كان لا بد من وقوع هذه الأزمة، وكان حتمًا من تفاقمها.. ولعل جذورها العميقة تعود بنا إلى وقت بعيد.. وقت يسبق صدور القوانين الاشتراكية فى يوليو سنة 1961.. بل يسبق قيام ثورة 23 يوليو نفسها..
ولعلنا نذكر أن الثورة قد انبثقت وكان عدد سكان مصر وقتذاك حوالى 20 مليون نسمة، وقد تضاعف هذا العدد بمرور 25 عامًا فقط، وقد يكون هذا من الأسباب، التى ساعدت فى الإسراع على تبلور المشكلة ووضوحها، خصوصًا أننا قد خضنا منذ قيام الثورة ثلاث حروب ضارية مع العدو الجاثم الآن على جزء من أرضنا العزيزة مما استلزم معه تخصيص ميزانية ضخمة للدفاع العسكرى يستحيل تخفيضها فى الظروف الراهنة.
وحقيقة أن أصوات الاقتصاديين المصريين وغيرهم من المسئولين والمعروفين بأصحاب الفكر كانوا فى مواقعهم أو خارجها قد ارتفعت مرددة ضرورة زيادة معدل الإنتاج للنهوض بالاقتصاد المصرى وحقيقة أن هذه الأصوات قد ازدادت حدة عندما تفاقمت الأزمة فى السنوات الأخيرة وأصبح الخروج منها ضرورة ملحة، بل واجبا قوميا.. ورغم أن زيادة الإنتاج حقيقة اقتصادية ونظرية علمية معروفة ما زالت تدرس على المستوى المحلى والعالمى ورغم أنها تطبق وتنفذ فى العالم المتقدم من كوكبنا الصغير، الذى أصبح الاندماج والاتصال السريع بين جنباته أمرًا ميسرًا إلا أنه لم يتقدم أحد حتى الآن بالخطط الفعالة والفكر الصائب الموصل للحلول العلمية، التى تستهدف وتحقق هذه الزيادة.
الحفظ «الصم»
ولعل السبب الرئيسى لهذا العجز العلمى هو أسلوب النظام التعليمى فى مصر ليس فقط منذ إنشاء الجامعة المصرية ابتداء بكلية الآداب فى عام 1910، بل منذ أن عرف الكتاب المصرى والمعاهد العلمية، التى كانت مبعثرة فى أنحاء البلاد فى أواخر القرن التاسع عشر.
فلا غرابة إذن من أن نظام التعليم فى مصر قد ألغى ومحا القدرة التفكيرية لدى الطالب حتى جعل منه ما يشبه آلة التسجيل وبدلًا من أن يذكى فيه القدرة على التفكير والتحليل جعل منه إنسانًا فريدًا فى حفظ وترديد الحقائق والنظريات المكتوبة أو المسموعة لا يضاهيه فى ذلك أى إنسان آخر على الكرة الأرضية.
وربما نظرة فاحصة إلى نظم التعليم بالعالم الغربى المتقدم تضعنا أمام الأسباب الرئيسية لنجاح تلك البلاد وتقدمها السريع، فالطالب هناك منذ المرحلة الإلزامية من التعليم يدرب على الفكر والتنقيب عن الحقائق، ينهل المعرفة من الموسوعات ودوائر المعارف، التى فى مكتبة مدرسته وفى المكتبات العامة المنتشرة وربما فى بيته..
من هذا يتضح أن الأزمة الاقتصادية، التى تمر بها البلاد حاليا ترجع فى أساسها إلى أربعة أسباب رئيسية، هى:
1 - نظام التعليم، الذى يعتمد فى جميع مراحله ومستوياته على الحفظ والترديد الأعمى بما أفقد الفرد القدرة على التفكير والإبداع.
2 - انتشار الأمية سواء الأبجدية منها أو الثقافية بما يعرقل حتما تقدم الشعب ويجعله عاجزًا عن اجتياز ما يصادفه من الصعاب وعدم الاستجابة لما يطالب به من التزامات وواجبات.
3 - اعتبار البحث العلمى مجرد وظيفة حكومية يرقى ويلتحق بها من يحصل على التقديرات الأعلى بغض النظر عن قدراته وموهبته الطبيعية، حيث قد فاتنا فعل تلك الحقيقة الواقعية وهو أن البحث العلمى ما هو إلا فن من أدق الفنون وأعمقها.
4 - افتقار الدولة إلى خطة علمية شاملة متكاملة يلعب البحث العلمى الجاد فيها الدور الأساسى بما جعل الأفراد يندمجون فى متاهات الأسماء والشكليات وينخرطون فى تيارات النظريات والشعارات بما يخدم فى النهاية الأعداء والمندسين وأصحاب النفوس الضعيفة.
حتى عام 2000
وحتى نقف وقفة جادة ومصيرية نتحرك منها نحو إصلاح ما فاتنا وتقويم هذه الأخطاء الجسيمة ليجىء عام 2000 وقد حققنا مجتمع الكفاية انطلاقا إلى مجتمع الرفاهية يجب أن ننفذ إلى المشكلة فى الوقت الراهن وبسرعة فائقة بعجلات قصيرة المدى تعتمد أساسًا على الحد من الاستهلاك.. ولعل القرارات الأخيرة، التى أصدرتها المجموعة الوزارية الاقتصادية برفع الأسعار كانت خطأ كبيرًا ودليلًا كافيًا على «المعجز الفكرى»، الذى تحدثت عنه.
ومن هنا يجب العمل فورًا وبحزم على تحقيق الآتى:
1 - الالتزام والدقة فى تنفيذ القوانين المنظمة لتحويل العملة وتداولها ولو حتى فى الفترة الراهنة بما يضمن استفادة الخزانة العامة وتجنب الوسطاء.
2 - الضرب بشدة على أيدى المختلين والمنتسبين والمخربين والمهملين والمستنزفين للجمال العام بأى صورة من الصور.
3 - الحد من الإسراف الحكومى والشعبى، خاصة فى وسائل الخدمات والعمل على صيانتها المستمرة وحمايتها بكل وعى ودقة.
4 - استيراد الكفاية من السلع المستهلكة بمعنى تحديدها بدقة بالغة تكفى فقط حاجة المستهلك المصرى العادى.
5 - تخصيص نسبة من العملات الحرة لاستيراد المواد الاستثمارية ذات الأولوية للصناعات القائمة حاليا بهدف تطويرها وزيادة إنتاجها دون أى توسع.
6 - العمل والتركيز حاليًا على زيادة الإنتاج الزراعى رأسيًا مع تطوير الصناعات الغذائية وتدعيم وتحسين الإنتاج الحيوانى والثروة السمكية بالوسائل العلمية المتطورة.
7 - تطوير مجال السياحة عن طريق التجميل وإضافة اللمسات الفنية والعرض المبدع لآثارنا المكدسة والمتربة مع التوسع فى إقامة نظام الموتيلات المتواضعة الأنيقة ليس بإقامة الفنادق الفاخرة والمكلفة، التى تفوق قدراتنا الاقتصادية.
8 - الإسراع فى إصدار قانون الضرائب العادل المنتظر وكفالة تنفيذه بكل دقة ووعى.
وإن كنا سنعمل صادقين على الحد من الاستهلاك بهذا الأسلوب العلمى وبهذه الخطة قصيرة المدى فيجب ألا نهمل ومن الآن فورًا - التفكير الجاد والمخلص نحو تحقيق زيادة معدل الإنتاج وتحسينه بخطة شاملة متكاملة طويلة المدى يكون قوامها خلق المفكرين والمبتكرين القادرين على التحليل العلمى والأكاديمية الفكرية الخلاقة حتى نحقق للفرد المصرى والمجتمع الكفاية فى عام 2000.