42 عامًا تفصل بين قرارين متماثلين فى المضمون تقريبًا لغرض واحد، وهو محاربة الإرهاب ومحاصرة أعضاء الجماعات الإرهابية.. الأول عام 1977 عندما أصدر رئيس الوزراء – بصفته نائب الحاكم العسكرى – أمرًا عسكريًا بإلزام أصحاب الشقق المفروشة بإخطار قسم الشرطة التابعين له باسم مستأجر الشقة جنسيته ويعاقب المخالفين بالحبس والغرامة.
والثانى عام 2019 عندما وافق مجلس الشعب على تعديل بعض أحكام قانون الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 وإلزام أصحاب الشقق المؤجرة بضرورة إخطار قسم الشرطة التابعين له عن بيانات المستأجر وهويته ويعاقب المخالفين أيضا بالحبس والغرامة.
.. وما أشبه اليوم بالبارحة..
كانت البداية التى أقنعت المسئولين بمدى خطورة الشقق المفروشة على الأمن العام – كالعادة – مأساة، راح ضحيتها الدكتور الذهبى، وكانت هذه المأساة هى المفتاح الذى قاد أجهزة الأمن فى الدولة إلى المخطط الرهيب الذى كانت تدبر له جماعة التكفير.
ونعود إلى نقطة البداية.. فبعد اختطاف الدكتور الذهبى.. ومعرفة شخصية المختطفين الذين أعلنوا مسئوليتهم عن الحادث، والذين تعرفهم وزارة الداخلية جيدًا، وكما هى العادة، اتجهت أجهزة الأمن إلى البحث عن أعضاء جماعة التكفير فى الأماكن التى يترددون عليها، وهى لا تخرج عن المغارات، ولكن أسفرت عمليات البحث عن مفاجأة، وهى أن الجماعة غيرت معظم الأماكن التى لدى أجهزة الأمن، وتبين أنهم يتواجدون فى المناطق السكنية، والآهلة بالسكان، وسط ملايين المواطنين، وتبين أن بعضهم يتردد على بعض الشقق المفروشة..
وبدأت أجهزة البحث تلتقط هذا الخيط.. وأدى هذا إلى تغيير اتجاه البحث، وتركيزه على البحث عن أعضاء الجماعة داخل الشقق المفروشة التى تنتشر فى أحياء عديدة فى القاهرة والجيزة، ولكن كانت الصعوبة فى أنه من المعروف أن ثلاثة أرباع مستأجرى الشقق المفروشة فى الأحياء الراقية – والتى نعتبرها أحياء سياحية– من غير المصريين. ومع ذلك، تم التركيز على البحث فى الشقق المفروشة –دون تمييز– فى جميع الأحياء، لأن الجماعة يمكن أن تكون قد استأجرت الشقق المفروشة داخل الأحياء الراقية من قبيل التضليل، على اعتبار أن إيجارات الشقق المفروشة فى هذه الأحياء قد تفوق القدرة المالية لأعضاء الجماعة، الذين كانوا يعيشون من قبل فى المغارات والكهوف والأماكن المهجورة، وكانت نوعية المستأجرين للشقق المفروشة فى المناطق التى تهاجمها، هى الدليل الذى تعتمد عليه أجهزة البحث، فلم يكن من المعقول مهاجمة الشقق المفروشة التى يستأجرها غير المصريين؛ لأن هذا يستلزم دليلا قويا وقاطعا على اتصال أصحابها بأعضاء جماعة التكفير.
وكانت مهمة أجهزة الأمن صعبة، وهم يبحثون – بلا دليل مادى– عن أفراد جماعة التكفير، داخل الشقق المفروشة فى محافظتى القاهرة والجيزة، والتى يصل تقدير عددها إلى حوالى خمسين ألف شقة مفروشة، فليس هناك أى تسجيل دقيق لها، سوى بعض الشقق التى يستأجرها غير المصريين فى أحياء معينة – والتى نعتبرها أحياء راقية وسياحية– مثل الدقى والعجوزة وقصر النيل وجاردن سيتى ومصر الجديدة، وبعض الشقق المفروشة التى سبق لمباحث الآداب العامة ضبطها أو تسجيلها أثناء مطاردة من يقومون بأعمال تهدد الآداب العامة، أو تسجيلها أثناء البحث عن أشياء مسروقة، أو الشقق التى اكتشفت – بمحض الصدفة – لاستخدامها فى ارتكاب جرائم عادية، خاصة أن القانون لم يكن يلزم أصحاب هذه الشقق المفروشة بالإبلاغ عن شاغليها أو تسجيلها إلا بالنسبة لغير المصريين.
ولهذا تقرر إعادة حصر الشقق المفروشة التى تم استئجارها قبل ارتكاب جريمة الاختطاف مباشرة، والأيام السابقة لها، ووصل الأمر إلى حد البحث عن الشقق المفروشة التى استئجرت منذ منتصف يونيو الماضى..
بدأت أجهزة الأمن فى مراقبة أعضاء التنظيم المعروفين، ومراقبة الأماكن التى يترددون عليها، وكانت النتيجة اكتشاف أن بعضهم يتردد على شقة مفروشة فى العقار رقم 89 شارع القائد بمنشية الصدر بالزيتون، وعند مهاجمة هذه الشقة وجد بها 6 أشخاص، وكما أعلنت وزارة الداخلية وقتها فقد عثرت أجهزة الأمن على كميات من المتفجرات، ومجموعة كبيرة من الأوراق من بينها عناوين شقق مفروشة أخرى فى نواحى متعددة من القاهرة والجيزة، فى الزيتون، والهرم، والمحمدى، وتمت مهاجمة هذه الشقق المفروشة وكانت كل شقة مفروشة منها تقود لمعرفة العديد من الشقق المفروشة الأخرى، حتى وصلت أجهزة البحث إلى شقة مدينة الأندلس بالهرم، التى عثر فيها على عنوان الشقة المؤجرة فى فيلا الهرم بشارع محمد حجازى والتى عثر فيها على جثة الدكتور الذهبى..
وبعد إعلان مصرع الدكتور الذهبى والعثور على جثته، كانت قوات الأمن قد قبضت على حوالى 135 شخصا مباشرة، وارتفع هذا الرقم حتى الآن ليصبح حوالى 300 شخص، وكان معظم الذين قبض عليهم فى محافظتى القاهرة والجيزة يختبئون فى الشقق المفروشة التى استأجروها فى أحياء مختلفة من المحافظتين، وارتفع عدد الشقق المفروشة التى اتضح أن جماعة التكفير استأجرتها إلى حوالى ثلاثين شقة، بما لا يدع مجالا للشك، كما أعلنت وزارة الداخلية، أن جماعة التكفير اعتمدت فى مخططها على اختفاء أعضاء الجماعة فى الشقق المفروشة التى استأجروها، والتى وصل إيجار بعضها إلى مائة وخمسين جنيها مصريا شهريا، وهو الإيجار الذى دفع لاستئجار الشقة التى احتجز فيها الدكتور الذهبى – بعد اختطافه – والتى عثر فيها على جثته قبل أن ينجح أعضاء الجماعة فى نقلها وإخفائها، تنفيذا لتعليمات زعيم الجماعة، وكان العثور على أدوات الجريمة من مسدسات وآلة كاتبة، وأوراق الخطط، وتعاليم الجماعة، والأسلحة والمتفجرات، التى أعلنت وزارة الداخلية العثور عليها فى الشقق المفروشة، دافعا إلى إصدار الأمر العسكرى بإلزام أصحاب الشقق المفروشة بالإبلاغ عن شاغلى الشقق المفروشة فى الجمهورية، والتى يحتمل أن يكون أعضاء الجماعة قد استغلوها فى الاختفاء من أعين رجال الأمن.. الذين بدأوا فى مرحلة تصفية الجماعة.. بعد استسلام زعيمها.. وكبار قادتها.. ووجدت وزارة الداخلية أن الأمر يستلزم اتخاذ قرارات حاسمة لحصر جميع الشقق المفروشة فى الجمهورية، التى أصبحت خطرا يهدد الأمن.
ومن ثمّ، أصدر رئيس الوزراء ممدوح سالم بصفته نائبا للحاكم العسكرى العام "أمرا عسكريا" بإلزام أصحاب الشقق المفروشة بإخطار قسم الشرطة التابعين له باسم مستأجر الشقة وجنسيته – سواء كان أجنبيا أو مصريا – خلال 3 أيام من تاريخ تأجير الشقة أو من تاريخ شغلها، وتضمن الأمر معاقبة المخالفين بالحبس والغرامة، وفى المذكرة الإيضاحية للأمر العسكرى، برر نائب الحاكم العسكرى اتخاذ هذا الأمر، بأنه يرجع إلى "ما تبين من قيام قلة منحرفة من المواطنين باستئجار شقق مفروشة يتسترون فيها لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية"، كما أعلنت المذكرة الإيضاحية أن الهدف هو "كفالة الحفاظ على أمن الدولة ونظامها"..
وقد استثنى الأمر العسكرى الفنادق والبنسيونات وبيوت الشباب – من التبليغ عن النزلاء على اعتبار أن هذه الأماكن تسجل كل البيانات المتعلقة بالأشخاص الذين يقيمون فيها – وأن أجهزة الأمن دائمة الاطلاع على هذه البيانات، ولأن هذه الأماكن ملتزمة بتسجيل البيانات بحكم القانون، كما أن من المعروف أن غير المصريين من العرب والأجانب ملتزمون بحكم القانون الخاص بالمستأجرين الأجانب بالإخطار عن الجهات التى يقيمون فيها.
وخلال مهلة الأيام الثلاثة التى حددها القانون للإبلاغ عن شاغلى الشقق المفروشة، لم يصل عدد الإخطارات التى كانت منتظرة إلى العدد التقريبى لعدد الشقق المفروشة فى القاهرة والجيزة.. والذى يقدر فى المحافظتين بما لا يقل عن 50 ألف شقة، من بينها ثلاثون ألف شقة فى القاهرة على الأقل وعشرون ألف شقة فى الجيزة..
ومعنى ذلك أن عددا كبيرا من أصحاب الشقق المفروشة أو مستأجريها لم يقوموا بالإبلاغ عن الشقق المفروشة التى يؤجرونها.. وهؤلاء تقوم أجهزة الأمن الآن بالبحث عنهم..
وقد أجاز قانون إيجار الأماكن، وتنظيم العلاقة بين المؤجرين، والمستأجرين للمؤجر والمستأجر – فى حالات معينة – تأجير وحدات سكنية مفروشة – كما نصت على ذلك المذكرة الإيضاحية للأمر العسكرى – ومازال التنظيم الجديد المقترح لتأجير الشقق المفروشة معروضا على مجلس الشعب، والملاحظ أن مشروع القانون اهتم بالوضع الضريبى للشقق المفروشة، ونسبة الشقق التى يمكن تحويلها إلى شقق مفروشة، والتى حددها بنسبة 10% من عدد الوحدات السكنية بالعقار، وأعطى للمالك أو للشركاء أو لأبنائهم الحق فى تحويل الشقق التى يمتلكونها إلى شقق مفروشة، مما يعطى الفرصة لتحويل أكبر عدد من الشقق إلى شقق مفروشة، تشجيعا للسياحة، ومراعاة لسياسة الانفتاح التى ترتب عليها مجىء كثير من غير المصريين للمشاركة فى مشروعاتها، وأغفل مشروع القانون ضرورة إخطار جهات الأمن عن شاغلى هذه الشقق المفروشة، مكتفيا بأن القانون يلزم غير المصريين بضرورة الإخطار عن محال إقامتهم، ومكتفيا بأن الإدارة العامة لحماية الآداب تراقب هذه الشقق المفروشة – ضمن نطاق عملها – وتهاجمها إذا ثبت استخدامها فى أعمال منافية للآداب العامة.. ولكن المشرع نسى أن إمكانيات الإدارة العامة للآداب لا تمكنها من متابعة هذه الآلاف من الشقق المفروشة.
والأحداث الأخيرة.. ينبغى أن تنبه واضعى مشروع قانون الإسكان الجديد إلى إعادة النظر فى المواد التى تتناول الشقق المفروشة بما يمكن جهات الأمن من إحكام الرقابة على شاغليها، بإلزام مالكها أو مستأجرها – الذى حولها إلى شقة مفروشة – أو من ينوب عنهما بالإبلاغ عن شاغلى الشقق المفروشة، وأن يكونوا مسئولين عن الجرائم التى تحدث فيها – سواء الجرائم المخلة بالآداب العامة، أو جرائم أمن الدولة أو الجرائم العادية – ما دام لم يخطر أحدهم عن هذه الجرائم، وأن يعتبروا شركاء فيها، وهذا ما يحدث الآن بالنسبة لأصحاب الشقق المفروشة، التى لم يبلغوا عنها، فبالإضافة إلى جريمة عدم الإبلاغ عن شاغلى الشقق المفروشة التى يمتلكونها فإنهم سوف يعتبرون شركاء فى جرائم التكفير، إذا اتضح أن هذه الشقق تؤوى أحد أو بعض أعضاء جماعة التكفير، وهناك أيضا فكرة معاملة هذه الشقق المفروشة، معاملة البنسونات والفنادق، وإلزام أصحابها بإمساك دفاتر قانونية لتسجيل شاغليها، حتى تنزع منها صفة حرمة المسكن الخاص، "مما يسهل على أجهزة الأمن إحكام الرقابة على شاغلى هذه الشقق المفروشة"..
ولكننا – ونحن ندعو إلى تشديد الرقابة على الشقق المفروشة، لا ننسى أننا فى عهد سيادة القانون، لذلك يجب أن نقرر أنه لابد من التمسك بضرورة استئذان النيابة العامة فى أى حالات تراها أجهزة الأمن "ضرورية" لمهاجمة الشقق المفروشة، وترى أيضا أن الأمر العسكرى الأخير.. سيعطى الفرصة كاملة لأجهزة الأمن لحصر الشقق المفروشة التى تقع بدائرة كل قسم فى الجمهورية، مما سيسهل متابعتها ومراقبتها، خاصة أنه ثبت من قبل استخدام هذه الشقق فى حوادث الاغتيال السياسى، وفى التدبير لها، كما حدث فى التخطيط لمحاولة اغتيال محمد على الهيثم رئيس وزراء اليمن الجنوبية، خلال العام الماضى، والتى قام بها بعض اليمنيين المقيمين فى القاهرة، ومثل حادث اغتيال وصفى التل رئيس وزراء الأردن السابق خلال الأعوام الماضية، الذى قام به بعض الفلسطينيين المقيمين فى القاهرة، بالإضافة إلى استخدامها بكثرة فى حوادث وجرائم الإخلال بالآداب العامة، وخطف الفتيات، وإخفاء المسروقات والممنوعات، وتجارة وتوزيع المخدرات، ما يسهل ارتكاب الجرائم، ويهدد الأخلاق، كما يهدد الأمن العام.. كما اكتشفت وزارة الداخلية أخيرا..
ولنا أن نقول.. إنه بعد ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية يجب أن ننظر إلى الشقق المفروشة نظرة جديدة تماما.. تنظر إلى ما وراء هذه الشقق المفروشة.. من تهديد للأخلاق العامة، وللأمن العام.. ولعلنا لا ننسى بعد أيام.. "وتعود ريمة إلى عادتها القديمة".. لأن القضية وقتها ستصبح "قديمة".
السنة الأولى – العدد الثامن والثلاثون – 17 يوليو (تموز) 1977 – 30 رجب 1397 – 10 قروش