إذا كانت الأعياد القومية فى تاريخ الأمم تذكيرا لهم بأحداث قومية هامة وبواجبهم نحو وطنهم، فإن الأعياد الدينية فى تاريخ الأمم تحدد لهم معالم طريقهم وتذكرهم بأهم واجباتهم المقدسة نحو ربهم، من وجوب طاعته، والإقرار له بالعبودية والربوبية.
كما يستقبل المسلمون شهر رمضان بالبهجة والسرور كذلك يودعونه بمثل ما استقبلوه به، أما ابتهاج المسلمين باستقبال رمضان فلأنهم يرون فيه موسما لحصادهم من الخيرات والبركات والقربات إلى الله عز وجل، وهم كذلك يعتبرونه فرصة للتسابق والمسارعة إلى رضوان الله عز وجل وإلى تصفية نفوسهم من شوائب الشر وظلمات المادة الكامنة فى الإسراف فى الشهوات وارتكاب الأوزار والموبقات، إنهم يسمون بوجدانهم ويتعلقون بقلوبهم وينجذبون بأرواحهم إلى الملأ الأعلى ليقاضى عليهم من رحماته ويغدق عليهم من فيوضات معارفه ومنازل رضوانه ما يجعلهم فى درجات المقربين من الصديقين والصالحين.
هذا هو السر فى ابتهاج المسلمين بقدوم شهر الصيام.
أما السر فى ابتهاجهم بانقضاء إيامه ولياليه، فهو إنهم وقد أدوا واجبهم نحو الله وحققوا لأنفسهم ما صبت إليه من مغفرة ورضوان ومن منزلة عليا عند الله يكون مثلهم كمن دخل سوقا فتاجر فربح ربحا حلالا، أو كمن زرع زرعا فتعهده بعناية حتى أثمر فأتى أكله وأنتج نتاجا حسنا فكان حصاده وافرا وخيره عميما، وهكذا شأن المؤمنين فى آخر رمضان متى وفقهم الله وسدد خطاهم على طريق الله القويم وصراطه المستقيم فإنهم يستبشرون بما حصلوا ويفرحون بما اكتسبوا، يستبشرون بما أعد لهم الله عنده من مكانة رفيعة، ويحتفلون بانتصارهم على أنفسهم وقهرهم لشهواتها فى معركة الصراع بين الخير والشر بين الحق والباطل بين توازع الهوى ومنازل الهدى طوال هذا الشهر المبارك الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
ومن هنا كانت حكمة عيد الفطر الذى يختتم به المسلمون شهر رمضان المبارك أنهم يحتلفون فى هذا العيد بهذه المعانى كلها ويتخذون منه تاجا لصالح أعمالهم ومهرجانا لانتصارهم على شيطانهم وهوهم، وحيث كان العيد مظهرا للفرح ومهرجانا للبهجة فإنه من الطبيعى أن يأخذ بجانب طابعه الروحى طابعا ماديا وألا يقتصر على الكبار والمكلفين البالغين كالصوم فى رمضان، وإنما عمت مظاهره وشاعت مباهجه بين الكبار والصغار على السواء، يشترك فى أفراحه كبيرهم وصغيرهم ونساؤهم ورجالهم غنيهم وفقيرهم، فيبدو الجميع فى هذا اليوم وقد لبسوا من الثياب أبهاها وصنعوا من الأطعمة أشهاها ومن الحلوى ألذها وأرقاها.
ومن وراء هذه الظواهر المادية ل عيد الفطر تجد طواهر روحية أخرى ومعانى إنسانية عليا تسود هؤلاء جميعا فتصفية النفوس وإلغاء الخصومات وتجديد العلاقات واحتضان الفقراء والمحتاجين والشعور بالعطف على اليتامى والمساكين كل هذه المعانى والمباهج النفسية والوجدانية تظهر فى عيد الفطر حنبا إلى جنب مع المباهج المادية.
ولذلك شرعت زكاة الفطر وهى صدفة يخرجها المسلم عن نفسه وعن كل من هو مسئول عن الإنفاق عليهم فى مساء عد الفطر وقبل صلاته لتعطى للفقراء والمحتاجين إعامة لهم على مواجهة مسئوليات هذا اليوم وعلى الاشتراك مع الآخرين فى مباهجه وأفراحه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح هذا المعنى فيقول (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه).
وإذا كانت الأعياد القومية فى تاريخ الأمم تذكيرا لهم بأحداث قومية وبواجبهم نحو وطنهم فإن الأعياد الدينية فى تاريخ الأمم تحدد لهم معالم طريقهم وتذكرهم بأهم واجباتهم المقدسة نحو ربهم من وجوب طاعته والإقرار له بالعبودية والربوبية والفضائل النفسية العالية.
لهذا اقترن عيد الفطر بالفراغ من عبادة من أهم العبادات فى الإسلام وهى عبادة الصوم، كما اقترن عيد الأضحى بأداء فريضة من أهم الفرائض الإسلامية هى فريضة الحج إلى بيت الله الحرام.
ومهما قيل من أن النفس الإنسانية بفطرتها التى فطرها الله عليها لابد أن تكون خيرا محضا فهى لذلك تقتضى الفضائل المحضة، ثم لابد فوق هذا وذاك من أن تكون نزاعة دائما إلى الخير.. مهما قيل هذا أو ذاك فإن ذلك لا يعدو أن يكون تصورا مثاليا تستعذبه الأذهان ويتمثله جانب أو آخر من جوانب التفكير الإنسانى ويدفع إليه طموح الإنسان إلى الكمال وطلبه للنجاة، وأمنيته الخالدة فى الخلاص من كل ما هو شر والاستغراق كلية فى كل ما هو طيب من قول أو فعل أو اعتقاد، وإلا فإن القرآن الكريم نفسه يؤكد لنا الحقيقة الواضحة لاستعداد النفس البشرية لكل من الخير والشر ووقوعها على مفترق الطرق بين الرذيلة والفضيلة، بل ربما كانت بالمغريات من حولها، والمشتهيات الملابسة لها ميالة إلى الشر نزاعة إلى الهوى.
ذلك هو قول الحق جل وعلا (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وقوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) وقوله (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي)، وفى ذلك يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه:
"اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها نزاعة إلى شر غاية".
والنتائج الطبيعية لذلك:
أولا: أن الصرا بين الخير والشر فى نفس الإنسان أم تقتضيه طبيعة النفس البشرية.
ثانيا: أن مسئولية الإنسان فى هذا الصراع هى العمل على تحقيق الاعتدال فى نفسه بين الخير والشر والرذيلة والفضيلة.
ثالثا: أن مجاهدة النفس وحملها على انتقاء الفضائل وتجنب الرذائل أمر مفروض وواجب على كل مسلم ومسلمة ولذلك أمر المولى سبحانه به وأوجبه على جماعة المؤمنين (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، بل وحضهم على تزكية النفس وتدريبها على فضائل الأعمال وحميد الخصال مبينا لهم أن هذه التزكية هى طريق الفلاح والنجاح فقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
رابعا: البحث عن أنجح الأساليب وأحكم المناهج فى تربية النفس وحملها على الاستقامة وانتصارها على شهواتها ومغرياتها، ومهما كان اختلاف الناس فى مناهجهم لهذه التربية عبر تاريخ الفكر الإنسانى، ومهما أجهد المصلحون والمربون أنفسهم فى ذلك فإن الطريق الذى رسمه الإسلام وأوضحه رسوله وطبقه صفوته الأخيار هو أمثل الطرق وأكثرها مواءمة لطبيعة البشرية وأضمنها تحقيقا لتصفية الروح وسمو الوجدان وغرس الفضائل والقيم فى نفس الإنسان.
والرسول صلى الله عليه وسلم يضع أقدامنا على مبدأ الطريق لهذه المجاهدة فيقول "الشديد من غلب نفسه" ويقول: "طاعة الشهوة داء وعصيانها دواء) ويقول عون بن عبد الملك (إذا عصتك نفسك فيما كرهت فلا تطعها فيما أحبت).
وذلك المنهج العملى فى تربية النفس هو ما أشار إليه الإمام البوصيرى رضى الله عنه بقوله:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تقطمه ينقطم
وهنا يأتى دور رمضان كموسم لهذا الأسلوب وكحمله روحية تهذيبية لممارسة هذه المجاهدة حتى يتم للإنسان انتصاره على نفسه.
إن الصيام والإمساك فى رمضان عن المشتهيات وضبط النفس عن متطلباتها والصمود أمام هذه المتطلبات بحزم وعزم وإصرار من فجر كل يوم إلى غروب شمسه ومن أول يوم فى رمضان إلى آخر يوم فيه لهو نوع من الامتحان القاسى الرهيب وهو امتحان كذلك لعزيمة الإنسان وقوة إرادته ومبلغ استعداده للصمود والتضحية من أجل عقيدته ومبادئه وأهدافه العليا وغاياته السامية.
ويوم أن ينتفع المؤمنون بهذا الاختيار القاسى وهذه الدورة التدريبية الحولية فينتصروا على نفوسهم، ينتصرون على الباطل بالحق وعلى الجبن بالشجاعة وعلى الشح بالسخاء وعلى الأنانية بالإيثار وعلى الخيانة بالأمانة وعلى الكسل بالجد فى العمل.
يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وتكتب لهم الغلبة على عدوهم فيصبحون ظاهرين (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).