لا أنت ولا أنا ولدنا أمس.. ولا مطبات الشوارع و أسلاك التليفون ومواسير المياه ومطار القاهرة وسلالم الترام وسقف القطار..
فكل ذلك مثل نكسة يونيو وانتصارات أكتوبر قد ولدت قبل ذلك بسنوات..
وكانت ولادتها عسيرة..
وغضبك أيضًا على ما أصابنا ليس إلا مولود له شهادة ميلاد قديمة.
فكل هذا العناء النفسى والضيق الاقتصادى واليأس قد سبقنا أو عاش معنا وسوف يعيش بعدنا، هذه هى حال الدنيا وهذه هى شريعة الحرب، ولقد تعذبت كل الشعوب بعد حروبها، وشربت المر، وابتلعت الهوان، وصبرت حتى وقفت تبنى من جديد.
لكن البناء صعب، والهدم سهل، فأنت لست فى حاجة إلا أن تكون حيوانا لكى تهدم، وأنت فى حاجة إلى أن تكون إنسانا لكى تبنى.
والتعب والحزن والمرارة واليأس كلها تجعل الإنسان حيوانا بليدا، لا يعرف إلا الهدم والبكاء عليه، ويدير ظهره للمستقبل!
وكثير من الناس فى حالة من الغضب.. وفى حالة من السخط، ومعهم حق إذا ضاقوا بالدنيا.
لكن تعالوا نحسبها معا، ولابد أن نكون معا، فلم ينفرد أحد بأى شىء ولن ينفرد..
إنما نحن جميعا شركاء القدر، ورفقاء المصير..
فقد احتاجت مصر، ولا تزال، إلى السلاح، لأننا فى حالة حرب، وسوف نظل طويلا..
وموارد مصر محدودة، وبهذه الموارد المحدودة اشترينا ذخيرة غير محدودة، وكان من الضرورى أن نمسك أيدينا وبطوننا، لكننا لم نفعل ذلك.. وكان لابد أن ننفق الكثير على السلاح وعلى الطعام وعلى البناء أيضا، وتكاثرت الفلوس فى البلاد التى حولنا، إلا فى أيدينا..
وانسدت قناة السويس وكل قنوات الرزق عندنا، وليس كذلك فى بلاد حولنا..
واتجهنا إلى تجار السلاح، فلا حرب بغير سلاح.. واشترينا من التاجر الروسى، وفوجئنا بأن التاجر الروسى يبيع بشروطه، فهو يعطينا السلاح ويحتفظ بسر استخدامه، أو يعطينا صندوق البارود، ويضع المفتاح فى جيبه – وهى نكتة شعبية قديمة أبكتنا كثيرا.
واتجهنا بملايين الدولارات إلى تجار سلاح آخرين.. وفى جميع الأحوال نخطف الرغيف من أفواه الناس، والمقاعد من تحتهم، ولا حيلة لنا فى ذلك.
وكل ما نعمله اليوم هو أن نلجأ إلى السياسة والدبلوماسية، تخففا من تكاليف الحرب.
أى أنه لابد أن نبحث عن السلام فى ظل الحرب والاستعداد لها والخوف من وقوعها فى أي لحظة!
ولا شىء يسعدنا أكثر من أن نشترى الرغيف بدلا من المدفع، والأتوبيس بدلا من الدبابة، ونبنى المستشفى والمدرسة والمطار ونرصف الطريق بدلا من الصواريخ والغواصات، وأن نتجه إلى المستقبل بعد أن أغرقنا الماضى فى ويلاته وعذابه وهوانه..
كلنا نتمنى ذلك..
لكن ما أبعد المسافة بين الذى نتمناه وبين الذى نقدر عليه.. ما أبعد المسافة بين أحلامنا وبين الواقع العسكرى والسياسى والاقتصادى فى المنطقة وفى العالم..
فكل متاعبنا لها تاريخ قديم.. ونحن ورثة الألم والضيق.
ولو كان الفقر رجلا لقتلته، قالها على بن أبى طالب لكنه لم يستطع ولن يستطيع أحد أن يقتل الفقر، لأن الفقر ليس رجلا واحدا، إنما هو ملايين الرجال، الفقراء ولو قتلنا ملايين الفقراء، لكانت هذه الجريمة فقرا فى السياسة وإفلاسا فى الحكمة والحكم!
وكما يقاتل كل العسكريين، فيجب أن يتحمل كل المدنيين، وأن نفرض العمل على أنفسنا، كما فرضنا القتال على العسكريين، وفرضنا عليهم الموت أيضا.
هنا فقط نكون جيشا واحدا، من أجل تخليص مصر من ويلات الظلم والفقر ورواسب الماضى، توجها إلى المستقبل..
ونحن نجد العذر للشباب الذين لا يجدون كل ما يريدون، فنحن أيضا لم نجد كل ما نريد، ومن الصعب أن يجد أحد كل ما يريد، ومن الصعب أن يتحقق لجيل واحد كل ما يريد.. وإنما سوف يتحقق ذلك للأجيال القادمة.
أى لابد أن يضحى الأب من أجل راحة ابنه.. ثم يشقى هذا الابن من أجل أجيال تالية، وإلى غير نهاية..
إن الذى حققناه فى أكتوبر لمصر وللأمة العربية شىء كثير، لكن الحرب لم تخمد، والشقاء لن يتوقف، والعذاب لن ينتهى، فهذا قدر، وهذه طبيعة أحداث التاريخ..
وكما أن 5 يونيو لم يعلن وفاتنا إلى الأبد، فإن 6 أكتوبر ليس قضاء على كل شقاء مصر وتعاستها.. فليس هذا إلا يوما من عام، وإلا قفزة فى طريق طويل شاق..
لكن يجب ألا نفقد الأمل، ويجب ألا نكف عن العمل، فقد كان 6 أكتوبر دليلا على الذى يصنعه الأمل والإصرار على الحياة والكرامة معا، أو على الحياة الكريمة أو الكرامة الحية..
وليست معارك السلام أقل من معارك الحرب.. فإن قتال العدو كان شاقا، ولا يزال، لكن قتال النفس، أى عيوبنا وفسادنا، أقسى وأعنف وأطول..
وكما أنه ليس صحيحا ما قلناه يوم 5 يونيو وما بعده من أن مصر قد انتهت وأننا أيضا، فكذلك ليس صحيحا أن يقال الآن نفس الشىء، فنحن اليوم نستعجل الرخاء.. وليس سهلا ما نتمناه دون عمل..
إن 6 أكتوبر هو أروع نتيجة لعمل شق وتخطيط عنيف وإصرار من حديد، وأمل فى النصر وإيمان بالله..
إن معركتنا مع مصر نفسها، يجب أن يكون لها نفس التعبئة العامة، وأن تكون جادة، وأن نتساوى فيها فينال كل واحد نصيبه من التعب والراحة، والتضحية..
وإلا فسوف نضاعف ويلات الناس.. ونعود إلى ما كنا عليه بعد النكسة من أنه لا أمل عند أحد أو فى أحد أو فى شىء..
يجب ألا ننسى أن 6 أكتوبر قد صنعه مواطنون مثلنا، لكن أكثر جدية وتضحية!