الحج.. سلام مع الوجود كله

الحج.. سلام مع الوجود كلهالشيخ محمد متولى الشعراوي

كنوز أكتوبر6-7-2022 | 19:55

لو لم يكن الحج ركن إسلام لحتم شوق القلب ولهفة الروح على المؤمن أن يرحل إلى بيت الله ليشهد مهابط الوحى الأمين ومطلع سيد المرسلين وليشحن روحه بطاقات اليقين من ذكريات هاجر وفدائيات إسماعيل وإبراهيم.

إن الحج إلى بيت الله زاخر بالتكاليف العبادية: إحرامًا من المواقيت، وطوافًا حول البيت، واستلامًا للحجر، وسعيًا بين الصفا والمروة، ووقوفًا بعرفات، وذكرًا عن المشعر الحرام، ورمى جمرات، وذبح قربات، وحسب المؤمن فى كل ذلك أن يفعلها طاعة لأمر رب، وامتثالا لأمر إله، ويكفيكم أن يطمئن الله بالهم بقوله: (ليشهدوا منافع لهم).

وصدق الله، فقد عرفنا كثيرًا ممن حجوا بادئين هم أحرص المؤمنين على أن يعودوا، وهم الذين يحتالون ليفلتوا من قوانين دولهم فى الحظر، ومعوقات حكامهم للحيلولة، رغم ما فى ذلك من مخاطر ومجازفة، فلو لم يشهد هؤلاء المنافع التى وعدهم بها ربهم، ولو لم يتذوقوا حلاوة العطاء، وروحانية الصفاء – لاكتفوا بما أدوا من فرض لم يطلبه الله إلا مرة، ولكن كيف يصبرون على حفاوة ربهم بضيفه فى بيته، وهو أكرم من حبا وأقدر من أثاب.

وهل يمتنع على العقل أن يقتنع بضرورة الحج إلى بيت الله، وهو يستقبله فى كل صلاة «وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره»، وإذا كان المؤمن قد علم البيت علم اليقين فلماذا لا يشهده حتى يرتقى إلى عين اليقين، وحتى تفاض عليه بركات البيت فى البلد الأمين، يكون قد ظفر بمرتبة حق اليقين، وكيف يعجز العقل عن حكمة الحج إلى بيت من دخله كان آمنًا دون تضييق لواسع العموم فى الأمن بقصره على الأمن من الناس دون الأمن عند رب الناس.

والذى نفسى بيده لو لم يكن الحج ركن إسلام، لحتم شوق القلب، ولهفة الروح، وهيام الوجدان على المؤمن أن يرحل إلى بيت الله ليشهد مهابط الوحى الأمين، ومطلع سيد المرسلين وخاتم النبيين، وليشحن روحه بطاقات اليقين من ذكريات هاجر وفدائيات إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

وإذا كانت المساجد فى جميع بقاع الأرض بيوت الله، وفيها نتقرب إليه بالجماعة والاجتماع والذكر، والاعتكاف مع أنها بيوت الله، ولكن باختيار عباده، فكيف يكون التقرب إلى الله فى بيته الذى اختاره، ومن هنا تعرف حكمة التوجه إليه فى الصلاة، لأنه بيت الله باختيار الله، وتلك علة قداسته، وسر حرمته وبيت الله مكان وبناء الكعبة مكين، وقد رفع رمزًا لمركز القداسة ووحدة التوجه، فالبناء شعار محس يحدد على الأرض بعدى الطول والعرض ولكن بعد الارتفاع لا ينتهى عند البناء لأن بيت الله موصول بالسماء.

والمؤمن البعيد عن البيت يتوجه فى صلاته إلى جهة من البيت، ولكنه حين يشهد البيت يقدس كل جهاته فيطوف حوله، ولعل الله يفيض على الطائفين ليدركوا أسرار سبعة أشواط وعلاقة هذا العدد بسبع سماوات.

الكعبة رمز الوحدة

وكما كانت الكعبة رمزًا لوحدة القصد وشعارًا لمحور الالتفاف – كان لا بد أن يجعل للطواف مبدأ واحدا، حتى لا يكون لكل طائف مبدأ من حيث دخل وبهذا تنخرم مظاهر الوحدة، فجعل الحجر الأسود بداية موحدة وجعل استلامه شعيرة.. ولهذا أخذ الحجر قداستين، قداسة كونه من البناء، وقداسة لأنه علامة الابتداء.

وإذا كان المرجفون فى دين الله والمحجوبون عن فقه التكاليف فضلًا عن أسرارها، يتشدقون بأن الإسلام قد أبقى على مظاهر الوثنية حين أمر بتعظيم البيت طوافًا حوله، وحين كلف بتعظيم الحجر استلامًا له: إذا كان ذلك – فإن هؤلاء وهؤلاء يهرفون بما لا يعرفون، ويغارون غيرة دعية على الإخلاص لعبادة إله لم يؤمنوا له ولم يفقهوا عنه، ولقد فرق الفاروق عمر رضى الله عنه، بين حق من الله وباطل من أعدائه فقال مخاطبًا الحجر:

الحجر الأسود

(أنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)، وبهذا أعلن عمر رضى الله عنه فصل الخطاب، وأبان مدى التكليف بلا إسراف ودون تزييف، وكأنى بعمر رضى الله عنه ينفى عن الحجر أن ينفع بذاته وهذا لا يمنع أن يشهد الحجر لمن استلمه عند من يملك وحده النفع والضر.

وإذا كان هؤلاء المشككون من المستشرقين ومن لف لفهم من المستغربين – لا يقنعهم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل نطمع أن يكفوا عن هذا الضرر بقول صحابى وإن كان عمر؟

ولهذا فإنى أرد على هؤلاء وهؤلاء بما يدعون إليه من منهجية البحث، وعقلانية الجدل، ومنطقية البرهان، وذلك بالسير والاستقراء لموقع الأحجار من هدى السماء.

إن الحجر فى عرف المؤمنين بالله خلق من خلقه، يمثل جنسًا من أجناس الكون وله مهمة ضرورية، فى هذا الوجود، ومهمته هذه معترف بها حتى عند حمقى الصدفة، ومخابيل الطبيعة، ولهذا سأقتصر على هذه القضية المتفق عليها، حتى لا أوجد لهم منفذًا يتعللون فيه بحجة الصادرة على المطلوب بزعم أنى اتخذت من الدين دليلا على نص مختلف عليه فى هذا الدين، فمثل هؤلاء ليس لهم إيمان يتسع إلى أن الحجر له حياة تناسبية، وله لغة يسبح بها خالقه (وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

وإذا علم الله صفيًا من عباده لغة الحجر لفهم عنه وصدق الله إذ قال:

(وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير).
وإذا قال:
(إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق).
وإذ قال:
(يا جبال أوبى معه).


وعودة إلى مهمة الحجر المتفق عليهما، نقول: ما دام للحجر مهمة يؤدى بها خدمة للإنسان فهو مقدر، لأنه نافع، فإذا كان نفعه لى يصير محبوبًا معتنى به، وإذا عرض له ما يجعله ضارًا بى فقد انقلب حبى له كرها، وعنايتى به امتهانا، فالأحجار فى حصن عدو «عدو»، لأقذفها لأصدعها وحين استولى على ذلك الحصن أعمد إلى رم ما أفسدت ودعم ما وهيت ورأب ما صدعت ويصبح كرهى لها حبا، وامتهانى لها عناية، وكذلك كان الإسلام، فحين عرض لبعض الأحجار أن تكون معبود مشركين وآلهة وثنيين – قال الإسلام حطموها ودوسوها، وحين جعل الإسلام بعض الأحجار رمزا ونسكا ومعلم شعيرة، قال الإسلام عظموها وقدسوها، فلا دخل إذن لذاتية الحجر ولا اعتبار له، وإنما الدخل كله لما عرض له من معتقدات ألوهية، أو مجرد شعار، ولا أدل على ذلك من أن مناسك الحج تجمع بين النقيضين، فحجر فى الكعبة يقبل ويعظم، وحجر فى منى يرجم، فلا نظر للذاتية، ولكن للعرضية، فالحجر فى الكعبة شعار إيمان، والحجر فى منى رمز شيطان.


وهكذت تتجلى عظمة الإيمان بالله فى أن ينقل الإنسان من حجر لأنه وثن إلى حجر مثله لأنه شعار، فالأول كفران لأنه مراد الخلق، والثانى إيمان لأنه مراد الحق.


وأيضًا فالإنسان كما قال فيه خالقه: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)، وتلك غريزة فيه، لا يعدلها إلا منهج الله، ولا يخفف من غلوائها إلا أدب الإسلام، فهو يتعالى على بنى جنسه لتفوق يعتد به، أو لتميز يدعيه، فما بالك بنظرته إلى أجناس دونه، من حيوان ونبات وجماد؟ وكأنى بالحق سبحانه، جعل تحيته فى بيته أن يحسن أدب ضيفه الزائر له حتى يتعامل مع الكون كله بأدب، ويباشر خلافته على الأرض بلا غرور، وحتى ينظر إلى أدنى أجناس الوجود فى نظره – وهو الجماد – نظرة التكريم لصنعة حكيم، فلو أعمل الإنسان فكرة فى نعمة الجماد لأدرك أن الحق سبحانه، أودع فى ذلك الجماد عناصر استبقاء الحياة للإنسان ولكل الأجناس التى سخرها الله لخدمة ذلك الإنسان: فى عناصره يتنفس ويشرب ويطعم كل النبات والحيوان والإنسان ومن عناصره كل ترف الحياة ووسائل العمران.


ولقد رأيت الازدحام على استلام الحجر، تدافع مناكب وهول اقتحام واحتيال تسلل واستماتة وصول، فمن ظفر باستلامه تهلل، ومن حيل بينه وبين الحجر تحسر، ولا يزال المحروم سادرا حتى يظفر، ولا ينفك المهيض دءوبا حتى يقبل، فقلت فى نفسى: سبحانك ربى! لقد طهرت الإنسان من صلفه، وكبريائه فأصبح الحجر – وهو من أدنى الأجناس – أعز مطلوب لأكرم الأجناس، وبأمرك يارب نفض عند الحجر كبرياء البشر، وأعجب من ذلك أن يكون نشيدهم عن الاستلام: (الله أكبر.. الله أكبر).. وذلك هو التوحيد المقطر).


وكيف تأتى الشبهة فى توحيد معظم الكعبة وأصوات الطائفين تدوى: اللهم إيمانًا بك.. وتصديقًا بكتابك.. ووفاء بعهدك.. وإتباعًا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وكيف يستقيم هذا الهراء مع قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).


أرأيتم فى الكعبة الغراء
بيت ربى من أرضه للسماء
هى رمز لوحدة الناس فى القصد
ولله مطلق الأنحاء
كيف ضاقوا ببعض أسرار ربى؟
آه لو حدقوا عطاء الصفاء
أول بيت وضع للناس
ومادمنا بصدد الحديث عن بيت الله فلا بد أن نتعرض لقوله سبحانه: (إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم).


فالشائع عند كثير من المفسرين أن سيدنا إبراهيم هو بانى البيت، وحجتهم فى ذلك قوله تعالى:
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).. وعلى قدر رزقى من الفهم عن الله، فإن حكمهم بأن أولية بناء البيت منسوب إلى إبراهيم لا يسلم، لأن دليلهم على ذلك لا يسلم، فمنتهى دلالة النص أن إبراهيم رفع قواعد البيت مع إسماعيل والرفع عمل فى بعد هو الارتفاع، أما القواعد فكانت موجودة، ويظهر أن عوامل التعرية قد غطب على هذه القواعد فأظهرها الله لإبراهيم أولا فى طفولة إسماعيل، فلما شب إسماعيل وأصبح قادرًا على المعاونة أمر الله إبراهيم برفع القواعد ويؤكد هذا الفهم أن إبراهيم كان يعرف بتوجيه الله بقعة خاصة من الوادى خاصة من الوادى فيها بيت الله وإن لم يكن يعرف بالتحديد مكان البيت من هذه البقعة فلما جاء بهاجر ووليدها أسكنهما بهذه البقعة وحينئذ دعا ربه فقال:
(ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم..) فعندية البيت كانت معروفة مقصودة وقت الإسكان وإسماعيل لا يزال طفلا، ولكن البيت لم يكن محددًا.
وذلك هو الطور الأول لعلاقة إبراهيم بالبيت.


ثم جاء الطور الثانى:


وهو أن يبين الله لإبراهيم على التحديد، ويشرح الله هذا الطول بقوله سبحانه: (وإذ بوأنا إبراهيم مكان البيت ألا تشرك بى شيئا)، وذلك مطلوب عقدى لا يتطلب جهدًا عضليًا، ثم قال له: (وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود)، وذلك عمل سهل يستطيعه إبراهيم وحده، لأنه لا يتطلب إلا إزالة ما ستر القواعد من متراكم رمال وصغار أحجار، ولهذا لم يظهر لإسماعيل دور فى هذه المرحلة التى يمكن أن يساعد فيها صغير مما يدل على أن إسماعيل فى سن لا تسمح له حتى بهذه المهمة.


ثم جاء الطور الثالث:


الذى يتطلب عملا يحتاج إلى معونة، وكان هذا الطور حين كبر إسماعيل لحد يمكنه أن يعاون، ولهذا ظهر إسماعيل فى طور رفع القواعد، وفى هذا يجيئ قول الله سبحانه: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل).


وفى قوله تعالى حكاية عنهما:


(ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)، ما يدل على مشاركة إسماعيل فى الدعاء، مما يؤكد أنه فى عمر عقلى أيضًا يعرفه أنه شارك فى عبادة الإله يسأله القبول.


وإن هدم الاستدلال بهذا الدليل وتوجيهه هذا التوجيه، لا ينفى أن يكون إبراهيم أول من بنى البيت، لأن البناء مكين، ولكن البيت مكان، فليس ميلاد البيت على يد إبراهيم، لأنه كما سبق ثابت قبل الرفع، ولكن على عهد من كان وضع البيت وتحديد قواعده؟ ذلك هو موضوع قوله سبحانه:


(إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة..).


وحتى يسهل علينا فهم النص يجب أن نمعن النظر فى كلمتين هما معا مفتاح هذا الفهم.. والكلمتان هما: (وُضِع) المبنى لما لم يسم فاعله.. والناس الموضوعة أصلا لشمول أفراد الجنس، وما دام البيت وضع للناس، فواضعه غير الناس، فمن وضع البيت؟


لقد قلنا إن البيت بيت الله، باختيار الله، وضع متوجهًا لعبادة الله، فالله اختار مكانه وأعلم ملائكته بحدوده و الملائكة حدوده تحديدًا ماديًا محسا بعزله عما حوله من المكان، وذلك هو وضع البيت، تميز ومساحة وحدود سطح، ولهذا كان الفعل مبنيًا لما لم يسم فاعله، فستر الفاعل رمزا، إلى أن المشرع غيب هو الله، والمنفذ غيب وهم الملائكة.


وحين ينظر فى مدلول كلمة الناس نجدها تشمل كل أفراد البشر من آدم إلى من تقوم عليهم الساعة، فلماذا يتأخر وجود البيت، فلا يوضع إلا للناس، من عهد إبراهيم؟ أليس آدم وذريته قبل إبراهيم من الناس؟ فلماذا يحرم هؤلاء من بيت لربهم يتوجهون إليه فى عماد عباداتهم وفيهم أنبياء ورسول كإدريس ونوح وهود وصالح؟ ولا يسعنى ولا يسع غيرى إلا ما وسع الملائكة (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم).


الأخوة الإسلامية


إن الوفاء للبحث يقتضى أن أعرض لقول الله سبحانه (مباركا) فقد بين الله هذه البركة فى قوله سبحانه (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) أى قواما لصالحهم دنيا وآخرة، أما صالحهم دنيا فحسبهم عنده أن يستشعروا الأخوة الإسلامية، والمساواة المثالية، وأن يدركوا حلاوة الوحدة وروحانية التجمع وأن تنفض عنهم كل فوارق الجنس واللون والطبقات وكلهم عبيد فى رحاب مولاهم، وأكرمهم عند الله أتقاهم، وأما صالح آخرتهم فلأنهم يزورون ربهم فى بيته وحق على المزور أن يكرم زائره، ولا أكرم من الله، وهم فى نزل فضله وأكرم تحاياهم المغفرة، لأنهم ثابوا كما أراد فأمنهم كما يحبون (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وآمنا) وفى قوله سبحانه (وهدى للعالمين)، ما يوحى بشمول هدايته لكل عالم، وفى عالم الغيب أسرار، ولكن أين للناس ما يجليها من أنوار؟ وفى قوله سبحانه (آيات بينات مقام إبراهيم) ما يدل على ما لهذا المقام من خصوصية أظهرته، وحده دون سائر الآيات، فمقام إبراهيم حجر كان يقوم عليه ليرفع البيت فجعله الله من الآيات البينات أو جعله يمثل كل هذه الآيات.

الصفا والمروة


إن الصفا والمروة من شعائر الله، والسعر بينهما من النسك، فلماذا سر استبقائهما؟.. فهاجر ومعها طفلها إسماعيل ينزلهما إبراهيم بواد غير ذى زرع ليس فيه مقومات الحياة إلا الهواء، ولما علمت أن رحيل زوجها من أمر الله قالت فى يقين العبد فى ربه (إذن لا يسلمنا) ولما كانت فى الدرس الأول ذات قلب توكل على الرب، كانت فى الدرس الثانى ذات نصيب فى الجهاد مع السبب، فعلت الصفا.. واستشرفت لعلها تجد مظهر حياة يدل على ماء، فلما لم تجد سعت إلى المروة، فلما كدت عادت إلى الصفا، وظلت هكذا سبعة أشواط وعادت مجهودة مكدودة، غير ساخطة من فشل أسباب، أنها رصيد الأمل فى قدرة رب، وكان ربها عند حسن ظنها به فقد تفجر الماء عند الطفل الذى لا قوة له ولا حول، وهكذا يجزى الله المتوكل، ألا فليع المتواكلون، ولينعم المتوكلون.


إن الحجيج يقبل على بيت الله أفواجًا موزعة على الزمن وجمهرتهم يتحللون من العمرة، فتختفى ظاهرة الوحدة فى اللباس إلا قليلا، فيعيدهم عرفة إلى إحرام جامع، ويخلع عليهم بياض الفطرة وهندام المساواة، تزيدهم غيرتهم جمالا، وشعائتهم وقارًا، مع الزحام فى سلام، نشيدهم لبيك وسعديك، ضجيجهم ضراعة وسيماهم خشوع، فهم فى وحدة الزى منظر ما أروعه، وهم مع تلون الدعاء على كلمة سواء.
حين يذوقون حلاوة الطاعة ولذا القرب وأمل القبول، يتصدون لرمز الضلال ليرجموه شفاء غليل ممن يضل السبيل.


ثم بعد ذلك شعيرة النحر فيذيح المؤمن جبرا لتقصير أو شكرا على توفيق، أو حمدا على نعمة الفداء، التى رحم الله بها الآباء أن يتقربوا إليه بذبح الأبناء، ثم يعودون إلى البيت ليطوفوا الإفاضة فإليه يجيئون وإليه يعودون.


ولما كان بيت الله هو المقصد الأصيل الذى تهوى إليه الأفئدة، كان هو المحور الذى تدول حوله المناسك، وتحيط به أماكن الشعائر، ولهذا أحاطت به أربع دوائر، لكل دائرة حدها وخواصها:
أولى هذه الدوائر:
المسجد الحرام ويحدد مكانه، تخصصه بالمسجدية مهما امتد واتسع، وخاصيته كما قال الله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) ويضاعف ثواب الصلاة فيه إلى مائة ألف وأول ما تشد الرحال إليه.
الدوائر الثانية:
حول المسجد، حدود حماه بعلامات تفصله عن الحل، وهى منطقة حرام حتى على المقيم لا يعضد شجرها ولا يحل صيدها، ولا يحرم من كان داخلها بعمرة، إلا أن يخرج إلى الحل بعدها.
الدوائر الثالثة:
دائرة أوسع من سابقتها، تحدها المواقيت التى لا يتجاوزها قاصد البيت إلا محرما، وبهذا تبدأ أعمال الحج فى القلب نية، وعلى الجسد تجردا مما اعتاد من ثياب، مستبدلا بكل ذلك، غير مخيط أبيض كالفطرة، حتى يكون الحاج عبدا فى ركب عبيد مندمجا فى سوائية الخلق حين يقبلون على الحق.. ومن هنا يدخل الحاج فى سلام مع الوجود كله.. سلام مع نفسه التى سالمته فرضيت أن تمتنع عن كثير مما أحل الله لغير المحرم، فلا شهوة له فى زينة وى فى طيب، فضلا عن رفث أو فسوق، وهو فى سلام مع الناس فلا جدال.. وفى سلام مع النبات فلا يقطع نباتا ولا يعضد شجرا.. وفى سلام مع الحيوان فلا يرمى صيدا، ولا يذبحه، ويظل هكذا حتى يتحلل، وفى الإحرام من المواقيت إشعار النفس بأنها دخلت حمى الله، وأقبلت على مكان غير عادى، فلا بد أن تخرج عن كثير مما اعتادت، تربية للمهابة، واستحضارا للقداسة.
الدائرة الرابعة: هى أوسع الدوائر لأنها تشمل سائر الأرض كلها، ولهذا الدائرة مطلوب واحد هو أن يجعل العبد بيت الله قبلة وصلاة، حاضر القلب مع جلال الرب.


إن الحج منهج جامع لكل عناصره، قلبا وبدنا ومالا وأيضًا فهو تكليف يشتمل على مشتقات متعددة لأنه يقيد الفعل، ويقيد زمانه، ويقيد مكانه، ليس ذلك لركن آخر سواء، فالشهادة تقيد فعل اللسان ولكن فى حرية من الزمان والمكان، والصلاة تقيد الفعل قولا وعملا، وتحدد الزمان، ولكن فى حرية المكان، والزكاة تقيد فعل التصرف ولكن فى حرية زمان ومكان، فالحصاد عند أى وقت والحول على أى اعتبار.. والصوم يحدد الإمساك عن شهوتى البطن والفرج ويحدد الزمان، ولكن فى حرية مكان.. ولكن الحج يحدد كل هذه العناصر.. فهو فعل مقيد فى زمن.. مقيد فى مكان.. ولهذا كان التعبد فيه مركبا، وفضلا من الله جعل جزاءه إذا كان مبرورا الجنة، وحسب العبد جزاء عليه أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.


إن الحج تجمع عقدى فذ، ومؤتمر عالمى فريد، دعا إليه رب واحد، وحدد دوراته فى زمان واحد ورسم منهجه بكتاب واحد، على رسول واحد.. فلا نسب إلا إلى الإسلام ولا حسب إلا فى الإيمان.


وإذا كان الإسلام يواجه تحديات خصومهن، فليس للمسلمين أمل إلا أن يتواجدوا هدفا وصفا، وتخطيطا ونضالا، وبهذا يمكنهم أن يعيدوا دورهم فى الأرض مواجهة طغيان ودك وجبروت، وحينئذ يصبحون تجمعا له خطره وقدره ووزنه وتهيبه.

أضف تعليق