اختلطت حبات العرق برمال الصحراء.. وتناثر ذوو القبعات الزرقاء على امتداد الساحل الذى يبلع طوله 162 كيلومترا، من السويس إلى بورسعيد 25 ألف عامل ومهندس وفنى وخبير يساهمون فى تحقيق المعجزة.
فمن يقوم بزيارة سريعة إلى القناة ويلقى نظرة على ما يجرى الآن على شاطئها أو داخل مدنها لن يصدق أن هذا كله قد تم خلال ثلاث سنوات وربما أقل.. مئات المشروعات منها ما يتعلق ب القناة ذاتها – توسيعها وتعميقها – ومنها ما يتعلق بإنشاء المصانع وبناء المساكن والمرافق ومنها ما يتعلق بإصلاح الأراضى وإعدادها للزراعة.
وراء هذه الإنجازات الضخمة يقف الإنسان المصرى بكل أبعاده.. صلابته المعهودة.. إرادته القوية.. قوة تحمله الفائقة.. ويقف وراءها أيضا حضارة قوامها سبعة آلاف سنة، علم المصريون العالم خلالها كثيرا من العلوم والفنون.. وأهمها التشييد.
وفى زيارة لمنطقة القناة والتجول فى كثير من مواقع العمل لننقل بالصورة والكلمة ما يجرى هناك.. نجد بعض المشروعات قد تم استكمالها بالفعل والبعض الآخر على وشك الانتهاء.. ومشروعات ثالثة قد بدأ العمل فيها حديثا، وفى كل الأحوال الجهود مستمرة والحركة لا تنتهى طوال النهار وربما تستغرق جزءًا كبيرًا من الليل.
قبل وصولك إلى مدينة الإسماعيلية بمسافة 30 كيلو مترا تقع قرية الدفرسوار.. ولا شك أن هذا الاسم ارتبط فى أذهاننا بالثغرة التى أحدثتها إسرائيل خلال حرب أكتوبر والتى لم تكن إلا مغامرة عسكرية تليفزيونية أرادوا بها أن يقللوا من قيمة النصر الذى حققته قواتنا المسلحة فى الحرب.
على هذه القرية يقع الآن مشروعان كبيران أحدهما مشروع إسكانى ضخم يضم 180 وحدة سكنية والثانى مشروع استصلاح 500 فدان وتمهيدها للزراعة.
وفى قرية الدفرسوار كانت الوقفة الأولى "لمجلة أكتوبر" والحياة تدب فى شوارعها: المزارعون متجهون إلى حقولهم أو عائدون منها.. الأطفال الصغار يلعبون ويمرحون حول المبانى الجديدة.. وعلى مسافة قريبة ظهرت مبان أخرى مازالت فى مرحلة البناء، اقربنا من المهندس الذى وقف يراقب حركة العمل، حدثنا عن المشروع الذى تم إنجاز 100 وحدة منه قام الرئيس أنور السادات بإهداء حيازتها للمزارعين فى يونيو من العام الماضى والآن تم تشطيب الـ 80 وحدة الباقية والتى سيتم تسليمها فى يونيو الحالى.
اصطحبنا المهندس لزيارة بعض الأسر فى منازلها الجديدة.. يتكون المنزل من حجرتين وحوش أمامى كبير بمصطبة على الطراز الريفى وحوش خلفى لإيواء المواشى وملحق به مخزن صغير وكل منزل به مدخلان، الأمامى للأفراد والخلفى للماشية.. استقبلنا رب البيت.. يطلقون عليه فى القرية اسم العمدة واسمه الحقيقى محمد أبو درويش.. تحدث العمدة كثيرا معبرا عن بهجته باستلامه المسكن الجديد وعن قرية الدفرسوار الجديدة (أبو سلطان) التى عادت أكثر جمالا وإشراقا مما كانت، ولإسم (العمدة) قصة طويفة يفخر بها دائما ويرويها لكل من يأتى للزيارة فعندما هاجم اليهود قرية الدفرسوار وحاصروا المزارعين المسالمين بها وتطلب الأمر إعادة تجميع أفراد القوات المسلحة فى المنطقة بدأ الجنود يتوافدون على مساكن المزارعين وبدأ المزارعون بدورهم يسادون الجنود على الخروج من الحصار لاستكمال الاستعداد ومحاولة الالتفاف حور الثغرة وتطويقها وقد ساهم أهالى القرية الأبطال كثيرا فى هذا العمل وبدأوا يتركون ملابسهم المدنية للجنود ويخفون الملابس العسكرية عن أعين الأعداء الذين قاموا بتفتيش معظم منازل القرية.. وفى إحدى الجولات التفتيشية وجدوا لديه أكبر عدد من الملابس العسكرية وهنا قاموا بطرده من القرية.. وهدم منزله وعندما عاد بعد فك الحصار عن المنطقة وانسحاب اليهود كافأه أهل القرية على ذلك بإعطائه لقب "العمدة".
وقصص بطولات المزارعين البسطاء من أهالى قرية الدفرسوار كثيرة لا تنتهى وربما لا تتسع تلك الصفحات لسردها جميعا ولكن لا شك أنهم جميعا سعداء بدورهم أثناء فترة الحصار أولا وبعودتهم إلى قريتهم ثانيا.
رجال وألغام
وعلى الضفة الثانية من القناة فى نفس المنطقة تقريبا يجرى العمل فى مشروع الدفرسوار للإصلاح الزراعى.. ويقوم الرجال باستصلاح 500 فدان وتمهيدها للزراعة وقد تم بالفعل الانتهاء من إصلاح 230 فدانا ويجرى الآن العمل فى المساحة الباقية.
المهندس صلاح حجاج هو المسئول عن هذا المشروع وهو فخور بالعاملين معه فيه ويسميهم الأبطال.. نسأل صلاح عن السبب فيقول: كلنا نعلم أن هذه المنطقة كانت هى منطقة الثغرة التى عبر منها جنود العدو إلى الضفة الغربية للقناة وزرعوا المنطقة بالألغام وأصبح الحفر والعمل وتسوية الأرض يشكل نوعا من الخطورة على حياة الناس.. وبالرغم من أن سلاح المهندسين بالقوات المسلحة قد قام بتطهير المنطقة فإن بعض ألغام أو دانات مدافع لم تنفجر توجد بمنطقة العمل، ولكن إصرار العامل المصرى على عدم الاستسلام جعله يستمر فى عمله.. بل زوده ذلك بنوع من الحساسية والخبرة فى اكتشاف مكان الخطر.
فى البداية كان العمال عندما يكتشفون لغما يسرعون بإبلاغى وأقوم بالتالى بالاتصال بسلاح المهندسين الذى يقوم بتفجيره وإزالة الخطر وتلك المرحلة كانت تستهلك جزءا من الوقت، أما الآن فقد تعود العمال على تجنب الخطر وتأمين الألغام التى تصادفهم دون أن يحدث أى توقف فى العمل..
ونسأل المهندس حجاج عن مراحل العمل فى المشروع فيجيب: إنها مراحل عديدة ومتشابكة بمعنى أن أكثر من مرحلة يسير العمل فيها فى وقت واحد فهى تشمل تسوية الأرض.. وحفر الترع والمصارف للخدمة الزراعية..
شهادة عبور
"نشهد بأن الرقيب رديف أبو زيد على أبو زيد، كان ضمن أفراد القوات المسلحة الذين لهم شرف العبور إلى سيناء فى حرب السادس من أكتوبر 1973 وقد أبلى بلاء حسنا فى العمليات الحربية".
التوقيع قائد الوحدة
حينما دخلنا منزله كانت هذه الشهادة أول ما لفت نظرنا.. إذ ثبتها بعناية فى مدخل المنزل الذى قام بتأجيره من بين 376 منزلا للإسكان الحرفى.. ومشروع الإسكان الحرفى هو امتداد لحى الشيخ زايد الذى يضم 4000 وحدة سكنية – انتهت فى مدينة الإسماعيلية – والمشروع الأول أنشئ للعمال من أبناء الإسماعيلية.. وقد تم تسكينهم بالفعل.. ويتكون المنزل من غرفتين وصالة ودورة مياه، والحى مزود بالكهرباء والمياه ومرافق الخدمات..
ونعود إلى قصة أبو زيد وشهادة العبور التى تسلمها من القوات المسلحة نتيجة لبطولته فى المعارك.. يقول أبو زيد إنه من عجائب المصادفات أننى تسلمت منزلى فى نفس الموقع الذى كنت أقاتل منه القوات المعادية وظللت فترة طويلة فى هذا الموقع (ما يقرب من 4 سنوات) وحينما سرحت من القوات المسلحة بعد الحرب.. تشاء الظروف أن أتخذ مسكنى فى نفس الموقع ويعلق قائلا: إن ذلك منحنى شعورا بأننى كنت أقاتل من أجل هذا المنزل بالذات مثلما كان يفعل الإنسان الأول حينما كان يقاتل ليدافع عن كوخه أو كهفه الذى يعيش فيه..
قصة التعمير
ولكن ما هى قصة التعمير منذ بدايتها وما هى الصعوبات والعقبات التى واجهتها وكيف استطاع العاملون التغلب عليها؟..
لم تكن المهمة سهلة.. كانت اللجان المختصة تقوم بحصر الخسائر العمرانية وقد انتهت من دراستها.. وجاءت الأرقام ضخمة.. مخيفة.. كان هناك أكثر من 65 ألف وحدة سكنية تحتاج إلى الترميم بالإضافة إلى ما يقرب من 200 مدرسة و50 مستشفى وحوالى 400 مبنى حكومى.. وبدأ الخبراء يدرسون الوقت اللازم لإعادة ترميم كل هذه المبانى.. وجاءت التقديرات المبدئية تؤكد أن إعادة ترميم كل هذه المنشآت يحتاج على الأقل إلى 3 سنوات..
وسقطت التصاريح
وحتى 5 يونيو عام 1974 كان الدخول إلى منطقة القناة لا يتم إلا بالحصول على تصريح خاص لبعض الفئات المحددة من مواطنى القناة.. وعندما زار الرئيس محمد أنور السادات مدن القناة أعلن يوم 5 يونيو 1974 أن مدن القناة قد أصبحت مفتوحة أمام كل المواطنين وأن المنطقة على موعد مع عودة الحياة الطبيعية لها يوم 6 أكتوبر من نفس العام..
وبدأ السباق
وكان هذا يعنى شيئا واحدا.. أن الصراع قد بدأ.. صراع الإنسان المصرى مع الزمن.. الصراع بين كلام الخبراء الذى يساوى 3 سنوات، وعزيمة الرجال التى تساوى 4 أشهر.. وبدأ السباق.. خلال هذه الفترة كان قد تم تنفيذ 70% من أعمال الترميمات المطلوبة بالنسبة للمساكن وأماكن ترميم وتشغيل 85% من المدارس وتجهيزها تماما لاستئناف الدراسة.. بالإضافة إلى ترميم 70% من المبانى الحكومية و60% من المستشفيات والوحدات الصحية.. وانهالت بعد ذلك التقارير تؤكد أن مرحلة الإنشاء قد بدأت، وأنها تتم بأسرع المعدلات.. ففى كل ساعة زمن كان يتم بناء (واحد وربع) وحدة سكنية لتصل عدد الوحدات السكنية التى تم بناؤها حتى آخر عام 1975 إلى ما يقرب من 20 ألف وحدة.
عقبات على الطريق
ولكن كيف تم هذا؟..
وكيف تمكن الإنسان المصرى من قهر الزمن؟.
يقول المهندس ماهر أحمد بهاء الدين رئيس قطاع المشروعات بجهاز تعمير منطقة القناة إننا وضعنا فى اعتبارنا أن نحقق ما وعد به الرئيس السادات من إعادة الحياة الطبيعية لمدن القناة.. كنا نعمل ليلا ونهارا.. أيام الإجازات لا نعرفها.. مواعيد امتدت بلا حدود.. وكان أهم ما ساعدنا أن ميزانية التعمير تركزت كلها فى جهاز واحد بحيث قام جهاز تعمير منطقة القناة بالاتفاق على كل المشروعات الإسكانية والزراعية بالإضافة إلى تحسين المرافق.. وقد أتاح هذا النظام حرية الحركة والمرونة الكافية للبدء فى كل المشروعات والانتهاء من معظمها.
لا شك أن ما يحدث الآن على خط القناة معجزة.. فكل العاملين يؤكدون الصدفة الغريبة التى ربطت بين إنجازات هذا اليوم "يوم 5 يونيو" من كل عام وبين ذلك اليوم من عشر سنوات.. وكأن القدر قد أراد أن يتحول يوم الحزن إلى يوم عيد نحتفل فيه بكل منجزاتنا فى التعميرو البناء.
تم النشر فى السنة الأولى – العدد الثانى والثلاثون – الأحد 5 يونيو «حزيران» 1977 – 18 جمادى الآخرة 1397.