عذرًا فما قصدته أنه في عام 1963 قدم المخرج الأمريكي «ستانلي كريمر» فيلم « عالم مجنون مجنون مجنون » عن قصة الكاتبين «وليام روز، وتانيا روز» يروي الفيلم القصة فى قالب كوميدي، لمجموعة من الشخصيات انتهى بهم المطاف في مستشفى السجن، بعد أحداث كثيرة بحثًا عن كنز مسروق، لم ينجحوا فى الحصول عليه.
وكأن القوى الدولية حاليًا تعيش أحداث الفيلم، للصراع على مناطق النفوذ، دون إدراك أنها تخلّف أزمات طاحنة تضرب العالم بما فيها شعوبها.
فما بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، لا تجد موطئًا إلا وقد ارتفعت فيه حِدة الصراع وبات قرع طبول الحرب أسهل من أنفاس البشر، وأصبحت الآلة العسكرية أكثر حديثًا، ففشلت السياسة فى إسكات البنادق فى العديد من المناطق على مستوى العالم، ورغم ارتفاع صراخ مسئولي المنظمات الدولية محذرين من خطورة تلك الأحداث، مطالبين بضرورة التوقف وإسكات المدافع والعودة إلى حديث السياسة، إلا أن مثل تلك النداءات لم تجد لها منصتًا بعد، سوى عبر شاشات التليفزيون أو فى لقاءات بروتوكولية خاصة لدى الدول الكبرى الأمر الذي يزيد من حِدة الأزمة ويرفع من مستوى التوتر.
سنوات مضت والعالم يموج بالأزمات ، خاصة الأزمات المسلحة ، لن تنظر إلى الخريطة إلا وتجد نفسك أمام مواجهات مسلَّحة فى كل مكان، ما بين توترات ومواجهات داخلية، جراء انقسامات أو صراع على السلطة، أو مواجهات خارجية بين دول وأخرى، أو عمليات استعداء من خلال تصريحات أو تحركات ترفع معها الدول درجة استعدادها القتالي إلى الدرجة القصوى.
ورغم أن أزمة جائحة كورونا كانت كاشفة وأثبتت أن العالم يحتاج إلى التعاون والتكامل لا إلى الصراع والمواجهة المسلحة، إلا أن بعض الدول الكبرى وكذا العاملين بالوكالة فى المواجهات المسلحة كان لهم رأي آخر.
لقد أصابت العالم حالة من الجنون بحثًا عن النفوذ والسيطرة، وبناء مشروعات توسعية، أو الاحتفاظ بالقوة حتى وإن كان الثمن حياة الشعوب.
الأمر الذي بات واضحًا بشكل لا يقبل التشكيك أو التقليل من آثار تلك الصراعات والمواجهات المسلحة.
آلاف القتلى والمصابين يتزايدون يومًا بعد الآخر والمحصلة النهائية لا شيء.
وحروب كان المحللون يتوقعون وصولها إلى خط النهاية قبل انتهاء شهرها الأول لنجدها تتجاوز الثمانية وعشرين شهرًا، بل إن الأحداث المتلاحقة تنذر بالاقتراب من صدام مسلح أكثر عنفًا (الحرب الروسية - الأوكرانية) فمنذ الـ 24 من فبراير عام 2022 وحتى الآن لم تتوقف الآلة العسكرية الروسية فى مواجهة نظيرتها الأوكرانية المدعومة من الغرب.
ورغم مناشدات دولية، واجتماعات وقرارات أممية تنادي بوقف الحرب ، إلا أن المحصلة مزيد من القتلى والمصابين وعملية تدمير تخلّفها الآلة العسكرية للبنية التحتية للدول، وأوضاع اقتصادية تزداد سوءًا يومًا بعد الآخر، ليس لدى الدول المتصارعة فحسب بل طالت كل دول الجوار المحيط والحلفاء وكل دول العالم من أصحاب الاقتصاديات الناشئة الذين ليست لهم ناقة ولا بعير فى الأزمة.
شعوب تُطحن والقوى الدولية إما شريك فعال بقوة فى الجريمة وإما مشاهد لا يحرك سوى الإدانة وعبارات الشجب، ودول يُدفع بها دفعًا إلى الفوضى، حالة من عدم الاتزان، البعض يراها مقدمة لمخاض نظام عالمي جديد، والبعض الأخير يراها محاولات لكنها لن تصل إلى مبتغاها قبل عدة عقود، وآخرون يرونها حالة من الجنون الدولي غابت عنها الحكمة فى ظل ترهل المنظمات الأممية التي جاءت عقب الحرب العالمية الثانية لترسي قواعد السلام للحفاظ على البشرية.
ففي الوقت الذي تدعم فيه الولايات المتحدة الأمريكية أوكرانيا فى مواجهة روسيا ، بل تدفع بالناتو بقوة للاقتراب من المواجهة، فقد بلغ حجم المساعدات الأمريكية ل أوكرانيا حتى أكتوبر من العام الماضي 77 مليار دولار بلغ حجم المساعدات العسكرية منها 46 مليار دولار.
بالإضافة إلى دعمها بـ 70 مقاتلة F16 الأمر الذي يشير بقوة إلى أن العمليات العسكرية لن يلوح فى الأفق موعد قريب لتوقفها، فى ظل ما أعلنه الناتو من استمرار دعمه أوكرانيا فى مواجهة روسيا بحزمة مساعدات تبلغ 40 مليار يورو خلال الفترة المقبلة.
فى الوقت ذاته نجد العالم لم يلتفت إلى ضرورة وقف تلك الحرب والوصول إلى اتفاق سياسي فى ظل تنامي الأزمات الاقتصادية العالمية وتأثرها بالصراع المسلح بين روسيا و أوكرانيا ، وما نتج عنه من ارتفاع أسعار الحبوب عالميًا وكذا المواد الغذائية والطاقة.
وكذا تدهور الأوضاع الاقتصادية لدى الدول الداعمة للمواجهات المسلحة من ارتفاع في نسب البطالة وهو ما تعانيه الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة الماضية، فبحسب التقارير الاقتصادية الدولية فقد ارتفع مؤشر التضخم فى الولايات المتحدة خلال شهر يونيو الماضي وحاول الفيدرالي الأمريكي السيطرة على ذلك برفع أسعار الفائدة؛ فخلال يونيو 2024، ووفقًا لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، حيث سجل معدل التضخم ارتفاعًا بلغ 5.8% فى يونيو 2024، وهو أعلى مستوى منذ أواخر عام 2021.
كما ارتفعت نسبة البطالة إلى 4,8% بعد أن كانت فى شهر مايو 4,3% وانخفض معدل النمو.
أزمات تواجهها الشعوب كما هو الحال فى أوروبا التي تأثر قطاع الصناعة بها بشكل كبير نظرًا لتأثر سلاسل الإمداد بتوترات الأوضاع والاضطرابات التي ضربت بعض المناطق ومنها جنوب البحر الأحمر بعد الأزمة التي صنعتها ميليشيات الحوثي باليمن، الأمر الذي ارتفعت معه أسعار التأمين على نقل البضائع لتضاعف أسعار المواد الخام والسلع العابرة للبحر الأحمر أو تلك المتجهة عبر طريق رأس الرجاء الصالح حول إفريقيا، مما يزيد من مدة رحلات النقل البحري وترتفع معه تكاليف نقل البضائع.
رغم إعلان كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عن قيامهما بعمليات ضد ميليشيات الحوثي لتأمين الملاحة إلا أن الواقع يؤكد أن شركات الملاحة البحرية العالمية قد وضعت تلك المنطقة ضمن تصنيف «مناطق عالية المخاطر».
ومن جنوب البحر الأحمر إلى تطورات الوضع فى الأراضي المحتلة وعمليات الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل تحت سمع وبصر العالم، نجد إسرائيل تواجه أزمات اقتصادية طاحنة فى العديد من القطاعات بعد تراجع الاستثمارات وتراجع التصنيف الائتماني وتوقف العديد من الصناعات التكنولوجية وتراجع النمو الاقتصادي الإسرائيلي بسبب الأوضاع الأمنية، الأمر الذي يؤثر سلبًا على إسرائيل اقتصاديًا رغم الدعم الأمريكي العسكري والاقتصادي لحكومة تل أبيب .
ورغم القرارات والمناشدات الدولية بضرورة وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات لإحلال السلام بالمنطقة، مما سيكون له من أثر إيجابي على العالم، إلا أن الحكومة الإسرائيلية تواصل تحركها باتجاه استمرار المواجهة المسلحة والإبادة الجماعية ضاربة بالقرارات الدولية عرض الحائط.
الأمر الذي يزيد معه خطر تفاقم الأوضاع بالمنطقة سواء على المستوى الأمني أو على المستوى الاقتصادي.
فالحكومة الإسرائيلية الحالية لم تعد تعبأ بما يعانيه المواطن الإسرائيلي من أزمات اقتصادية طاحنة، فالهدف الأساسي لديها هو أن تواصل حربها للحفاظ على رئيس الحكومة من المواجهة القضائية.
ورغم تحذيرات بعض الصحف الإسرائيلية من خطورة استمرار الحرب وكذا نبرة العنصرية التي يتبناها وزيرا الأمن القومي والثقافة فى حكومة نتنياهو والتي وصفتها «هآرتس» فى افتتاحيتها يوم السابع من يونيو الماضي بأنها تنذر بانهيار إسرائيل إذا واصل المتطرفون من وزراء حكومة نتنياهو مسار التحريض على قتل الفلسطينيين، وختمت «هآرتس» افتتاحيتها: «ستكون مسألة وقت فقط قبل انهيار إسرائيل النهائي.. لقد بدأ العد التنازلي».
لقد بلغ حجم الإنفاق العالمي على الصراعات المسلحة عام 2023 ما يقرب من 2,24 تريليون دولار، ما يمثل حوالي 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ويعد هذا الرقم مرتفعًا مقارنة بالسنوات السابقة، مما يشير إلى استمرار التوترات والصراعات المسلحة على مستوى العالم.
وبحسب دراسة نشرتها وكالة «بلومبرج» فإن هناك 183 صراعًا مسلحًا إقليميًا فى العالم عام 2023، وهو الرقم الأعلى منذ 30 عامًا.
وكشفت الدراسة التي أعدها ونشرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية The International Institute for Strategic Studies IISS، أن عدد حوادث العنف خلال العام 2023 ارتفع بنسبة 28%، وعدد الوفيات بنسبة 14%.
كما أشارت إلى أنه من غير المستغرب أن تظل أوكرانيا هي المكان الأكثر عنفًا على كوكب الأرض، لكن مع وجود عنف فى أماكن أخرى مثل سوريا والبرازيل وميانمار والمكسيك والعراق وفلسطين ونيجيريا والصومال واليمن وأفغانستان وغيرها، وأعداد اللاجئين الذين شرَّدتهم الحرب مذهلة: أكثر من 6 ملايين فى سوريا، و5 ملايين فى أفغانستان، ومليون فى ميانمار، وفقًا للدراسة.
ففي الوقت الذي ينفق العالم كل تلك التريليونات من الدولارات على الصراعات والمواجهات المسلحة نجد البنك الدولي يتحدث عن أن مواجهة الفقر فى العالم كانت تحتاج إلى التريليون دولار عام 2023، وهو نصف ما أنفقه العالم على الصراعات والنزاعات المسلحة.
إنها حالة من الجنون تلك التي تدفع بها بعض القوى الدولية العالم باتجاه رفع وتيرة المواجهة المسلحة، فى عملية أقرب إلى الانتحار الجماعي.
إن شعوب العالم لم تعد تحتمل ما خلّفته الصراعات والمواجهات المسلحة من أزمات اقتصادية وهو ما تكشفه نتائج الانتخابات فى العديد من الدول.
لقد اتجهت العديد من الشعوب إلى من يمتلكون خطابًا شعبويًا رغم أن العديد منهم لا يملكون رؤية واقعية للخروج من الأزمة، لكن الشعوب تسير باتجاهها لعلها تجد ضالتها فى تخفيف حِدة الأزمات الاقتصادية.
لكن ذلك لن يحدث إلا بإسكات البنادق وصمت المدافع والجلوس على طاولة التفاوض فى كل مناطق الصراع وإدراك أن الحلول السياسية هي المسار الصحيح من أجل حماية الشعوب.
الحرب النفسية
موجة عاتية من الحرب النفسية تم إطلاقها باتجاه العديد من مناطق العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط بهدف إعادة تشكيل الوعي وفقدان الثقة لدى الشعوب من قدرة الأنظمة على قيادة الدول، تلك الموجة تستهدف إعادة إنتاج سيناريو الفوضى بشكل مختلف.