جمال الدرة: القضية الفلسطينية لن تموت بفضل مصر

جمال الدرة: القضية الفلسطينية لن تموت بفضل مصرجمال الدرة

من ينسى ذلك المشهد المأساوى الذى روع العالم، فى 30 سبتمبر قبل 22 عاما، ولدٌ ووالده فى غزة، يواجهان وابلا من الرصاص المنهمر، وهما أعزلان من كل شيء يحميهما أمام أحدث الأسلحة، التى يمتلكها جيش الاحتلال الاسرائيلى، أغتيل الولد برصاصات الغدر الإسرائيلية، ونجا الأب، لم يكن أول طفل فلسطينى ينال هذا المصير المؤلم، دفاعا عن زهرة المدائن، ولن يكون الأخير، لكن الطفل الشهيد محمد الدرة، أصبح أيقونة الانتفاضة الفلسطينية الثانية التى اندلعت عام 2000، حين أثارت صرخاته الرأى العالم العالمى، واستنهضت ضمير الإنسانية من سباته العميق، حتى أصبح علامة مضيئة فى كفاح شعب فلسطين لتحرير أرضه المحتلة.

وفى الذكرى الثانية والعشرين لاستشهاد محمد الدرة، فتح والده جمال الدرة، قلبه لـ« أكتوبر - بوابة دار المعارف» ليروى أدق تفاصيل ذلك اليوم الحزين، وحكى لنا الأب قصة الدم والنار فى استشهاد نجله محمد الدرة وهو بين أحضانه. وكيف ضرب الغليان عواصم العالم أجمع؟، فور بث هذا المشهد المروع مباشرة عبر شاشات الفضائيات.. وهنا تفاصيل الحوار:

فى البداية .. نريد أن نعرف منك حقيقة ماذا جرى فى 30 من سبتمبر 2000؟ وكيف أصبحت ونجلك محمد فى عين معركة إطلاق النار؟


كانت البداية «فى يوم 28 سبتمبر عام 2000، حين قام أرئيل شارون باقتحام المسجد الأقصى بالقوة المسلحة، وقال إن «الحرم القدسى سيبقى منطقة إسرائيلية».. ما أثار استفزاز المصلين الفلسطينيين، وبدأت الاشتباكات مع شرطة الاحتلال فى الضفة. وفى 29 سبتمبر، قبل الواقعة بيوم، وكان ابنى محمد يطمح فى شراء سيارة أكبر غير الموجودة عندنا فى البيت، لأن عدد أفراد الأسرة كان وقتها 9 أفراد».


«توجهت يوم السبت 30 سبتمبر من المخيم إلى مدينة غزة، والمسافة كانت 7 كيلو مترات، ولم نوفق فى شراء السيارة من سوق السيارات.. محمد كانت عقليته أكبر من جسده، وكان قوى البنية».
«رجعت أنا ومحمد من سوق السيارات إلى المخيم، وكانت هناك مناوشات من معبر رفح إلى معبر بيت حانون فى فلسطين المحتلة، وقبل المفترق بعدة أمتار، كان هناك تواجد كثيف لجنود الاحتلال، فالسائق قال: لا.. ما بقدر أكمل الطريق».


ولماذا لم تفكر فى العودة أو تنتظر حتى انتهاء إطلاق النار؟

«النقطة التى شاهدها العالم كنا أنا وابنى عُزل، لا معنا سلاح، واعتقدت أنها ثوان وينتهى إطلاق الرصاص.. وضعت ابنى خلف ظهرى وضغطت عليه بأيدي، أصيب محمد أول إصابة فى ركبته اليمنى، وصرخ قائلا: «طخونى الكلاب.. طخونى الكلاب.. طخونى الكلاب».

المشهد يوضح أنك كنت تتحدث فى الهاتف.. بمن استنجدت حينها؟
«كنت أتصل بخدمة الإسعاف».

ما هى آخر الكلمات التى قلتها لطفلك الشهيد.. وبماذا رد عليك؟
كنت أقول له لا تخف، ويرد محمد الدرة: «أنا مش خايف وأنا عندى قوة تحمل خارقة».

هذا المشهد لن يغيب عن أذهاننا للحظة.. صفه لنا كما عشته؟
«أقسم بالله.. أقسم بالله.. كان الرصاص علينا أقوى من زخات المطر.. أطلقوا نيرانهم علينا لمدة 45 دقيقة متواصلة. تلقيت رصاصات فى يدى وذراعى وكتفى وجنبى الأيمن، وأنا أحمى ابنى».

«بعد وقت طويل، بطلع على ابنى لقيت رأسه على رجلى اليمين وظهره إلى الأعلى وفتحة كبيرة فى ظهره.. ثم لفظ أنفاسه الأخيرة. أصابنى الجنون.. ابنى استشهد.. ظللت أتألم فى مكاني.. وأهز رأسه شمالا ويمينا يمكن يكون مغيبا عن الوعى رغم أن كل جسمه كان مطرزا بالرصاص».
«تحسرت على ابنى وظللت أتألم وأقول: «ليه مش أنا وهو لا».

ولم يتوقف الاحتلال عند هذا المشهد الذى رآه العالم، وكان يتمنى أن يمسحنا من الوجود، فأطلق علينا قذيفة حتى يمسح موقع الجريمة.. لكن ربنا كان كريم فالقذيفة ضربت فى حافة الرصيف وطلع منها الغبار الأبيض الكبير، كان الله يحمينا.

ترتبط الذكرى عادة بالمكان.. حدثنا عن الموقع الذى شهد استشهاد الدرة؟

«الموقع الذى استشهد به محمد الدرة، كان اسمه مفترق البوليس الحربى المصرى وهو يربط وسط قطاع غزة بشمالها عبر طريق صلاح الدين، ويقول عنه الاحتلال مفترق «نتساريم»، لأن الاحتلال بنى مستعمرة تقطع الوسط عن الشمال فى قطاع غزة. وأطلق عليه الشعب الفلسطينى مفترق الشهداء، حيث رويت الأرض بدماء الشهداء من أبناء الشعب الفلسطيني».

بعد كل هذه السنوات.. ما شعورك حين تمر الأحداث فى مخيلتك وتطوف بعقلك الظنون؟

«صعب إن ابنك يموت فى حضنك، وتحاول تحميه بكل الطرق ولكن لا تستطيع، هذا صعب، أحيانا يجيلى هاجس أن أفتح القبر وأشوفه؛ لأنى مودعتوش؛ لأنى قعدت فترة طويلة فى المستشفى كنت فى وضع حرج للغاية، ولكن الحمد لله على كل حال».

ما ردك على مزاعم الاحتلال بالتنصل من واقعة اغتيال الدرة أمام أعين العالم؟

«الاحتلال ادعى أن الشريط مفبرك.. لكن ما بعد ذلك، المحطة التى صورت الشريط هى القناة الثانية الفرنسية وهى قناة الدولة فى فرنسا، والمصور هو فلسطينى واسمه طلال أبو رحمة.. الرئيس الفرنسى جاك شيراك، أمر بنشر فيديو اغتيال الدرة دون مقابل على جميع قنوات العالم».

وقد «حاول الاحتلال أن يتنصل من قضية محمد الدرة بأن وضع قبعة إسرائيلية على رأسى ووضع قبعة إسرائيلية على رأس ابني.. طبعا نشرها فى أوروبا كى يثبت للأوروبيين بأن مَن قُتل هم يهود، وقُتلوا برصاص فلسطيني، وقُتلوا بدم بارد.. طبعا فى ذات الوقت شاهد هذه المشاهد مسئول ملف القدس.. وقال هذا فلسطينى وعائلته مهجرة.. ولم ينجح هذا الاحتلال فى هذه التمثيلية».

وخرج علينا نتيناهو قبل عامين تقريبا قبل أن يخلص الحكم حقه.. قال إن محمد الدة حى يُرزق وما زال يشترى لعائلته الخضار والفواكه، طبعا قبح وذم وتشهير فى محمد.

ثنائية الوطن والابن.. ما مدى صعوبة الاختيار للشعب الفلسطينى بين التضحية بأبنائه ونيل استقلال الوطن؟
«الابن عزيز.. وهو فلذة أكبادنا، فاحنا كشعب فلسطينى تربينا على مقاومة الاحتلال، ويجب أن ندافع عن أرضنا من أجل التخلص من هذا الاحتلال.. أسوة بما ما فعلته الدول العربية عند احتلالها.. مصر عندما كانت محتلة دفعت الغالى والرخيص وهكذا كل الدول العربية، والآن نحن ندفع الغالى والرخيص من أجل قضيتنا الفلسطينية».

هل يمكن أن تمحو الأيام ذكرى استشهاد محمد الدرة رمز الانتفاضة الفلسطينية الثانية؟
«الله يرحم شهداءنا وشهداء أمتنا العربية، أنتم تلاحظون وليس أنا، الآن 22 عاما مرت على استشهاد محمد الدرة، ومازال محمدا هو عنوان وأيقونة الانتفاضة الفلسطينية عبر التاريخ، طبعا ذكرى محمد الدرة ستستمر متداولة عبر الأجيال، أطفال لم يولدوا فى توقيت استشهاد محمد، ولكن الآن نلاحظ أنهم سن 16 و17 و18 وحتى 22 عاما، ينزلون مقاطع عن استشهاد محمد فى صفحاتهم الإلكترونية، ذكرى محمد ليست خاصة بعائلة الدرة».

هل تعرضت لمحاولات اغتيال من الاحتلال؟
«طبعا تعرضت لكثير من المواقف الصعبة، تعرضت لعملية تهديد بالقتل مرتين، إحداهما فى باريس، وحكيت الكلام للمسئولين.. وكان ردى على تهديدات الاحتلال: أنا مت 100 مرة يوم استشهاد ابنى، ما المشكلة أن أُقتل مرة أخرى.. وموتى لن يغلق القضية، قضية محمد الدرة لن تموت، وهناك من يحمل الأمانة بعدي.. إن كنت حيا أو ميتا».

بعد استشهاد محمد الدرة، تعرض منزلك للهدم بصواريخ الاحتلال عدة مرات.. كيف حدث ذلك؟
«فى عامى 2008، و 2009 تم تدمير بيتى من قِبل الاحتلال الاسرائيلى، وكان التدمير مستهدفا، اتصل الاحتلال على التليفون فى الليل، وطلب منا إخلاء المنزل خلال 10 دقائق، لأنهم سوف يطلقون الصواريخ عليه، وكان الوقت غير كاف لأن عندى 10 أولاد وزوجتى وكانوا نائمين.. خرجنا بأعجوبة من المنزل، خرجنا بملابسنا المنزلية.. ودمرت الطائرات منزلنا مرتين».

«وفى حرب 2014، تم ضرب البيت من أعلى بالصواريخ عدة مرات، إلى أن تم تدميره كاملا، ولا يشعر أى فلسطينى بالأمن داخل منزله، لأنه تهدم منازلنا يوميا بهذه الطريقة، وتم مسح عائلات فلسطينية من السجل المدني، هذه بلدى وقضيتي، حتى لو هجرت بلدي».

مرت 22 سنة ومازالت قضية استشهاد الدرة حبيسة الأدراج فى المحاكم، ولم يصدر حكم حتى الآن، فما السبب؟
إلى هذه اللحظة لم ألق الدعم المطلوب لرفع قضية فى محكمة العدل الدولية فى لاهاى، لأن قضية محمد الدرة قضية وطن وشعب وأمة.. وأتمنى المساندة الكاملة لهذه القضية «قضية فلسطين» وليس قضية الدرة.

وقد ربحنا القضية عدة مرات وبعد كل مرة نربح القضية يتم الاستئناف لأنى كنت وحدى، ولم يكن معى إلا الله، بالرغم من إنى ناشدت كل العالم.. وما زلت أناشد.. وأتمنى أن يسمعنى أحد، ليقف بجانبي، لأن القضية ليست قضيتي، القضية قضية وطن وشعب وأمة.

سمعنا أنه جار إعداد فيلم وثائقى عن الشهيد الدرة.. فما الحقيقة؟
«إذا كان هناك فنانون جاهزون لعمل فيلم وثائقى عن استشهاد محمد الدرة، فنحن جاهزون وندعمهم بكل شىء.. محدش فينا يحب يفقد عزيز، لكن ربنا أراد ذلك، والحمدلله ربنا أكرمنى بمحمد شهيد وأكرمنى بمحمد حي، الآن لدى ابن آخر اسمه محمد، عمره 20 عاما، وهو نسخة من محمد الشهيد، نفس الصورة نفس الشخصية، كنت أتمنى إنى أشوف محمد الدرة عايش وناجح ومستقر وعنده أولاده مثل كل أبناء العالم».

هل تواصلت منظمات حقوق الإنسان الأممية والدولية معك بعد حادث استشهاد محمد الدرة؟
«طبعا لا.. لم تتواصل معى أى جهة أو منظمة من منظمات حقوق الإنسان الأممية أو الدولية، كانوا تواصلوا مع كل أهل غزة، لا يهمهم الشأن الفلسطينى.. أنا مؤمن إن لو كان للشعب الفلسطينى حقوق مثل أوروبا لكان الشعب الفلسطينى أفضل بكثير».

قدمت مصر أدوارا متعددة فى القضية الفلسطينية، كيف يرى الشعب الفلسطينى دور مصر تجاه القضية الفلسطينية؟
الدعم المصرى ما زال مستمرا لإنهاء الانقسام بين أبناء الشعب الفلسطيني.. مصر لم تتوقف ولا ثانية واحدة فى عملية إنهاء هذا الانقسام.. وأنا أناشد الرئيس عبد الفتاح السيسى، والحكومة المصرية، والشعب المصري، بالضغط الكامل لإنهاء هذا الانقسام اليوم قبل الغد.
مصر قوية وستبقى قوية، مصر هى أم الدنيا، هى أم الأمة العربية، بدون مصر لن تكون هناك أمة ولن تكون هناك قضية فلسطينية.. تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.

ما الرسالة التى توجهها للدولة المصرية؟
أنا «والد شهيد» أشكر الرئيس عبد الفتاح السيسي.. وأشكر كل أجهزة الدولة المصرية.. وأشكر الشعب المصرى على الدعم والمساندة لأبناء شعبنا عبر التاريخ.. ما زال الشعب المصرى إلى الآن وفى المستقبل هو داعم ومساند لقضية الشعب الفلسطيني، بكل حرب على فلسطين، نحن نرى بأعيننا الأجهزة المصرية، تكون عبارة عن مكوك متحرك خلال الـ 24 ساعة ما بين الجانب الفلسطيني، وما بين هذا الاحتلال، لوقف العدوان ولجم العدوان عن أبناء شعبنا الفلسطيني».


جمال الدرة يتحدث إلى الزميل عمرو حسين

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2