فى الإعادة كثير من الاستفادة .. فالتاريخ غالبًا يعيد نفسه .. وعلى هذه الصفحات نعيد نشر موضوعات من أعداد سابقة لمجلة أكتوبر قد تتشابه الأحداث مع واقعنا الحالى، وقد تختلف عنه ولكنها تظل جزءًا من ذاكرة الشعب المصرى فى فترة من تاريخ مصر
منذ أكثر من شهر وجميع محافظات الجمهورية فى حالة طوارئ، وأولياء أمور الطلبة أعلنوا أن الحالة «ج»، أما الطلبة فحالتهم «خ»، وربما «ز» والله أعلم.
وكأنما نحن على موعد مع ديزل الساعة السادسة والثلث وتذكرة الركوب محجوزة منذ سنة ومحدد عليها بكل اللغات موعد قيام القطار، ومع ذلك لا نبدأ فى التحرك إلا يوم السفر عندما تدق الساعة السادسة.
وقد تلحق بالقطار وقد يفوتنا، ولكن النتيجة الحتمية أننا نتعرض لحالة من الإنهاك والبهدلة وتعب الأعصاب وتعب القلوب يا أهل الله حتى نصل إلى رصيف المحطة.
وليس من مصلحة الكائن الحى أن يبدأ رحلة ما منهوك القوى محطم الأعصاب، فاقدا لحجم الطاقة المطلوب لإنهاء الرحلة، ولقد يخيل إليك يا صديقى بعد هذا الكلام أننى كنت يوما ما طالبا مثاليا، أبدًا عامى الدراسى فى أكتوبر وأصل إلى ميدان المحطة فى مايو، ولكن واقع الأمر يؤكد عكس ذلك.
ففى المرحلة الثانوية كنت الأول على مدرسة فؤاد الأول ليس فى العلوم، ولكن فى الحضور يوم بدء العام الدراسى، وكنت أحرص على أن أقف أول الطابور الصباحى لكى تتاح لى الفرصة فى دخول الفصل قبل غيرى لا لأحتل مكانى فى الصفوف الأمامية، ولكن لأحسن اختيار مكانى فى أحد الأركان الخلفية، بعيدًا عن متناول أيدى الأساتذة الأجلاء الذين كانوا على أيامنا يمارسون مع الطلبة صنوفًا من رياضة الكاراتيه والمصارعة الحرة لغير المحترفين.
أما خارج نطاق الفصل فكنت وكان الله لى العون أمارس أنواع الرياضة والتمثيل علاوة على الرسم والرحلات إلى القناطر و حديقة الأسماك وسينما ريالتو واستراند.
وكان صديقى يبدأ عامه الدراسى من أول لحظة ويظل هكذا طوال العام لا يضيع لحظة حتى أثناء الفسح كان لا ينسى أن يحمل معه كتابا ينتحى به جانبا وينكب عليه فى نهم حتى ليخيل إليه أنه يلتهمه من فرط الشبق، وكان حريصًا على أن يكون دائمًا من الثلاثة الأوائل على المدرسة وكنت أبدأ معه المذاكــــرة قبل الامتحـــان بأســـبوعين وربما ثلاثة وفى حالة الكرم الزائد قبله بشهر، وكنت حريصا كل الحرص على أن أنجح كل عام وأن يكون ترتيبى من الثلاثة الأواخر فى المدرسة، مسألة مزاج، وربما تواضع، ولكن الأرجح أنها قصر ديل.
وعلى أيامنا كان من ينجح فى الثانوية العامة بمجموع 50% تدق له الطبول ويسقى منقوع الورد وتستدعى مزيكة حسب الله، وقد كان فى إمكانه بهذا المجموع الهزيل أن يلتحق بكلية الحقوق أو الآداب أو الزراعة أو الطب البيطرى، وإذا حدث سدت فى وجهه نهائيًا، ففى إمكانه أن يلتحق بكل رحب وسعة بكلية التجارة، أما اليوم فالنجاح بمجموع 75% يشكل خيبة أمل وإعلانا للحداد وحالة النكد العام وربنا استدعى أهل الطالب مقرئًا من نوع الشيخ طوبار ورشوا القهوة السادة على الحاضرين، وحقيقة أن مسألة المجموع هذه تشكل أعظم نكبة فى تاريخ التعليم مجموع الطالب يحدد مستقبل حياته رغم أنفه وأنف أهله بغض النظر عن ميوله الذاتية ومواهبه الشخصية وعن مدى ما قد حققه من نجاح فى الحياة العامة.
وأعود إلى صديقى الصمام الذى كان ينجح كل عام بتفوق حتى تخرج فى الجامعة وأصبح اليوم يشغل منصبا من أشرف المناصب وأرفعها قدرًا.
فى الأسبوع الماضى ألتقيت به كان منظره يدل على أنه موظف فى الدرجة التاسعة ومن المنسيين فى انتظار الإنصاف وعلاوة مايو ومن خلفه طابور من الطلبة وشىء ما أشبه بالكشك أشار إليها، كما يشير المجنى عليه إلى المذنب الحقيقى وقدمها لى قائلًا: المدام مراتى.. وسرحت بعيدًا نحو الماضى وتذكرت أيام العذاب على أيدى أرسطو وفيثاغورث وأشعار الخطيئة وجداول اللوغاريتمات.
ولكن ماذا؟! أجاب فى عفوية وصدق وبمنطق الدارس المتعرف على مشكلته: يبدو أننى أخطأت الطريق منذ البداية.. تصور يا سيدى البيه – الكلام موجه للعبد الفقير – أن زملائى من الخيبانين ونفاية الدفعة قد منعهم مجموعهم من شرف اللحاق بوظائف الدولة، وكانت خبطة حظ بالنسبة لهم، إنهم يعملون الآن بالأعمال الحرة وأقل هايف منهم يكسب فى شهر ما أتقاضاه أنا بعبقريتى فى سنة، ونظر إلى فخفت حقا أن يستشهد بى لا من قبيل إنكار الواقع، ولكن تحاشيا لمسائل القر والحسد، وتمتمت فى سرى بسورة الفلق، وعزمت على صديقى بسيجارة فأعادها إلى مقرها فى العلبة مبتسمًا كالفلاسفة وقال: أصلى بعيد عنك بطلته، ليس من أجل صحتى، ولكن مسألة إمكانيات!.
وعرفت الحقيقة المرة، أن صديقى رجل شريف لا يرتشى ولا يقامر ولا يقبل الهدايا ولا العزائم ولا العمولات، ومرتبه محترم إلى حد ما، ولكنه منشول ومستنزف بأصابع السادة الأجلاء مدرسى الدروس الخصوصية، إنه حريص على تربيه أبنائه وتعليمهم، ولقد كانت المدارس يوما ما تتولى مهمة التربية والتعليم، ثم شاءت إرادة الصدق أن تقتصر مهمتها على التعليم وأصبحت تتبع وزارة التعليم وقلنا لا بأس يمكننا أن نربى الأولاد فى البيت وآهى المدارس تعلمهم، ولكننا سرعان ما اكتشفنا أن مدارس التعليم قاصرة عن أداء رسالتها المقدسة فى نشر التعليم.
وعلى أيامنا كانت المضاربة على أشدها بين مدارس وزارة المعارف والمدارس الأهلية الخاصة، تماما كما يحدث الآن بين هيئة المسرح الموقرة وفرق القطاع الخاص، وكان الكثيرون من أولياء الأمور يفضلون أن يلحقوا أبناءهم ب المدارس الخاصة التى كانت تنتقى الصفوة الممتازة من الأساتذة الأكفاء.. أما اليوم فقد انحدر المستوى إلى الحضيض وأصبحت المدارس الخاصة لا تختلف كثيرا عن ترام شبرا، مجرد مقاعد وزحام وتحول المدرس بدوره إلى كمسارى يلهف المعلوم ويكتب الباقى على ظهر التذكرة.
بل إنه مما يؤسف له أن ظهر لدينا نوع ثالث من المدارس الخاصة غير المعتمدة لدى وزارة التعليم تتولى قيد الطلاب فى كشوفها، ثم تلهف المصروفات – وهذا هو البند المهم فى رسالتها – وفى نهاية العام تتولى التقديم للطلبة ليجروا الامتحان بإحدى المدارس المعتمدة باعتبارهم طلبة منازل، ولأن هذه التشكيلات التعليمية السرية حريصة على استغفال المزيد من أولياء الأمور، فإن مديريها ومدرسيها يحرصون على تغشيش الطلبة وإملاء الأجوبة الصحيحة عليهم عيانا بيانا حتى تكون نسبة النجاح لديهم 100% والنتيجة المحتومة أن أسرابا من الجهل تتقدم كالحشود نحو عنق الزجاجة. أقصد الامتحانات العامة.
ولا حل أمام الطلبة ولا أولياء الأمور ولا خيار إلا أن يحذوا حذو صديقى البائس المتفوق المحترم، لقد أعلن صديقى حالة الطوارئ فى منزله، تحولت كل حجرة فيه إلى فصل دراسى يشغله مدرس وتحول صديقى إلى صراف ومعاون وتمسكت زوجته بحقها الطبيعى فى إدارة البوفية والمطعم وعندما شاهدت بواب منزله يقف صامدا أمام البوابة قفزت إلى رأسى فكرى فهمست إليه: ومستنى إيه يا راجل ما تشوف له حد تعينه ناظر وتبلغ وزارة التعليم فمن الجائز أن تعتمد الشقة كمدرسة خاصة وفى هذه الحالة سيكون من حقك أن تخضع لتفتيش الوزارة، ومن حقك أيضًا أن تحصل على إعانة.
تم نشر فى السنة الأولى – العدد السابع والعشرون – الأحد اول مايو"آيار" 1977 – 13 جمادى الأول 1397