يثير فى النفس حسرة وتألمًا أن أجد بعض من يتصدّر الكتابة عن الحروب والمعارك وهو لا يستطيع التمييز بين الأسلحة المختلفة، كما أنه لا يقوى على التفرقة بين الفصيلة والسرية، والكتيبة والفرقة وهلم جرا.. لذا نجد أن هذه الكتابات تثير الشفقة، وتأتى نتائجها غير دقيقة وعلى النقيض من الحقيقة التاريخية.. أنا هنا لا أعمم لكن هناك كتابات رائدة ورصينة وقد امتلك أصحابها أدواتهم وسخّروها بدقة، ذهبوا إلى المعاهد العسكرية العريقة، وأخذوا دورات مكثفة، ومنهم من خدم ب القوات المسلحة وحضر الحروب والمعارك فى مصر وخارجها خصوصًا إذا كان بحجم وقيمة اللواء أركان الحرب جمال الدين حماد (1921-2016)، الذى يتصدر القمة دومًا، وهو شيخ المؤرخين العسكريين فى مصر والدول العربية؛ بما قدمه من دراسات رصينة وعميقة لا تزال مرجعًا للمتخصص والمثقف - على السواء - فقد امتلك اللواء حماد أسلوبًا من عينة السهل الممتنع، فقد كان أديبًا يكتب القصة والشعر، ونشأ فى بيئة أدبية، فوالده كان أديبًا وعالمًا أزهريًا كبيرًا، ثم إن اللواء حماد ارتبط بالصحافة، وكان يمدها الصحف والمجلات بالمقالات منذ فجر شبابه وحتى رحيله، وارتبط بمجلة "أكتوبر" منذ تأسيسها، ونشر بها معظم فصول كتبه، وكان القراء ينتظرون المجلة على أحر من الجمر يطالعون فصوله عن حرب أكتوبر وقد نشرت - فيما بعد - فى مجلدين الأول "من سيناء إلى الجولان"، والثانى "المعارك المصرية على الجبهة المصرية".
اللواء جمال حماد كان رصينًا ودقيقًا فى تناوله لأحداث التاريخ، خصوصًا أنه كان شاهدًا على أحداثه منذ تخرجه فى الكلية الحربية عام 1939، ومن زملاء دفعته: عبد الحكيم عامر، وصلاح سالم، وصلاح نصر النجومى مدير المخابرات العامة الأسبق.. وقد خدم جمال حماد بالوحدات والتشكيلات، واكتسب خبرات عالية، وكان عنده الفضول والإصرار ليتعلم الكثير والكثير فى العلوم العسكرية والمدنية، وذاع صيته قبيل ثورة يوليو، بما كان ينشره من مقالات ودراسات عسكرية وتاريخية، ومن إبداع شعرى، وكان نزّاعًا إلى التعلم، فالتحق بكلية أركان الحرب وحصل على ماجستير العلوم العسكرية من هذه الكلية عام 1950، ثم حصل على بعثة قادة الألوية من كلية أركان حرب بالاتحاد السوفيتى عام 1959.
وكان من صناع ثورة 23 يوليو 1952، وكان برتبة صاغ عندما قامت الثورة وكان يتولى أركان حرب سلاح المشاة (قبل قيام ثورة يوليو)، وكان اللواء محمد نجيب مديرًا لإدارة المشاة، وهنا تعرف عليه عن قرب وازداد به وثوقًا، وقد انضم فى هذه الفترة إلى تنظيم الضباط الأحرار عن طريق صديقه الصاغ عبد الحكيم عامر، كما انتخبته الجمعية العمومية للضباط فى 31 ديسمبر1951 عضوًا بمجلس إدارة نادى الضباط عن سلاح المشاة، وهو المجلس الذى كان يرأسه اللواء محمد نجيب، والذى تحدى الملك فاروق، حتى صدر قرار بحله فى 16يوليو 1952، وقد اشترك الصاغ جمال حماد فى الفعاليات الأولى لثورة 23 يوليو 1952، وصاغ بنفسه البيان الذى ألقاه البكباشى أنور السادات صباح يوم 23 يوليو من مقر هيئة الإذاعة (صورة البيان الأصلى بخطه معروضة فى المتحف الحربي)، واتصل جمال حماد بعد ذلك باللواء محمد نجيب الذى حضر بسيارته الخاصة إلى مبنى رئاسة الجيش، بعد أن تم الاستيلاء عليه بمقدمة الكتيبة الأولى مشاة التى يقودها البكباشى يوسف صديق.
جمال حماد مؤرخًا
كان اللواء جمال حماد موسوعيًّا يجمع بين الأدب والفكر والتاريخ، كما كان يتقن أكثر من لغة، وساعده هذا الاطلاع فى شتى صنوف العلوم والمعارف، ومن هنا أثرى تجاربه فى الكتابة التاريخية والأدبية، إضافة أنه كان شاهدًا عيانًا على أحداث عصره، فبعد تخرجه حدثت الحرب العالمية الثانية، واشترك فى بعض معاركها، ثم شارك فى حرب فلسطين عام 1948، وفى وقائع ثورة يوليو المجيدة عام 1952، وكان أحد قادتها، وتولى فيها بعض المناصب العسكرية والمدنية، ثم اشترك فى معارك عدوان 1956، وفى حرب اليمن.. وكان قربه من صناعة القرار جعل كتاباته أكثر دقة، فقد أتيح له مما لم يتح لغيره من الوثائق والمصادر والمراجع.
كان جمال حماد يبغى الحقيقية التاريخية وحدها، ظهر هذا جليًّا فى كل مؤلفاته، سواء التى تعرضت ل ثورة يوليو التى كان أحد صنّاعها - كما أوضحنا- أو التى تعرضت للأحداث التى حدثت بعد الثورة، مثل حرب 1956، وحرب اليمن 1962-1967، وحرب 5 يونيو 1967، وحرب الاستنزاف 1969-1970، وصولاً إلى حرب أكتوبر المجيدة 1973، وأدلى بدلوه فى كل هذه الأحداث بمؤلفات ضخمة، شهدت على طول أنفاسه وتمحيصه للأحداث، وامتلاكه لأدوات المؤرخ، من توافر الوثيقة، والنزاهة، والموضوعية، والتأهيل النفسي، والدقة فى استعراض الأحداث، وتمحيص الروايات.. وقد ألف العديد من الكتب والمقالات والردود حول ثورة يوليو، ومنها: كتابه "23 يوليو 1952 أطول يوم فى تاريخ مصر" الذى صدر عن كتاب الهلال، ثم كتابه "الحكومة الخفية فى عهد عبد الناصر"، ويتعرض فيه لسلبيات ثورة يوليو وإخفاقاتها، ثم كتابه الأهم "أسرار ثورة 23 يوليو" الذى صدر عن "دار العلوم للنشر والتوزيع"، وفيه يعيد جمال حماد قراءة التاريخ، محللاً جميع الوثائق المتاحة عن الثورة، بل عن الفترة التمهيدية لها، ويتناول الكتاب الذى يتكون من جزأين، ويأتى فى 1550 صفحة من القطع الكبير، مزودًا بصور أرشيفية ووثائق نادرة، وفيه يتجاوز المؤلف وجهات النظر المختلفة التى تناولت ثورة يوليو، سواء التى مدحت الثورة وانحازت لها، أو التى هاجمتها وكالت لها ولرجالها الاتهامات، ليقف على الحياد تمامًا من الأحداث التاريخية، بصفته شاهد عيان، مشاركًا فى الأحداث، حيث كان قريب الصلة جدًا من الرجلين الكبيرين فى الثورة، جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، بالإضافة إلى علاقته باللواء محمد نجيب، ورغم مشاركة المؤلف فى الثورة، فإنه ترفّع عن مغانمها، وقرر الاستمرار فى الخدمة العسكرية، ولم يسع لمنصب سياسى أو مدنى مثل المناصب التى حظى بها معظم الضباط المشاركين فى الثورة، كما أنه فى كتاباته لتاريخ الثورة، يدرك تمامًا دور الأهواء والعواطف الشخصية التى تتلبس على المعاصرين لحدث ما، عندما يتناولون هذا الحدث بالكتابة، وبالتالى ينأى عن تحكيم العاطفة..
يبدأ الكتاب بعرض مفصل لطبيعة العمل السرى فى الجيش المصرى خلال فترة الأربعينيات ضد الاحتلال البريطاني، ثم يتعرض لحادث 4 فبراير 1942، ثم يتعرض لكيفية إنشاء تنظيم الضباط الأحرار، ويورد ما نشر فى هذا الصدد من معلومات تفيد بأن السادات هو مؤسس هذا التنظيم على عكس الحقيقة المعروفة التى تفيد بأن عبد الناصر هو مؤسس التنظيم وزعيمه، بينما أسس السادات تنظيمًا آخر عام 1939، ربما يكون هو أول تنظيم سرى لضباط فى الجيش، إلا أنه ليس تنظيم الضباط الأحرار.
ويتناول الكتاب قضية الأسلحة الفاسدة، وحريق القاهرة، وعلاقة عبد الناصر بالحركات السياسية قبل الثورة، ويطرح المؤلف سؤالاً "من يقود الثورة فؤاد صادق أم محمد نجيب؟"، ويصف بالتفصيل تحركات الوحدات العسكرية ليلة 23 يوليو، ثم عزل الملك فاروق ورحيله عن البلاد، وتشكيل مجلس قيادة الثورة وسيطرته على جميع السلطات فى مصر بعد إلغاء الدستور، وحل الأحزاب وإعلان الجمهورية.
ويختم المؤلف الجزء الأول بعرض دقيق ومفصل لقضية ضباط المدفعية، عارضًا لائحة الاتهام وأسماء المتهمين وطريقة اعتقالهم، واصفًا تلك القضية بأنها الأشهر فى تاريخ الثورة.
أما الجزء الثانى الذى يتضمن كمًّا كبيرًا من الوثائق والصور النادرة لمجلس قيادة الثورة، وللمؤلف نفسه، ولعدد كبير من القيادات العسكرية، فيتناول قضية الاتحاد بين مصر والسودان، وجلاء القوات البريطانية عن مصر، ثم يتطرق لأخطر النقاط فى الثورة، وهى تفجر الصراع على السلطة بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وفى نهاية هذا الجزء يوجد فصل كامل تحت عنوان "محمد حسنين هيكل وثورة يوليو.. هل كان هو صانع الثورة؟"، يفند فيه المؤرخ بحسب ما ذكر ما أورده الكاتب محمد حسنين هيكل من مغالطات عن ثورة يوليو فى كتابه "سقوط نظام"، وتحديدًا فى الفصل المعنون "5 ليال طوال"، مستقصيًا حقيقة ما ذكره هيكل عن لقائه عبد الناصر فى فلسطين عام 1948، وطبيعة علاقته بقيادات الثورة الآخرين، وأسباب تزييفه لأحداث 18 و19 يوليو ضمن سرده لأحداث الأيام الخمسة السابقة على الثورة.
أرّخ اللواء جمال حماد لحرب أكتوبر1973 فى كتابين له، الأول بعنوان "من سيناء إلى الجولان" وكان قد نشره منجمًا على حلقات فى مجلة "أكتوبر" المصرية، وتحدث فيه عن نكسة 5 يونيو1967، وإعادة بناء وتشكيل القوات المسلحة، ومرحلة الصمود، وحرب الاستنزاف التى كان الأثر الإيجابى فى رفع الروح المعنوية للجنود، والتدريب على العبور، واقتحام النقاط الحصينة لخط "بارليف"، واستطلاع قوات العدو وخططه وتدريباته وعدد قواته وطرق دفاعاته، وكيف بدأت هذه الحرب بعبور قناة السويس بسرية مشاة وانتهت بعبور كتيبة مدعمة، وقد دار سجال بينه وبين الدكتور عبد العظيم محمد رمضان، بعد أن نشر الأخير حلقات كتابه "تحطيم الآلهة" عن حرب الاستنزاف، وهو الذى لم يمسك سلاحًا أو استطاع التعرف على سلاح أو مارس القتال فى معركة حربية، فكيف يعن له الحكم على معارك حرب الاستنزاف التى تحتاج إلى رؤية خبير عسكرى على طراز فريد.. درس التكتيك والأسلحة، وحصل على كل الفرق المتقدمة فى القوات المسلحة من أمثال اللواء جمال حماد.
والكتاب الثانى الذى أرخ فيه جمال حماد لحرب أكتوبر "المعارك الحربية على الجبهة المصرية"، وقد استعرض فيه اللواء حماد مقدمات حرب أكتوبر 1973، وكيف جرى التخطيط لها، ثم تحدث بعد ذلك عن العبور العظيم لأكبر مانع مائى فى التاريخ وهو قناة السويس، بواسطة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه بعد فترات تدريب شاقة استمرت سنوات، أشرفت عليها القيادة السياسية والعليا للقوات المسلحة، ثم تحدث عن وضع القوات المسلحة فى العبور، ودور الجيوش والتشكيلات والوحدات التى أحرزت نصرًا مؤزرًا شهد به القاصى والداني، ثم حلل بمنطق الخبير العسكرى المعارك التى شهدتها الجبهة فى قطاع الجيش الثانى والثالث الميدانيين، ثم سرد بطولات الأفراد والوحدات والشهداء، ثم تحدث فى فصل تال عن مرحلة إقامة رؤوس الكباري، وصد الهجمات المضادة الإسرائيلية التى جرت ابتداء من اليوم الثالث للقتال، ودور القوات المسلحة الباسلة ورجالها الشوامخ الذين صدوا هذه الهجمات، وأشهرها مع حدث مع اللواء 190مدرع الإسرائيلى وأسر قائده "عساف ياجوري" بواسطة رجال الفرقة الثانية مشاه، التى يقودها العميد أركان حرب حسن أبو سعدة، ثم تحدث اللواء حماد عن قرار تطوير الهجوم شرقاً يوم 14 أكتوبر 1973، لتخفيف الضغط الإسرائيلى عن مدينة دمشق، وآثار هذا القرار سياسيًا وعسكريًا واعتراض البعض عليه، ثم تحدث عن عبور القوات الاسرائيلية إلى غرب القناة وحدوث الثغرة، والمحاولات المصرية لتدمير ثغرة الدفرسوار التى قادها اللواء سعد مأمون، واستعرض أيضًا المعارك الإسرائيلية الرئيسية غرب القناة ومحاولة استيلائهم على مدينة السويس لولا المقاومة الباسلة لشعب المدينة بمساعدة قوات الجيش الثالث والفرقة 19 مشاة بقيادة العميد أركان حرب يوسف عفيفي.. كما تحدث عن محاولات الجنرال "إرييل شارون" للاستيلاء على مدينة الإسماعيلية لإحراج مصر على المستوى العالمى ولتضييع طعم النصر، لكن محاولاته باءت بالفشل، بفضل استبسال المجموعة 139 صاعقة التى كان يقودها العقيد أسامة إبراهيم، وفى تلك الأثناء وقع خلاف بين الرئيس السادات والفريق سعد الدين الشاذلى الذى زار قيادة الجيش الثانى لمدة ثلاثة أيام ابتداءً من يوم 19 أكتوبر، واستطلع الأمر بنفسه عن كثب واقتراح سحب ستة ألوية من الشرق لتصفية الثغرة، الأمر الذى رفضه السادات بشدة، وأيده فى ذلك الأمر الفريق أول أحمد إسماعيل القائد العام ووزير الحربية، ولم ينس اللواء حماد أن يذكر المعارك الحربية التى دارت رحاها فى قطاع بورسعيد ومنطقة البحر الأحمر العسكرية ودور الصاعقة خلال حرب أكتوبر التى أدت بطولات لا تذكر إلا فى الأساطير.. وهكذا خلد اللواء جمال حماد بطولات العسكرية المصرية ورجالها الذين هم وقود الوطنية المصرية فى أكمل صورتها.
جهود أخرى:
لم يكتف اللواء جمال حماد بتاريخ مصر العسكري، لكنه تخطاه إلى تاريخ العسكرية الإسلامية وأمجادها، فشارك فى هذا الميدان بقوة، وأثمر عن عدد من المؤلفات منها "معارك الإسلام الكبرى"، و"غزوة بدر الكبرى، و"أعلام الصحابة"، وكتب الفصول الأخرى بالصحف والمجلات الثقافية والمتخصصة، كما كتب عن تاريخ العسكرية العالمية الحديثة، أهمها كتابه "الحرب فى شمال إفريقيا – روميل ومونتجومري- الصدام الرهيب"، وقد نشر هذا الكتاب فى سلسلة مقالات بمجلة "أكتوبر"، وهى عن معارك الصحراء الغربية التى جرت بين جيش المحور بقيادة الفيلد مارشال إروين روميل، و الجيش الثامن البريطانى بقيادة الفيلد مارشال مونتجومري، وعن معركة العلمين الفاصلة التى بدأت ليلة 23 و24 أكتوبر1942والتى انتهت بهزيمة المحور.
وقد عرف اللواء جمال حماد، أهمية الصحافة ووسائل الإعلام من تأثير فى المجتمع، فشارك بجهد جبار فى هذه الوسائل، فكانت تستضيفه وسائل الإعلام من تليفزيون وإذاعة وصحافة، فى المناسبات الوطنية المختلفة، يحلل بأسلوبه الجميل الذى كان لا يقل طلاوة عن قلمه الرشيق، كما أنه كان أحد كتاب مجلة "أكتوبر" البارزين، وكان يكتب مقالاً أسبوعيًا فى المجلة بصفة منتظمة لعدة سنوات، وكان أيضًا أحد كتاب مجلة "آخر ساعة" التى تصدر عن مؤسسة أخبار اليوم، كما كان يكتب فى مجلة "الشباب" التى تصدر عن مؤسسة الأهرام، كما كتب فى المجلات العسكرية التى تصدرها القوات المسلحة المصرية، مثـــل: "الدفــــاع"، و"النصر"، و"المجلـــــة العسكرية"، و"الوفــــــاء للمحاربين القدماء".