخفيف حدة الأزمة على المواطن، فأنشأت المخازن الاستراتيجية، لتخزين 28 سلعة بما يكفى الاستهلاك منها لنحو ٩ أشهر.

فلولا توافر هذا المخزون لما استطاعت الدولة مواجهة التضخم الرهيب فى أسعار القمح العالمية فى ظل الحرب الدائرة حاليًا بين روسيا وأوكرانيا.

بالإضافة إلى زيادة حجم الإنتاج من المشروعات الزراعية الجديدة (مشروع الـ 100 ألف صوبة زجاجية، مشروع مستقبل مصر، توشكى الجديدة، مشروع الدلتا الجديدة، مشروع المليون ونصف فدان، مشروع الريف المصري، مشروع تنمية سيناء) فرغم النمو السكانى الضخم خلال السنوات السبع الماضية والذى تجاوز الـ 23 مليون نسمة، إلا أن الدولة نجحت فى تخفيف آثار تلك الأزمة على المواطن من خلال شبكات الأمان الاجتماعى وزيادة حجم النمو وحزمة القرارات الخاصة بالإصلاح الاقتصادي.

(2)

كما ساهم مشروع المستودعات الاستراتيجية للمنتجات البترولية فى تخفيف تأثير حدة أزمة ارتفاع أسعار الوقود العالمية على المواطن المصري، فقد شهدت أسعار الوقود فى أوروبا ارتفاعًا وصل إلى 500% بعد ارتفاع أسعار البترول والغاز.

كما كان لقرار الدولة بسرعة إنجاز أكثر من 80% من مشروعات البنية التحتية، من طرق ومواصلات وصرف صحى ومياه شرب وكهرباء وغاز طبيعى وإسكان وجودة الرعاية الصحية وتنمية الريف خلال الفترة الماضية، بالغ الأثر، خاصة أن حالة التضخم العالمى الحالية وتأثيرها على مستلزمات الإنتاج وتلك المشروعات كان سيضاعف تكلفة مشروعات البنية التحتية إلى 4 أضعاف وهو ما كان سيحول دون تنفيذها.

كما كان لقرارات الإصلاح الاقتصادى التى اتخذها البنك المركزى فى 2016 دور مهم فى مواجهة محاولات التلاعب بأسعار الدولار فى السوق الموازية، فكان قرار تحرير سعر الصرف رغم صعوبته وما تبعه من تداعيات له أثر إيجابى فى ضبط السوق.

(3)

لقد جاءت القرارات الأخيرة التى اتخذتها الحكومة والبنك المركزى فى الأسبوع الماضى فى التوقيت المناسب لمواجهة الأزمة، وهو ما يدل على أن الدولة كانت لديها أكثر من سيناريو لمواجهة الأزمة والمواقف الطارئة والتعامل معها باحترافية، خاصة بعد أن بدأ محترفو الاتجار بالأزمات فى إشعال السوق ورفع الأسعار، وبدأت عمليات جمع الدولار من السوق والمضاربة عليه، فكان قرار رفع الفائدة وقيام البنوك بطرح شهادات ادخارية بفائدة 18% لمدة عام بمثابة القرار المناسب فى الوقت المناسب لتقوية الجنيه فى مواجهة الدولار والحفاظ على حرية التداول للحفاظ على مناخ الاستثمار الجاذب والذى يعتبر مصر من الأسواق الواعدة.

كما جاء قرار تحديد سعر رغيف الخبز السياحى والوزن دليل على قوة الدولة وقدرتها على السيطرة على السوق وحماية المواطن فى ظل ما تمتلكه من مخزون استراتيجى من القمح.

كما قامت الدولة بطرح السلع بأسعار مخفضة لضبط الأسواق واستطاعت منافذ وزارة التموين والمجمعات الاستهلاكية والمعارض (أهلا رمضان) ومبادرة (كلنا واحد) التى تقودها وزارة الداخلية ومنافذ وزارة الزراعة واستصلاح الأراضى ومنافذ جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة الثابتة والمتنقلة، ما ساهم فى ضبط الأسواق مع قيام أجهزة الرقابة بمتابعة الأسواق وضبط المتلاعبين بالأسعار لاستغلال الأزمة العالمية لتمتلئ جيوبهم من أموال الناس بالباطل.

واستطاعت الدولة توفير كافة الاحتياجات للمواطنين مع وجود مخزون لديها استطاعت أن توفره من خلال استغلال المخازن الاستراتيجية بالشراء خلال فترة استقرار الأسعار لمواجهة فترات التضخم وارتفاع الأسعار غير المسبوق عالميًا.

لقد كان للتضخم المستورد والذى نشأ بسبب اعتماد الدولة على السلع والخدمات المستوردة من الخارج، وهو ما تعمل الدولة على مواجهته من خلال برنامج الحكومة لإحلال المنتج المحلى بدلًا من المنتج الأجنبي، وكذلك برنامج زيادة الصادرات لتصل إلى 100 مليار دولار سنويًا.

وقد استطاعت أن تخطو الدولة المصرية خطوات مهمة فى هذا البرنامج حيث بلغ حجم الصادرات المصرية 32 مليارًا و 128 مليون دولار عام 2021 مقابل 25 مليار دولار 427 مليونا خلال عام 2020 محققًا زيادة بلغت 26%، وهو رقم غير مسبوق فى حجم الصادرات المصرية.

كما جاء قرار الحكومة بزيادة حزم الحماية الاجتماعية وبلغت تكلفة مواجهة الأزمة 130 مليار جنيه بعد قرار التعجيل بصرف العلاوات السنوية لمواجهة التضخم المستورد والذى يؤثر على السوق المحلي.

لقد عجلت الحكومة بالقرارات لتفادى زيادة موجة التضخم عن مستوى لا يمكن معه احتواؤها وتكون آثاره على المواطن البسيط بالغة.

خلال الاحتفالية بيوم المرأة المصرية أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن الدولة المصرية لا تعانى من أى نقص فى السلع الأساسية أو الوقود رغم ارتفاع أسعار الوقود عالميًا.

قائلًا: «ومفيش مشكلة بفضل ربنا فى أى سلعة أساسية... حاجتنا موجودة وزيادة وده فضل ربنا علينا... وجهد الدولة وجهدكم.»

يرجع ذلك إلى الدور الذى أسهم به مشروع تخزين القمح فى توفير احتياجات الدولة من المحاصيل الاستراتيجية.

أضف تعليق

تدمير المجتمعات من الداخل

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2