تعيش المنطقة العربية مشهدًا ملتبسًا يجعل من الصعوبة التنبؤ بالأوضاع التى من الممكن أن تأول إليها بعض الدول.
فشل أنظمة عديدة تعانى من صراعات داخلية وتدخلات خارجية، فى إدارة شئون دولها، ولعل أهم تلك التهديدات الأطماع الخارجية سواء من قوى دولية أو إقليمية.
الإرهاب الذى أدت سياسة الولايات المتحدة إلى تمدده بل إعلانه دولة فى أعقاب غزوها للعراق.
فى هذا الإطار تحدث دكتور أحمد يوسف أحمد، أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص فى الشئون العربية والسياسة الخارجية المصرية، والمدير الأسبق لمعهد البحوث والدراسات العربية، والذى طرح عددًا من الرؤى للوضع الراهن فى المنطقة العربية، وإلى نص الحوار.
حوار _ د. نسرين مصطفى
مرت المنطقة العربية منذ 2011 وحتى الآن بأحداث غير عادية أثرت فى وضع الشرق الأوسط.. فما المتغيرات التى مرت بها المنطقة؟
هناك ستة مظاهر رئيسية لهذه المتغيرات يأتى على رأسها تهديد كيانات ومؤسسات الدول الوطنية، وما حدث للإرهاب من نقلة نوعية وتهديد الهوية العربية وتفاقم الاختراق الخارجى للوطن العربى، وهشاشة
التحالفات العربية، بحيث أصبحت غير فاعلة أو مجدية والتباين فى النظر إلى مفهوم الأمن القومى العربى.
متى كانت نقطة التحول فى استغلال القوى الخارجية ضعف الدولة الوطنية فى الوطن العربي؟
ظهر ذلك بشكل واضح بعد الغزو الأمريكى للعراق فى 2003، حيث تعمدت الولايات المتحدة الأمريكية خلق نوع من الاحتقان بين السنة والشيعة فى العراق، وهو الأمر الذى لم يعرف قبل ذلك فقد كانت المشكلات بين أبناء المذهبين عادية بدليل أن نسبة الزواج المختلط بين السنة والشيعة كانت فى حدود الثلث تقريبًا، وكذلك شجع الأمريكيون الأكراد على محاولات الانفصال عن العراق، وبعد ذلك انتشر الفيروس الطائفى خارج العراق إلى اليمن وغيرها مما جعل سيناريو الانفصال مطروحًا فى عديد من الدول العربية الأخرى، وأصبح البعض يقولون إن زمن الحديث عن سوريا الموحدة واليمن الموحدة وليبيا الموحدة والعراق الموحد قد انتهى، ورغم أن الانفصال لم يحدث حتى الآن إلا أن هناك حالة من التفكك المجتمعى وهو ما يشير إلى أن خطر التقسيم لا يزال قائمًا.
مر الإرهاب بمراحل عديدة، فما أخطر تلك المراحل فى رأيك؟
الإرهاب المعاصر بدأ فى أواخر العشرينيات وبالتحديد سنة 1928 عند تأسيس جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وكان من الواضح أن أهدافها سياسية وهى الوصول للسلطة وعندما فشلت فى الوصول إلى السلطة بشكل قانونى، اتخذت من العنف غير المشروع طريقًا لتنفيذ خطتها، وما يشاع من أن السبب فى لجوئهم للعنف هو أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لجأ إلى العنف فى التعامل معهم غير صحيح، فالحقائق التاريخية تؤكد أن الإخوان قبل ثورة 1952 لجأوا إلى العنف فاغتالوا النقراشى باشا وغيره من السياسيين، كما أن الجماعة تفرع عنها عدد من التنظيمات فكانت هى شجرة العنف الإرهابي، ونشهد الآن نقلة نوعية كبيرة فى الظاهرة الإرهابية ولهذه النقلة النوعية العديد من الملامح وتظهر واضحة فيما آلت إليه دول عربية عديدة.
ما أهم ملامح النقلة النوعية فى تطور الإرهاب؟
هناك ثلاثة ملامح للنقلة النوعية للإرهاب على مستوى العالم، أولها توظيف القوى الكبرى للإرهاب لتحقيق أغراضها وأكبر دليل على ذلك دعم الولايات المتحدة لتنظيم القاعدة بدعوى محاربة الكفر والإلحاد متمثلاً فى الاتحاد السوفيتى إبان تدخله فى أفغانستان، وقد خرج التنظيم لاحقًا عن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية، وتكرر تركيا الآن على سبيل المثال ما قامت به الولايات المتحدة فى الماضى فى وسوريا وليبيا حيث تنقل الإرهابيين من سوريا لمحاربة الجيش الليبى وتنقل الإرهابيين من سوريا لمحاربة أرمينيا فى أذربيجان.
والملمح الثانى أنه لأول مرة فى التاريخ المعاصر، ينجح الإرهاب فى تكوين دولة وذلك بعد الغزو الأمريكى للعراق وتفكيك أواصر الدولة والمجتمع فى العراق، فوجد الإرهاب فرصة ذهبية لإقامة دولته، خاصة أن جانبًا من قوته العسكرية اعتمد على الجيش العراقى بعد حله من قبل الولايات المتحدة على أساس أن هذا نوع من المقاومة للقضاء على الوجود الأمريكي فى العراق، وقد نشأت دولة الإرهاب بداية من الموصل ثانى كبرى المدن العراقية بعد بغداد، فأصبح له لأول مرة دولة ذات موارد من النفط ولها سكان تفرض عليهم ضرائب، كما استولت على ودائع البنوك وأصبحت تسيطر على سدود وتبيع النفط لتركيا، وقد تمددت هذه الدولة لاحقاً عبر الحدود السورية - العراقية ودامت لأكثر من ثلاث سنوات من يونيو 2014 وحتى أواخر 2017، وجنبًا إلى جنب مع هذا التطور الخطير نشأ كيان فى سرت بليبيا يتبع داعش، كما حاول تنظيم بيت المقدس إقامة دويلة فى سيناء إلا أنه فشل فى ذلك وأحبطت محاولاته.
ويأتى الملمح الثالث وهو التعايش مع الإرهاب والاعتراف به ويظهر فى موقف الولايات المتحدة من عقد اتفاق مع طالبان فى أفغانستان فى الفترة الأخيرة، بعد أن غزت أفغانستان فى 2001 لاحتضانها تنظيم القاعدة الذى نفذ أحداث 11سبتمبر 2001، وهكذا أصبحت طالبان الإرهابية قوة شرعية باعتراف الولايات المتحدة مما يفتح الباب لمواقف مماثلة وهو ما يعنى اعترافًا دوليًا بالإرهاب.
هل نجحت مصر فى القضاء على الإرهاب؟
مصر نجحت فى التخلص من بؤر الإرهاب فأصبحت العمليات الإرهابية التى تقوم بها بعض البؤر القليلة المتبقية بمثابة عمليات يائسة، كما أن أعمال التنمية الحقيقية فى سيناء تمثل خطوة أساسية فى قطع دابر الإرهاب، لكن خطر الإرهاب بصفة عامة لا يزال قائما فتنظيم داعش يحاول إثبات وجوده، ولا تزال هناك دول هشة معرضة للخطر خاصة فى ظل مبدأ الذئاب المنفردة، ووضع قوى دولية وإقليمية يدها فى يد الإرهاب.
لدى الوطن العربى إشكالية فى الهوية فرغم التقارب فى الدين واللغة والثقافة والتاريخ إلا أن الوطن العربى يعيش حالة من التشرذم؟
الهوية العربية تمر الآن بحالة من التهديد، وقد ظهرت الهوية العربية فى أواخر الحكم العثمانى للدول العربية بسبب ما عانته هذه الدول من هذا الحكم وويلاته، فبدأت الأصوات تتعالى لإعلاء الهوية العربية كأساس للخلاص من الحكم العثماني، وبدأت الأفكار والأحزاب القومية العربية فى التبلور لإنقاذ العرب من ويلات العثمانيين، وفى الخمسينيات من القرن الماضى ازدهرت الأفكار القومية خاصة بعد ثورة يوليو المصرية والزعامة الكاريزمية لعبد الناصر، ووصل هذا الازدهار ذروته بإقامة الوحدة بين مصر وسوريا، وأصبحت الوحدة العربية هدفًا يلقى تأييدًا جماهيريًا واسعًا، إلا أن الهوية العربية الآن معرضة للتهديد بفعل عوامل خارجية وداخلية أيضًا.
كيف حدث تهديد للهوية العربية داخليًا؟
بفعل التنظيمات التى نسبت نفسها للإسلام فقسمت التنظيمات السنية العرب إلى مسلمين ومسيحيين، وأكملت التنظيمات الشيعية المهمة بالتفرقة بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة بما يفضى إلى تفكيك الهوية العربية بالكامل، ومن ناحية أخرى هناك تهديد للهوية العربية استناداً لوجود قوميات غير عربية تعيش على الأرض العربية كالقومية الكردية، والحقيقة أن العروبة السمحة تحتضن هذه القوميات.
وماذا عن التهديدات الخارجية للهوية العربية؟
تهديد الهوية العربية بفعل عوامل خارجية قد برز بصورة واضحة عقب غزو الولايات المتحدة للعراق، حيث تسببت ممارساتها فى إحداث احتقان بين السنة والشيعة فى العراق، كذلك مارس النظام الإيرانى ممارسات فى صالح شيعة العراق، ونفس الأمر فعلته التنظيمات الإسلامية السنية بالنسبة للعرب الشيعة، فأصبحت الهوية العربية مهددة من الداخل والخارج معًا، ويجب أن ننبه على أن التهديد لا يزال موجودًا طالما أسبابه موجودة وهو ما يهدد تماسكنا كأمة بطبيعة الحال.
ما أهم التهديدات الخارجية التى تواجه المنطقة العربية؟
تفاقم الاختراق الخارجى هو أخطر التهديدات التى تواجهنا الآن وخلال حكم الزعيم جمال عبد الناصر فشلت الولايات المتحدة فى اختراق المنطقة العربية أو السيطرة عليها حين تصدى لحلف بغداد ومن بعده مشروع ايزنهاور ففشلت محاولات الغرب آنذاك لاختراق الوطن العربى، أما الآن فمحاولات الاختراق حققت نجاحًا كبيرًا بعد الثورة الإيرانية فى 1979 حيث أوجدت لها أذرع فى بعض الدول العربية كسوريا ولبنان والعراق واليمن، ثم جاء الاحتلال الأمريكى للعراق فمثل قمة الاختراق كذلك هناك حضور عسكرى تركى إكراهى فى سوريا والعراق وبالاتفاق مع حكومة السراج فى ليبيا، كذلك نعلم أن لتركيا قاعدة فى الصومال وأخرى فى قطر وكانت على وشك إقامة قاعدة فى سواكن السودانية لولا سقوط حكم البشير، فضلاً عن احتضانها جماعة الإخوان المسلمين التى تسعى لزعزعة الاستقرار فى مصر والوطن العربي.
هل تغير مفهوم الأمن القومى العربى؟
مر مفهوم الأمن القومى العربى بعدة مراحل فبدأ مع بداية نشأة النظام العربى بعد الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945، حيث تأسست جامعة الدول العربية والتى تزامنت مع نشأة دولة إسرائيل على جزء من الأراضى الفلسطينية والتوحد ضدها، وظل مفهوم الأمن القومى العربى حتى السبعينيات يقوم على فكرة التهديد الرئيسى الواحد وهو التهديد الإسرائيلي، فكان التلاحم العربى ضد هذا التهديد فى عدوان 1967 ثم فى حرب 1973، ومع نجاح الثورة الإيرانية أصبحت الأمور مختلفة إلى حد ما، خاصة بعد أن أعلنت إيران صراحة مبدأ تصدير الثورة (نصرة المستضعفين) فأصبح هناك تهديد آخر للمنطقة العربية فتقاسم الخطر الإيرانى والإسرائيلى تهديد المنطقة العربية.
هل لا يزال فى الإمكان إيجاد أرضية عربية مشتركة؟
هناك مظاهر للتكامل العربى لا يجب التفريط فيها من أجل محاولة التوصل إلى صيغة للأمن العربى المشترك، خاصة أن السبيل الوحيد لإيقاف الأطماع فى المنطقة العربية هو الوعى بضرورة الوحدة والتكاتف وتجاوز الخلافات لمواجهة الأخطار الخارجية، فالتاريخ يؤكد أنه كلما اتحد العرب تضاعفت قوتهم كما حدث بعد هزيمة 1967، حيث اعتبرها العرب هزيمة للجميع ونبذوا الخلافات إلا أن هذا الملمح للأسف بدأ يتوارى بعد الغزو العراقى للكويت، ثم الغزو الأمريكى للعراق.
بتولى بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية هل من الممكن عودة التأييد الأمريكى لجماعة الإخوان الإرهابية للعب دور سياسى فى المنطقة العربية؟
هناك نوع من المبالغات فى تأييد الولايات المتحدة للإخوان لأن هناك انقسامًا داخليًا حول هذا الأمر، فثمة فريق يعتبر أن الإخوان يمكن أن يمثلوا آلية للتوصل إلى حكم ديمقراطى يقطع الطريق على التنظيمات الإسلامية العنيفة كداعش والقاعدة، وهناك فى الوقت نفسه فريق آخر يعتبرها تنظيمًا إرهابيًا يجب التصدى له، وفى عهد أوباما انتصرت فكرة أن الإخوان تمثيل للإسلام المعتدل إلا أنهم فى الحقيقة أصل شجرة الإرهاب، وأرى أنه من الصعوبة عودة بايدن إلى ممارسات نظام أوباما مرة أخرى فإخوان ٢٠٢١ ليسوا بالتأكيد هم إخوان ٢٠١٢ فقد انكشفت ممارساتهم الفاشية فى مصر وغيرها.
كيف ترى محاولات تركيا لمد نفوذها فى المنطقة العربية؟ وكيف ترى الدور المصرى فى إيقاف التمدد التركى فى ليبيا؟
تركيا كانت لاعبًا أساسيًا فى العراق وفى الصراع الدائر فى سوريا، والآن أصبحت لاعبًا فى ليبيا وستقوم بتخريب أى محاولة لتسوية لا تكون فى صالحها، إلا أن تصريحات الرئيس السيسي باعتبار خط سرت الجفرة خطاً أحمر أدت إلى تراجع تركيا، وأشك أنه فى ظل وجود أروغان يمكن أن تحدث مصالحة أو تراجع عن مشروعه الإقليمي، ويبقى الأمل معقودًا على خسارة أروغان للانتخابات الرئاسية القادمة خاصة أن قوة المعارضة التى ترفض سياسة أروغان آخذة فى التزايد، على الرغم أنه سيفعل المستحيل للحيلولة دون وصولها للسلطة.
هل هناك أمل فى إصلاح الأوضاع بالمنطقة العربية؟
هناك صعوبة كبيرة فى تحقيق هذا الإصلاح يجب ألا تثنينا عن الإقدام على المحاولة، ونقطة البداية تتمثل فى الاقتناع بأننا جميعًا كعرب مهددون من قوى عظمى وكبرى وإقليمية وأن أحداً لن يتطوع لحمايتنا بدون مقابل، وإذا كان من الصعوبة بمكان الآن تحقيق إجماع عربى شامل حول هذه المسألة فإن الدول التى تجمعها رؤى وسياسات متشابهة يجب أن تبدأ فى التنسيق فيما بينها كما يحدث على سبيل المثال الآن بين مصر والعراق والأردن، وسوف يؤدى نجاح هذا التنسيق إلى اتساع نطاقه كما فى تجربة الاتحاد الأوروبى اعتبارًا من ١٩٥٧، والمسألة بطبيعة الحال ليست سهلة وتكتنفها عقبات كثيرة لكنها تستحق بذل أقصى الجهود من أجل ضمان أمن العرب ورفاهيتهم.