يأتى يوم العاشر من رمضان 1393 – السادس من أكتوبر 1973، ويعود اسم «بدر» يلمع فى سماء المعركة.. معركة العبور.. معركة النصر العزيز، لقد كانت كلمة السر فى هذه المعركة هى «بدر».. حتى توحى للمقاتلين بذكرى «غزوة بدر».. أول نصر فى الإسلام، فمرحبا «بالبدرين».. وحيا الله المقاتلين فى الأمس واليوم.
هناك كلمات يخلدها التاريخ، لما تحمله من ذكريات أثرت فى مجرى الحياة، وغيرت مسار الزمان.. ومن هذه الكلمات - كلمة بدر - إنها توحى بالإشراق والنور، وتفيض بالخير والجمال، والقمر حينما يكتمل يسمى بدرا.
وإذا رأيت من الهلال بدوه
أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
وكلمة بدر مذكورة فى القرآن الكريم، مقرونة بالنصر، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)؛ أى وأنتم قليلو العدد والعدة، وذكرى النصر تثير النشوة والفخار، وتبعث على القوة وتذكر بالأمجاد.. وقد بدأت تباشير النصر فى الأمة الإسلامية فى أولى المعارك التى خاضها المسلمون، ضد أعداء الحق وأعداء الحياة، وزمانها كان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان فى العام الثانى من الهجرة، ومكانها ماء بدر، وهو موقع على طريق التجارة بين مكة والشام فى منتصف المسافة تقريبًا بين مكة والمدينة.
وأطراف المعركة: هم المسلمون وعددهم ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلا، والمشركون من أهل مكة وعددهم تسعمائة وخمسون مقاتلا. هذا العدد من الطرفين لو نظرنا إليه بمقاييس الحرب الحديثة لوجدناه لا يمثل إلا صراعا محدودا دار فى منطقة صحراوية ومع هذا يحتفل بذكرى تلك المعركة المسلمون فى كل عام فى مختلف بقاع الأرض التى يسكنها مسلمون.
وسبب هذا الخلود ما أرسته من قيم، وما أكدته من مبادئ، تكون أساسا لجميع المعارك الإسلامية.. وقد كانت نتيجتها بالغة الأثر فى حياة هذه الأمة، حيث إنها قد أذلت كبرياء الأعداء، وحطمت من غرورهم، وكانوا يعيشون فى نشوة من الانتصار على المسلمين، لدرجة أنهم أخرجوهم من وطنهم مكة، واستولوا على دورهم وأموالهم، وفى غمرة هذا الغرور خرجوا لقتال المسلمين، وظنوا أنهم لا يزالون فى ضعف واستكانة، وساعدهم على هذا الظن شياطين الإنس من المخدوعين، وشياطين الجن، الذين عبر عنهم القرآن الكريم فى قوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
وقد أكدت هذه المعركة قيما خالدة، تعتبر دستورا للحروب التى يخوضها المسلمون:
أولا: حينما بدأت المعركة بالمبارزة، خرج ثلاثة من قادة المشركين، وطلبوا أن يبارزهم أكفاؤهم ونظراؤهم، ونرى الرسول y يخرج إليهم ثلاثة من أهل بيته، ومن أسرته، إن المشركين قد قدموا عتبة وشيبة ابنى ربيعة والوليد بن عتبة، فنادى الرسول y: قم يا عبيدة بن الحارث، ثم يا حمزة بن عبد المطلب، قم يا علىّ بن أبى طالب، والثلاثة من أقرب أقربائه، إنه أراد بذلك أن يضع قاعدة للقادة فى كل زمان ومكان، أن القائد هو وأسرته أول من يضحى بنفسه، وأول من يتقدم المعارك، فإما نصر عزيز، وإما استشهاد كريم، إنه هو وأسرته يكونون فى المقدمة حينما يكون هناك داع للتضحية.
ثانيا: ظهر فى هذه المعركة الترابط القوى بين القيادة والجند، لقد كانوا جميعا يعبرون أن المعركة معركتهم غير مفروضة عليهم، ولكنها نابعة من إيمانهم، يستوى فى ذلك المهاجرون والأنصار، وأكد على كل فرد من المسلمين أن يتحمل مسئوليته، دفاعا عن الأرض والحق والسلام القائم على العدل.
فعندما جاء المسلمون ماء بدر نزلوا أدناه وتركوا أمامهم عددا من الآبار يمكن أن يستقى منها المشركون، ورأى أهل المدينة أن المكان الذى اختاره الرسول y يحتاج إلى تغيير، فتقدم الحباب بن المنذر الأنصارى، وخاطب رسول الله y قائلًا: يا رسول الله، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن تتعداه ولا تقصر عنه؟ أم هو الرأى و الحرب والمكيدة؟
فقال رسول الله y: بل هو الرأى و الحرب والمكيدة، قال الحباب: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، ولكن انهض حتى تجعل الآبار كلها وراء ظهرك وتردمها ونبق بئرًا واحدة نعسكر عليها، فتشرب ولا يجد الأعداء ماء يشربون، فقال الرسول y: أشرت بالرأى.. وفعل ذلك.
ثالثا: كان للشباب فى المعركة نصيب، بل إن منهم من تولى مهام من أخطر مهام غزوة بدر، تطوعوا لذلك عن إيمان وتقدير لمدى الخطر الذى يتهدد قاعدة الإسلام فى المدينة من الأعداء.
لقد كان من أشد الناس عداوة للإسلام أبو جهل، يقول عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: إنى لفى الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، إذا قال لى أحدهما سرا من صاحبه يا عم أرنى أبا جهل، فقلت: يا ابن أخى وماذا تصنع به؟ قال عاهدت الله إن رأيته اقتله أو أموت دونه، وقال لى الآخر سرا من صاحبه مثله، فأشرت لهما إليه، فانطلقا عليه كالصقرين، وضرباه بالنبل حتى قتلاه، وقد استشهد هذان البطلان فى بدر، واسمهما كما سجلته كتب التاريخ - عوف ومعوذ ابنا الحارث الخزرجى الأنصارى.. إنهما تقدما إلى المعركة بدافع من إيمانهما بعدالة المعركة، وخرجا وهما يريدان الاستشهاد فى سبيل الله، ولا يزالان فى عمر الزهور، ولكن العقيدة إذا تمكنت فى القلوب، بذلت من أجلها الحياة، وطريق الحرية مخاطر، أرضها صخور، وسماؤها رعود، ومعالمها دماء الشهداء.
وتتجلى البطولة فى أعظم صورها فى هذا المشهد الجليل لصحابى جليل اسمه عمير بن الحمام الأنصارى، روى الإمام أحمد أن المشركين لما دنوا قال رسول الله صل الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
فقال عمير: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال نعم، قال: «بخ بخ»، قال رسول اللهصل الله عليه وسلم : وما يحملك على قول «بخ بخ» ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى أكل تمراتى هذه إنها حياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم وهو يقول:
ركضا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر فى الله على الجهاد
وكل زاد عرضه النفاد
غير التقى والبر والرشاد
فما زال يقاتل حتى لقى ربه شهيدًا.