فى خضم الحرب الخشنة التى تدور رحاها بين روسيا و أوكرانيا بدأت آلة الحرب النفسية تظهر بقوة مستخدمة إحدى أهم أدواتها فى إدارة الحروب (البورباجندا) من خلال وسائل الإعلام الحديثة ووسائل الإعلام التقليدية لتحقيق النصر.
الأسبوع الماضى اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعى خاصة موقع التغريدات القصيرة (تويتر) مجموعة من المواد المصورة قيل إنها لعملية قتل لأسرى من الجيش الروسى على يد جنود أوكرانيين... بعد أن قيدوهم أمام حفرة كبيرة أبلغوهم أنها ستكون مقبرتهم بعد قتلهم؛ ثم تم إطلاق الرصاص عليهم.
لم يظهر فى المشهد وجوه من أطلقوا الرصاص، وكانت كلماتهم وصوت طلقات الرصاص وعملية القتل للأسرى هى البطل الرئيسى فى المشهد، رغم تجريم القانون الدولى لمثل تلك العمليات وحمايته لحقوق الأسرى.
لم يكن ذلك هو الفيديو الوحيد بل تبعه انتشار فيديوهات أخرى كان آخرها يوم الأحد الماضى 27 مارس، حيث نشر عدد من الفضائيات العربية والأجنبية فيديو لعدد من الأسرى الروس تم قتلهم على أيدى الجنود الأوكرانيين عقب نزولهم من السيارة التى كانت تقلهم.
المشاهد لم تختلف كثيرًا عن الفيديو السابق له فى عملية القتل، كما لم يختلف مع ما تلاه من فيديو نشرته الباحثة الروسية والمحللة السياسية لإحدى القنوات العربية ماريا دوبوفيكوفا (Maria Dubovikova) على صفحتها لعدد من الأسرى الروس يتم تعذيبهم على يد القوات الأوكرانية.
تلك المشاهد سبقتها فى بداية الغزو الروسى ل أوكرانيا مشهد لدبابة قيل إنها تقوم بدهس إحدى السيارات لمواطنين أوكرانيين فى مشهد دامي؛ عقب انتشار المقطع بأكثر من أسبوع قامت روسيا بنفى صلتها بالحادث وأن الدبابة التى قامت بالحادث لم تكن روسية ولم تحمل العلم الروسي.
(1)
ووسط متابعات المواجهات العسكرية بين الجيشين الروسى والأوكرانى وتطور أحداث الحرب داخل المدن الأوكرانية، ومدى سيطرة روسيا على المدن الشرقية والجنوبية وتفاصيل ما تحققه الآلة العسكرية (الحرب الخشنة) على الأرض، ثمة حرب أخرى تدور رحاها منذ بدء عملية الاجتياح الروسي.
فبدعم غربى ل أوكرانيا عملت وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية فى كل من أوروبا و الولايات المتحدة وكندا وعدد من الدول المساندة ل أوكرانيا على تبنى وجهة النظر الغربية ومواصلة الهجوم على روسيا، والعمل على خلق حالة تأييد مجتمعى بالإضافة إلى التأييد على مستوى متخذى القرار فى الدول لموقف أوكرانيا ورفض الموقف الروسى وحشد الجهود لمواصلة الضغط ومزيد من العقوبات على روسيا ومن يدعم موقفها.
فى الوقت ذاته كانت القوى الناعمة الروسية أقل تأثيرًا فى المراحل الأولى للحرب وهو ما دلل عليه تأخر تصحيح روسيا لمقطع الفيديو الخاص بقيام دبابة روسية بدهس سيارة مواطنين أوكرانيين وهم بداخلها، والذى تجاوزت نسبة مشاهدته
50 مليون مشاهدة خلال 48 ساعة، وخلق حالة تعاطف كبيرة مع أوكرانيا وعلى الجانب الآخر تلقت روسيا حالة انتقاد شعبى كبير.
لكن تطورات الأوضاع وخلال الأسبوع الأخير بات المشهد مختلفًا وتحولت ساحة طحن العظام إلى ساحة الحرب النفسية بقوة.
وتحركت مجموعات الدعم من الجانبين وفق خطط رسمت للمواجهة لتكون إحدى وسائل التأثير على الحالة المعنوية للقوات فى خطوط المواجهة وكذلك الشعوب للضغط على الحكومات.
(2)
هذا المشهد يجعلنا نتوقف عند بعض النقاط المهمة وندقق النظر فيها... ف الحرب النفسية كانت منذ القدم. ومع تطور الحروب التقليدية تطورت هى الأخرى معها فى وسائلها وأساليب الحرب النفسية.
فقد كان الإسكندر أول من شن حربًا نفسية لتوسيع إمبراطوريته فى أوروبا، وكذلك جنكيز خان وتيمور لانك، وخلال الحرب العالمية الأولى عين هتلر وزيرًا للدعاية والتنوير، وخلال الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام والحرب الكورية، حرب جزيرة الفوكلاند، الحرب فى يوغسلافيا، حرب أفغانستان ضد حركة طالبان، وغزو العراق 2003، والعديد من الحروب التقليدية فى العصر الحديث كانت الحروب النفسية تعمل جنبًا إلى جنب مع القوة العسكرية.
حيث تدير تلك الحروب أجهزة الاستخبارات من خلال تشكيل فريق يتم تدريبه وتغذيته بالمعلومات للعمل على الجانب الآخر والتأثير على معنويات الشعوب والجيوش على خط المواجهة، مما يخلق حالة مجتمعية يكون قائد تلك المجموعات هو الذى يتحكم فى قراراتها ليتحول الأفراد إلى عرائس على المسرح يتحكم فيها من يقف مختفيًا خلف الستار.
وكان لما يسمى بالبروباجندا (الدعاية) الإعلامية دورًا رَئِيسِيًّا فى تلك التحركات.
فقد استطاع إدورد بيرنيز «Edward Bernays» صاحب كتاب «البروباجندا» الصادر عام 1928 إسقاط نظام منتخب فى جواتيمالا برئاسة جاكوبو أربينز جوزمان، ليقيم بدلًا منه نظاما تابعًا للولايات المتحدة الأمريكية تابعًا لشركة متعددة الجنسيات الشركة المتحدة للفاكهة، فيما عرف بعملية انقلاب جواتيمالا 1954.
ركزت دعاية «بيرنيز» على وصم الرئيس الجواتيمالى بالشيوعية فى معظم الوسائل الإعلامية الكبرى فى الولايات المتحدة.
ويعود مصطلح جمهورية الموز إلى سيطرة شركة الفاكهة المتحدة على الحكومة الفاسدة فى جواتيمالا ودول أخرى فى أمريكا الوسطى، حيث استغلت الشركة بوحشية العمال العبيد لإنتاج موز رخيص للسوق الأمريكى المربح.
ولا يعد ما حدث بالأمر الغريب على «بيرنيز» فقد نشأ فى لجنة الإعلام الأمنى الأمريكية، وكان المروج الرئيسى للفكرة القائلة إن حروب أمريكا وجهودها كانت بغرض «إدخال الديموقراطية إلى كافة أنحاء أوروبا».
(3)
تستخدم الحروب النفسية الإذاعات والقنوات التليفزيونية والصحف وسيلة لها بالإضافة إلى مواقع السوشيال ميديا أو ما يعرف بوسائل الإعلام الحديثة التى تستخدمها حاليًا مسرحًا لعملياتها من أجل تحقيق الهدف الذى تحدده مجموعات اتخاذ القرار والوصول إلى الهدف (الشعوب) فى ظل تطور تمتلكه تلك الوسائل يجعلها تستطيع الوصول إلى فئة محددة وفى أماكن محددها بما تنشره.
وتعمل تلك المجموعات فى البداية على الوصول إلى كافة المعلومات عن العدو ثم يتم وضع خطة لنشر الشائعات وبث حالة من عدم الثقة فيما ينشر أو يبث من الجانب الآخر حتى تتمكن من السيطرة على عقول الشعوب وضرب الروح المعنوية للمقاتلين إذا تواكب ذلك مع وجود مواجهة عسكرية.
هذا ما شهدناه من خلال بث بعض الفيديوهات لأحد الجنود الروس الذين أسرتهم القوات الأوكرانية حسبما ذكرت وسائل الإعلام الأوكرانية، فقد ذكر الجندى أنه لم يكن يرغب فى الانضمام للجيش أو المشاركة فى القتال داخل أوكرانيا.
الفيديو استهدف التأثير على الحالة المعنوية للجنود الروس بالإضافة إلى الفيديوهات الأخرى التى عرضت عمليات قتل الأسرى والتنكيل بهم من جانب القوات الأوكرانية.
هذا المشهد هو أحد أساليب الحروب النفسية التى تمارس على الطرف الآخر.
بل وتستطيع أن تخلق حالة من القلق داخل نفوس الشعب الروسى على أبنائهم حال وقوعهم فى الأسر خلال المعارك.
وهو ما مارسه حزب الله خلال حرب يوليو 2006 حيث أدت كلمة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله التى قال فيها: «انظروا إلى البارجة الحربية الإسرائيلية التى قتلت عشرات المدنيين والنساء والأطفال، انظروا إليها تحترق ومعها عشرات الجنود الصهاينة» إلى انتشار حالة من الهلع لدى الإسرائيليين، وكان لها دور كبير فى انتصار المقاومة اللبنانية.
وتستهدف الحرب النفسية إضعاف القدرة القتالية للعدو، وخفض معنوياته، وتشكيكه فى عدالة قضيته، وفى نفس الوقت العمل على رفع الحالة المعنوية للطرف الذى يشن الحرب النفسية، وكذلك رفع قدرته القتالية، وزيادة قدرته على النضال والصمود والتضحية والبذل والعطاء.
وتعد الحرب النفسية من أخطر أنواع الحروب عبر التاريخ، وتعد الدعاية والإعلام أقوى وسائلها.
وتعتمد الحرب النفسية على 12 مبدأ أهمها مبدأ مخاطبة عواطف الناس ووجدانهم وانفعالاتهم أكثر من مخاطبة العقل والمنطق، كما تعتمد على مبدأ خلق صورة براقة ومشرقة عن حالة المجتمع المعادى فى حالة استسلامه وتوقفه عن الحرب وقبوله الهزيمة.
تعتمد الحرب النفسية أيضًا على إثارة الخوف والفزع والرعب فى نفوس العدو بالمبالغة والتضخيم فى القوات المسلحة، وتوجه المدمرات والبوارج وحاملات الطائرات والمدرعات وأسراب الطائرات المقاتلة والقاذفة، والإشارة إلى أعداد ضخمة من القوات المسلحة، وتدريبهم على كافة الحروب الحديثة، والتهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل أو الأسلحة النووية والكيميائية والجرثومية أو البيولوجية واستخدام الغازات السامة والقنابل الضخمة والعنقودية والهيدوروجينية؛ ولتحقيق تلك الأهداف يكون الإعلام هو الوسيط الناقل لأحداث المعركة وإحدى وسائلها المهمة.
الحرب النفسية لا تعرف حدود الزمان والمكان، حيث تمَارس قبل الحرب لإعداد عقول الناس لها، وأثناء الحرب لرفع الحالة القتالية وزيادة الاعتقاد فى عدالة القضية التى نحارب من أجلها، وبعد الحرب لتدعيم مكاسبها وترسيخها.
وإذا كانت الحرب النفسية بدأت تظهر بوضوح على مسرح العمليات خلال المعارك الدائرة حاليًا فى أوكرانيا، فإن تأثيرها بات واضحًا على الأزمة فى النواحى الاقتصادية والسياسية، فى ظل عدم تحقق خطوات إيجابية فى مسار المباحثات بين الجانبين حتى الآن.
لكن علينا أن ندرك أن المنطقة العربية قد شهدت أكبر حرب نفسية خلال السنوات الإحدى عشر الماضية، وما زالت تمَارس حتى الآن مستهدفة الشعوب والحكومات من أجل إسقاط المزيد من دول المنطقة فى حالة من الفوضى، وذلك من خلال ضرب ثقة المواطن فى حكومته وخلق الأزمات ونشر الشائعات والتشكيك فى قدرات الدول، وهو الأمر الذى يستوجب منا جميعًا إدراك خطورة ما يمَارس من حرب نفسية على شعوب المنطقة.
ستبقي الملهم
الهجمة الشرسة التى مورست ضد نجم مصر والمنتخب القومى “محمد صلاح” عقب مباراة مصر والسنغال كشفت حجم الحملة التى سقط فيها البعض وهو لا يدرك أنه دار فى فلك عملية استهداف من قبل الجماعة الإرهابية لمحمد صلاح لحساب أيقونتهم محمد أبو تريكة.
وهو أحد أساليب الحرب النفسية من جانب أدوات إعلام الإرهابية للضغط على نجم مصر، بعد أن بات معشوق الجماهير المصرية والعربية محققًا تاريخًا رياضيًا لم يسبقه أحد إليه.
هنا علينا جميعًا أن ندرك أن كرة القدم لعبة جماعية، وما قدمه رجال المنتخب وعلى رأسهم محمد صلاح جهد مشكور، وإن كانت لنا ملاحظات على الإدارة لكن سيظل محمد صلاح الملهم ونجم مصر والعرب.