صناعة معارضة «ملغمة»

لا يمكن لوطن أن ينهض دون أن يستمع إلى رؤى أبنائه.. ولا لدولة أن تُبنى دون أن يكون لديها القدرة على الحوار من أجل الوصول إلى هدفها الأساسى وهو بناء دولة قوية يتشارك فيها جميع أبناء الشعب من كافة الأطياف والفئات والأيدولوجيات إذا ما توحد لديهم الهدف رغم اختلاف المسارات بعيدًا عن التدخلات الخارجية أو سقوط البعض منهم فى براثن قوى تستهدف إضعاف الدول وتدميرها .. سواء سقط هؤلاء وهم

لا يعلمون حجم الخطر الذى وقعوا فيه فتلك مصيبة أو سقطوا وهم يعلمون تفاصيل ما يقومون به ودورهم الكامل فى إدارة الملف بحثًا عن مكان فى صدارة المشهد وإرضاءً لأطماع بداخلهم منحين قضايا الوطن بعيدًا
لا يستهدفون سوى شىء واحد هو الوصول إلى السلطة.

هنا تصبح الأرض خصبة لانتقاء الشخصيات والبحث عن عناصر لديها الرغبة فى القيام بهذا الدور.

وتصبح الدول المستهدفة مسرحًا لعمليات القوى الخارجية، فيتم جمع المعلومات عن الشخصيات القابلة للتأهيل وتجرى عملية الانتقاء والتوجيه بدقة، بدءًا من اختيار الجهة التى خرج من عباءتها الشخص أو الأيدولوجية التى يؤمن بها أو الصفات الشخصية للعنصر.

(١)

فقد شهدنا خلال العام الجارى كيف استطاعت روسيا استخدام المعارضة فى إقليم الدونباس لاحتلال جزء من أوكرانيا؛ هنا لا نتحدث عن توصيف ما يحدث فى الأزمة الحالية بين موسكو وكييف حتى لا نبتعد عن موضوعنا الأساسي، وهو كيف يتم تصنيع العناصر وغرسها داخل جسد المعارضة الوطنية التى لا تستهدف من خلال طرح رؤيتها للقضايا المختلفة سوى مصلحة الوطن ولا تستقوى على الدولة بالقوى الخارجية.

لم يكن منهج صناعة تلك النماذج وزراعتها فى جسد المعارضة الحقيقية الوطنية بشكل خاص أو جسد الوطن بشكل عام، وليد الحقب التاريخية الأخيرة أو القرنين الأخيرين، بل هو ممتد لما هو أبعد من ذلك بكثير.

وثمة نماذج كثيرة لمن باعوا أوطانهم بحثًا عن سلطة أو مال، ولنا فى ذلك أمثلة عديده منها، ليس على سبيل الحصر:

ابن العلقمى الذى كان يراسل هولاكو سرًا حتى يفوز بحكم العراق ولم يفز بشيء سوى مزبلة التاريخ وغيره مثل والى عكا وخاير بك الذى منحه المصريون اللقب الذى يستحق «خاين بك».

وتطورت صناعة تلك الشخصيات بتطور الزمن حتى أصبح لها شكلًا مختلفًا عقب الحرب العالمية الثانية وخلال القرنين الأخيرين، ومع بداية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقى والغربي.

كانت عملية صناعة المعارضة المعلَّبة أحد أدوات إسقاط الدول وتفكيكها وتحت مسمى الثورة على الأنظمة كانت عمليات التجهيز تواصل عملها.. (هنا دعونا نتوقف قليلًا، فلولا سقوط بعض الأنظمة وانغماسها فى الفساد وترهل الدول لما خلقت البيئة الخصبة لهؤلاء كى ينشطوا وينجحوا فى خلق جماعات تأييد لهم) الأمر الذى يتطلب من الحكومات والأنظمة الوطنية أن تكون أكثر وعيًا وإدراكا لخطورة مثل تلك العناصر وضرورة عدم خلق أرض لبث سمومهم فيها.

كما يتطلب أيضًا من المعارضة والقوى الوطنية أن تكون أكثر قدرة على فرز تلك العناصر وإخراجها من المشهد.

(٢)

نعود لما حدث خلال القرنين الأخيرين فقد استطاعت كل من روسيا من جهة، والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا من جهة أخرى، صناعة العديد من عناصر المعارضة سابقة التجهيز والدفع بها إلى المناطق المستهدفة للبناء عليها بعد تسليط الضوء على تلك العناصر لتأخذ مساحة وسط المعارضة الوطنية ثم سرعان ما يتم تسويقها بقوة على أنها رموز المعارضة الوطنية الثورية، وسرعان ما تكون تلك العناصر قد استطاعت إسقاط العناصر المهمة والفاعلة من المعارضة الوطنية الحقيقية فى شباكها.

لقد استطاع البرتغال احتلال اليمن بعد الدفع بشخص كان يدعى (ياسين) والذى ظهر فجأة ليدير معارك ضد المحتل البرتغالي، وينتصر خلالها حتى أصبح حديث اليمن كافة عام ١٥١٣؛ ثم قدَّم نفسه على أنه ممثل المقاومة فى الحوار مع المحتل البرتغالى ليتنازل عن اليمن.

إنها معارضة معلبة سابقة التجهيز .. وليس القديم ببعيد عن الجديد فلم يكن ظهور «توكل كرمان» فى المشهد اليمنى صدفة عام ٢٠١١، ولم يكن منحها جائزة نوبل للسلام صدفة، فلم ينعم اليمن على مدى ١١ عامًا منذ تكريم كرمان وحتى الآن بالسلام وغاب عن اليمن السعيد تلك الصفة.

ولم يكن اليمن فقط هو من سقط بعض أفراده من الباحثين عن الشهرة والمال على حساب الوطن.

فقد سقط أبناء عدد من دول الوطن العربى فى ذلك المستنقع، فتم تجهيز البعض من تلك العناصر فى الخارج، ثم الدفع بهم إلى صدارة المشهد باسم صناعة الديمقراطية، كما حدث فى العراق عقب الغزو الأمريكى لها عام ٢٠٠٣، أو كما يحدث فى عدد آخر من دول المنطقة.

فعقب سقوط العراق الذى جُهِّز له فى تسعينيات القرن العشرين ثم دُفِع بها نحو تدمير قوة الدولة بعد إدخالها فى أزمات وصراعات لا جدوى منها سوى إرهاق الدولة.

هنا تنشط العناصر وتلقى الدعم اللامحدود من القوى الخارجية المستهدفة للدولة.

وقد شهدت دول المنطقة العربية والشرق الأوسط مرحلة خطرة كانت بمثابة المناخ المناسب لإنبات المعارضة المزيفة والتى تتطلب مجموعة من عناصر تهيئة الإنبات بخلاف التربة الخصبة لذلك، بدءًا من ترهل مؤسسات الدولة، ومرورًا بالأزمات التى يعيشها المواطن والتى تخلق لديه حالة من عدم الرضى وحالة عدم الوعى بالمخاطر التى قد تواجهها الدول، وانتهاءً بالأطماع الشخصية.

(٣)

تمر عملية صناعة ألغام المعارضة المزيفة بعدة مراحل:

المرحلة الأولى:

اختيار العنصر .. وفيها يتم وضع العنصر المستهدف تحت المراقبة من القوى الخارجية لبيان قدرته على القيام بالمهام التى يعد لها والتى يجب أن تتوافر لديه ومنها:

حب الظهور .. وهو ما يساهم فى تشكيل الشخصية وإمكانية غرس مفاهيم محددة لديها يمكن استخدامها فى التوقيت المناسب.. كما أنه يكون أكثر سهولة فى التسويق له أو الاهتمام به إعلاميا حتى يبرز فى مقدمة الصفوف كمناضل أو معارض ثوري.

قادر على التأثير على المحيطين به .. حيث يتم تنمية تلك الصفة لدى الأشخاص المستهدفين مع العمل من خلال مجموعات تنمية القدرات لتأهيل الشخصيات بشكل أكبر.

لديه أيدولوجية أو لديه الاستعداد للإيمان بأيدولوجية محددة يمكن العمل عليها فى مواجهة الأنظمة المستهدفة.

يبدأ العمل مع تلك الشخصيات من خلال دعوات لحضور فعاليات وورش عمل وزيارات خارجية ليمر الأمر بشكل طبيعى جدًا ثم يتطور ليُدفع بتلك العناصر فى التوقيت المناسب.

فى المرحلة التالية يبدأ تسليط الضوء على تلك الشخصيات لتحولهم إلى أبطال داخل المعارضة ويأتى دور الآلة الإعلامية التابعة للدول صاحبة المشروع والمستهدفة اختراق المعارضة الوطنية، كما تستهدف الأنظمة والحكومات لإسقاط الدول مستغلِّة إما إصابة الدولة بحالة من السيولة أو مواجهتها لأزمة ضاغطة عليها.

أما الدول المستقرة فلا يتم الدفع بعناصر المعارضة المزيفة سوى إلى صفوف المعارضة الوطنية لتكون بمثابة ألغام تشوه المشهد الوطني، الأمر الذى يستوجب على المعارضة الوطنية والحكومات إدراك ذلك.

فالمعارضة الوطنية لها دور مهم فى بناء الوطن بما تقدمه من رؤى حقيقية لمواجهة التحديات من أجل غد أفضل لوطن أكثر قوة؛ فالدول القوية تكون دائمًا نتاج عمل متكامل بين كافة الاطياف السياسية فى المجتمع.

أما المعارضة سابقة التجهيز والتى يُدفع بها فى توقيتات محددة لتدفع بمجموعة من المفردات والتصريحات لدغدغة مشاعر المواطن.. فقد باتت الشعوب أكثر وعيًا بعد ما شهدته المنطقة العربية فى العقد الأخير.

فمع إطلاق الرئيس عبدالفتاح السيسي الحوار الوطنى برعاية رئاسة الجمهورية وتحت إشراف الأكاديمية الوطنية للتدريب فى ظل استقرار الدولة المصرية رغم وجودها فى منطقة مضطربة وعالم تضربه الأزمات؛ بدأت تلك العناصر المعلَّبة فى الظهور.

وفى الوقت الذى عقدت فيه المعارضة الوطنية على اللقاءات وبحث الرؤى المختلفة وتقديم تلك الرؤى والمقترحات لمواجهة التحديات والتشارك فى رؤية متكاملة لكى يعبر الوطن تلك المرحلة، كانت ألغام المعارضة المعلَّبة يتم تجهيزها إعلاميًا.

فالقوى الخارجية المستهدفة للدول تعمل على تلك النماذج أو تبحث عن فصائل تقوم بهذا الدور أو فئات معينة من المجتمع إما بدعوى اضطهاد تلك الفئات أو الأقليات على حد وصف إعلام قوى الشر أو بدعوى حمايتهم.

وقد فطن البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية فى عام ٢٠١٣ عقب فض اعتصامى رابعة والنهضة واستهداف الجماعة الإرهابية للكنائس هنا جاء تعليق البابا تواضروس «وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن».

إننا نحتاج للمعارضة للوقوف على رؤى خارج الصندوق لمواجهة التحديات .. معارضة تدرك حجم وقيمة الوطن .. وحجم ما تحقق من إنجاز وضرورة الحفاظ عليه.

معارضة تقدم رؤية علمية وعملية قابلة للتطبيق وتدرك حجم المخاطر والتحديات.

شهادة ثقة جديدة

قرار بنك التنمية الإسلامى بافتتاح مقر إقليمى له بالقاهرة مؤخرًا يعد رسالة مهمة فى هذا التوقيت، تؤكد نجاح مصر فى مسارها الاقتصادي، ليصبح بمثابة شهادة ثقة إضافية لجذب المزيد من الاستثمارات للسوق المصري.

إن ما تحدث به الدكتور محمد الجاسر رئيس مجلس إدارة البنك، خلال حفل افتتاح المقر الإقليمى حول مستقبل الاقتصاد المصرى وحجم التعاون بين البنك والدولة المصرية، يؤكد أننا سنعبر تلك المرحلة التى تضرب اقتصاد العالم لنخرج منها أكثر قوة.

أضف تعليق