يبدو ال حنين إلى الماضي، فى هذا الفيلم الإيطالي للمخرج ماريو مارتوني، كما لو أنه داء لا شفاء منه. حتى لو كان ال حنين سيستدعي أسوأ الذكريات، وأعقد المشاكل، فلا يمكن التنازل عنه.
الفيلم نفسه يحمل اسم "نوستالجيا"، وقد عرض فى مسابقة مهرجان كان 2022، من بطولة الممثل بيير فرانشيسكو فافينو، فى أداء جيد، حيث لا يغيب تقريبا عن كل مشاهد الفيلم، مجسدا دور رجل عائد إلى نابولي بعد غربة استمرت 40 عاما، عاشها بين بيروت والقاهرة، تغير خلالها كل شيء، وتغير هو، حيث صار رجلا مسلما فى منتصف العمر، يتحدث العربية، وله زوجة طبيبة فى القاهرة، وشركة لأعمال الإنشاءات فى مصر، ولكن عودته إلى نابولي، تعيده إلى ذكريات بعيدة، وإلى عالم جديد مختلف، محوره أمه العجوز، وصديق مرحلة المراهقة القديمة.
ما يلفت النظر فى الفيلم ليس تيمة العودة إلى الوطن والذاكرة، ولا تلك العبارات المكتوبة على الشاشة قبل بداية الفيلم، والتي تقول إن "المعرفة الحقيقية هي الحنين"، والتي تؤكد على أن "من لا يمتلك نفسه لا يمتلك أي شيء"، ولكن الجدير بالملاحظة حقا هو تلك المفارقة التي صنعت الصراع الحقيقي فى الفيلم، وأعني بها نظرة بطل الفيلم الرومانسية والمثالية (الشخصية اسمها فوتشيني لاسكو)، والتي تتصادم معها نظرة واقعية خشنة وعنيفة، يمثلها رفيق طيش المراهقة، وصديق الماضي، الذي صار زعيم عصابة مخيف، يمارس كل الموبقات فى نابولي. الفيلم عن ذلك الصراع الذي سيقود فوتشيني إلى مأساة، وسيجعل منه بطلا تراجيديا بامتياز، تقوده النوايا الحسنة الى حتف مؤكد.
الفيلم إذن يحلل فكرة ال حنين الرومانسية، ويقدمها من زاويتين: زاوية عودة فوتشيني إلى أمه العجوز، ورعايته لها، بعد أن اشترى لها بيتا خاصا، ومن أجمل مشاهد الفيلم قيامه بمساعدة أمه على الاستحمام، مثلما كانت تفعل معه وهو طفل صغير، ويكمل فوتشيني دائرة ال حنين بوداع أمه بعد وفاتها.
نكتشف أنه ربما يشعر بالذنب ناحيتها، رغم تواصله معها وهو فى الغربة، فقد كان مراهقا شقيا ومزعجا ومتمردا، ومن هنا ننتقل إلى الزاوية الأخرى للحنين، ببحث فوتشيني لاسكو عن صديقه القديم، وكان الاثنان يشتركان فى التمرد والشغب والعراك، ووصل الأمر بهما إلى درجة سرقة رجل فى بيته، وقيام الصديق بقتل الرجل، ثم هروب فوتشيني الشاب إلى بيروت للعمل فى شركة قريب له.
فوتشيني ما زال يرغب فى لقاء صديق المراهقة، الذي صار اليوم يدعي بادمان، يخافه الجميع. يحذره بادمان من البقاء فى نابولي، يطلب منه عبر رجاله، وفى لقائهما المباشر، أن يرحل إلى مصر، ولكن فوتشيني يريد البقاء فى نابولي، وإحضار زوجته، ويوكد لبادمان إنه لن يقول شيئا عن جريمة الماضي، ولا يريد لصديقه ضررا، وهي نظرة ساذجة لا تقنع واقعية رجل العصابات بادمان.
بين الرجلين يوجد بطل ثالث هو قس الكنيسة، الذي يبدو مزيجا بين الواقعية والرومانسية، هو يؤمن بالخير، ويعظ المصلين، ولكنه ينزل الى المدينة الفقيرة، ويرعى أهلها الذين يتاجرون فى المخدرات، والذين يخضعون لعصابات الكومورا. والقس أيضا شجاع وذكي، يقاوم الفراغ لدى الشباب بتوفير مكان لتدريبهم على ممارسة الرياضة، وعزف الموسيقى، إنه عملي وواقعي، ولكنه يحتفظ بسر جريمة الماضي، التي حكاها له فوتشيني، لأنه يعتبرها مثل اعتراف ديني، رغم أن فوتشيني قد صار مسلما.
كانت مأساة فوتشيني أنه ما زال فى الماضي، وأنه افترض أن ال حنين والذكريات المشتركة موجودة بنفس الشكل عنه بادمان، رجل العصابات يحب صديقه القديم، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يترك مصيره كمجرم محترف فى يد فوتشيني، وهكذا يتحول ال حنين الى كابوس .
رومانسية فوتشيني مؤثرة حقا، سواء فى علاقته مع أمه، أو فى بحثه عن مدينة الموتى الأثرية، وحتى عندما يجد صورة أثرية لفتاة إفريقيا، يتذكر على الفور زوجته المصرية، وتظهر مشاهد العودة إلى الماضي فى نابولي، وركوب الموتسيكلات فى شبابه مع صديقة، بحجم خاص على الشاشة، وبموضة السبعينيات المعروفة، إنه لم يخرج من الماضي، رغم أربعين عاما عاشها خارج إيطاليا.
يمكن أن تقرأ الفيلم أيضا بوصفه مقارنة بين رومانسية الشرق ( بيروت والقاهرة)، وواقعية نابولي، التي يقدم المخرج مشاهد تسجيلية لها، وقد تهدمت مبانيها، وانتشرت فيها المهاجرون، ومع ذلك لم ير فيها فوتشيني سوى مراهقة مفقودة، وأما تستحق الرعاية، وذنبا جدير بالاعتراف.
المخرج ماريو مارتوني هو أيضا مخرج مسرحي وأوبرالي، واستخدامه للمعزوفات الموسيقة فى الفيلم ممتاز ومؤثر، ولكنه قدم عملا سينمائيا خالصا، بانتقالات سريعة وذكية، وبإحساس رائع بالمكان، وهو أمر تعودنا عليه مع المخرجين الإيطاليين ورثة الفن والمعمار والموسيقى والأوبرا، كما تعودنا براعة ممثليهم من بطل الفيلم، إلى الممثلة العجوز التي قامت بدور الأم.
ربما كان الشرق فى الفيلم مجرد شبح هائم وسطحي، وربما كانت لهجة الزوجة المصرية مضحكة، إذ أسند الدور لممثلة عربية وليست مصرية، ولكن الفيلم يمتلك نموذجه الإنساني المثير للتعاطف، ويمتلك أيضا أجواءه الخاصة عن نابولي، وحكايته تلمسنا، لأننا جميعا لا نستطيع التخلص من الماضي، ونتذكر أحيانا أشياء مؤلمة، وغير سارة، لمجرد أنها جزء من حياتنا، كما أننا نتوقع فى أحيان كثيرة أن يتصرف الآخرون مثلنا، بينما يكونون قد تغيروا إلى الأبد، فى أوقات غيابنا عنهم.
كلنا شخصيات تراجيدية، بمعنى من المعاني، مثل بطل الفيلم، ولذلك تلمسنا حكاية فوتشيني وأمه وباد مان من الأعماق.