هل صحيح أن كلياتنا العملية تشبه "المطابخ" سريعة التجهيز؟!.. وأن مهمتها تنحصر فى "سلق" الطالب بأي طريقة ليحصل فى النهاية على الشهادة الجامعية؟!.. إن أساتذة الجامعات والمسئولين بالوحدات الإنتاجية يحاولون من خلال إجاباتهم عن هذا التساؤل أن يصلوا إلى الأسباب الحقيقية لأخطر مشكلة تواجه التعليم الجامعى ومدى تأثير هذه المشكلة ليس فقط على خريج الكلية العملية إنما أيضا على المجتمع الذى ينتظر الكثير من الخريج.. "المسلوق"!!..
يرى الدكتور حسن حمدى، عميد كلية طب القاهرة، أن أعداد الطلاب المتزايدة من أهم الأسباب التى أدت إلى تدهور مستوى خريج الكلية العملية.. وعلى سبيل المثال فإن عدد طلبة طب قصر العينى منذ 20 عامًا لم يزد على 1500 طالب، بينما يصل عددهم حاليًا إلى أكثر من 8 آلاف طالب فى الوقت الذى تعانى فيه أغلب معامل الكلية من نقص شديد فى الأجهزة العملية.. وبذلك ينعدم التوازن بين أعداد الطلاب من ناحية والإمكانيات المطلوبة من ناحية أخرى..
900 فرصة ضائعة!!
ورغم ذلك فهو يؤكد أن نظام التدريب الحالى يأتى فى مقدمة الأسباب المسئولة عن المشكلة.. خاصة بالنسبة لكليات الطب التى يعتبر التدريب العملى فيها عنصرا رئيسيا لإعداد الطبيب.. فالجثث البشرية اللازمة لدروس التشريح ناقصة باستمرار وبعد أن كان الطلبة يقومون بأنفسهم بتشريح الجسم البشرى أصبح معظمهم يكتفى بمشاهدة الأستاذ وهو يقوم بالعملية أمامه.. ورغم أنه تم أخيرا استيراد جثث من البلاستيك تقدر قيمتها بحوالى 10 آلاف جنيه لحل مشكلة نقص الجثث البشرية.. فإنها لا تتيح للطالب استخدام يديه وبالتالى يكتفى بالمشاهدة فقط.. وحتى طبيب الامتياز لا يحصل على القدر الكافى من التدريب العملى.
فى الماضى – والكلام مازال للدكتور حسن حمدى - كان كل طبيب مكلفا بالإشراف على 75 مريضا طوال فترة امتيازه.. أما الآن فإن كل 15 طبيبا يكلفون بالإشراف على 50 مريضا فقط.. وتتفجر مشكلة التدريب العملى بصورة أخطر بعد أن تم أخيرا هدم جزء كبير من مستشفى قصر العينى القديم ليفقد المرضى 900 مكان خال.. ويفقد الطلبة – فى نفس الوقت – 900 فرصة ضائعة للتدريب العملى!!
ويعترف الدكتور محمد إسماعيل راشد، رئيس قسم هندسة الطيران بجامعة القاهرة، بأن الكليات العملية بوضعها الحالى قد تحولت إلى كليات نظرية.. ويقول: إن هذه المشكلة هى أخطر ما يواجه التعليم الجامعى بل إنها أخطر ما يواجه مجتمعنا النامى.. فخريج الكلية العملية مطالب بأن يحل معظم المشاكل المحلية وأن يوفر على الدولة استقدام الخبرات العلمية وأن يعمل على تطوير المجتمع.. فإذا لم تتح لهذا الخريج فرصة ممارسة التطبيق العملى السليم خلال فترة دراسته.. انعدمت فائدته للمجتمع.
الإمكانيات مظلومة!!
ومعظم الكليات العملية تشكو من قلة الاعتمادات المالية المخصصة لمعاملها.. هندسة القاهرة مثلا انخفضت ميزانية معملها من 80 ألف جنيه سنة 1950 إلى 8 آلاف جنيه هذا العام!!
لكن هل انخفاض الميزانية وحده هو المسئول عن قصور هذه المعامل وعدم تمكنها من أداء رسالتها؟
يقول الدكتور محمد إسماعيل راشد: إن عدم استقرار أعضاء هيئة التدريس وتطلع الأستاذ الجامعى بصفة مستمرة للسفر إلى الخارج وانشغاله بهذا الهدف هو السبب المباشر فى قصور معمل الكليات العملية..
وإلى وقت قريب كان طلبة الكليات العملية ملتزمين بأداء تدريب صيفى كل فى مجال تخصصه.. إلا أنه لوحظ فى السنوات الأخيرة أن هذا النوع من التدريب بدأ يفقد جديته ويتحول تدريجيا إلى نظام صورى أكثر منه نظاما فعليا يخدم الطالب.
لكن هل صحيح أن الوحدات الإنتاجية لا تهتم بتدريب طلبة الكليات العملية؟!
وما رأى المسئولين بها فى مستوى خريج هذه الكليات.. المهندس على كابش، مدير عام مصنع بسكو مصر، يقول: إن التدريب الصيفى لطلبة كليات الزراعة على سبيل المثال لا يستغرق أكثر من 15 يومًا للدفعة الواحدة من الطلبة وهى مدة لا تكفى لأن يكتسب الطالب أي خبرة عملية، بالإضافة إلى عدم اهتمام الطالب أساسًا بهذا النوع من التدريب.. خاصة أنه يعلم أن التقارير المطلوبة منه عن فترة تدريبه لن يقرأها أحد!!
ويضيف أن الجامعة هى المسئولة عن انهيار نظام التدريب الصيفى، لأنها لا تعطى للوحدة الإنتاجية التى يتدرب فيها الطالب حتى تقييمه والاشتراك فى وضع درجات نجاحه، رغم أنها غير قادرة على متابعته والإشراف عليه أثناء فترة التدريب.
بعيدًا عن الواقع..
ويثير المهندس على كابش قضية وجود فجوة عميقة بين الجامعات والوحدات الإنتاجية، فيقول إن الجامعات لا تهتم باستقبال مشاكل الوحدات الإنتاجية وإنها بذلك تعيش بعيدة عن الواقع الفعلى للمجتمع.. والنتيجة أن الطالب يدرس مناهج كاملة يفاجأ بعدها بأن ما درسه لا علاقة له مطلقا بالحياة العملية.
اتهام جديد
ويؤكد المهندس عبد الرحمن الأتربى، رئيس أقسام الشئون الفنية بمحركات البنزين بشركة النصر للسيارات، أن خريج الكلية العملية يحتاج إلى فترة كبيرة جدا حتى يمكنه استيعاب طبيعة عمله الذى يزاوله.. وأن الكثير من هؤلاء الخريجين لا يملكون حتى التصور الصحيح لطبيعة عملهم لدرجة أن أحد خريجى كلية الهندسة كان يعتقد عند بداية تعيينه أن عمله ينحصر فى الوقوف أمام إحدى الآلات وتشغيلها!!
ويضيف أن هذا نتيجة لإلغاء نظام التدريب الإجبارى لطلبة كليات الهندسة الذى كان يفرض على الطالب المرور على أكثر من وحدة إنتاجية ومعايشة ظروفها معايشة كاملة ولمدة تكفى لاكتساب الخبرة العملية المطلوبة.
فسحة أم تدريب؟!
ويروى أحد الطلاب بكلية العلوم الزراعية بمشتهر حكاية مثيرة عن نظام تدريب آخر العام الذى تحول إلى إجازة صيف مجانية لأعضاء هيئة التدريس والطلبة، فيقول: إن طلبة السنة الثالثة ملتزمون بتأدية تدريب إجبارى أثناء العطلة الصيفية ويستغرق هذا التدريب فى العادة شهرين يقضيهما الطلبة فى التنقل بين محافظات الجمهورية لزيارة المناطق الزراعية المختلفة، كمناطق الإصلاح ومحطات تربية الدواجن والمصانع الغذائية وغيرها من المناطق التى يشملها برنامج التدريب.. إلا أن ما يحدث فى الواقع غير ذلك تمامًا.. ففى الإسكندرية تتحول الزيارات الميدانية إلى زيارات لشواطئ ميامى والعجمى والمعمورة!!.. وفى الأقصر وأسوان يقوم الطلبة بزيارة كل المناطق الأثرية كمعبد وادى الملوك وقبر أغاخان ومعبد الدير البحرى.. ويهتم المشرفون بإحضار المتخصصين ليشرحوا للطلبة كل ما يشاهدونه من آثار متناسين أنهم طلبة يدرسون الزراعة ولا يدرسون الآثار!!
والغريب أن الطلبة يحصلون فى نهاية مدة التدريب على مكافأة مالية نظير التزامهم بحضور التدريب، ونفس الأمر بالنسبة للمشرفين من أعضاء هيئة التدريب والأكثر غرابة أن هذا التدريب يدخل ضمن مواد النجاح اللازمة لنقل الطالب إلى السنة النهائية!!
الروتين.. الروتين..
ومن الغريب أن يكون الروتين سببا من أسباب تحويل الكليات العملية إلى كليات نظرية.. يقول الدكتور فوزى عابد، رئيس قسم الأراضى ب كلية زراعة الأزهر، إن أي محاولة تجرى لتنظيم رحلة ميدانية لطلبة الكلية لزيارة مناطق استصلاح الأراضى تصطدم مباشرة بالعديد من المصاعب الروتينية المعقدة، والمتمثلة فى ضرورة الحصول على موافقة العديد من جهات الاختصاص والانتظار مدة طويلة حتى تتم الموافقة.. ثم الدخول بعد ذلك فى متاهة الإجراءات المالية من أول اعتماد تكاليف الزيارة وصرف بدلات الانتقال إلى صعوبة الحصول على وقود لعربة الكلية وغير ذلك من الإجراءات التى تجبر الأستاذ الجامعى على التخلى عن فكرة الزيارة الميدانية والاكتفاء بالمحاضرات النظرية..
ويرى الدكتور فوزى عابد أن الخطة العامة لكليات الزراعة خطة أكاديمية أكثر منها خطة تطبيقية، أى أنها تعتمد على تدريس فلسفة العلم أكثر من اعتمادها على تدريس النواحى التطبيقية لكنه يتساءل أيهما يحتاج إليه المجتمع الآن؟!.. الرجل الأكاديمى أم الرجل التطبيقى.. خاصة أننا دولة نامية؟!
ويطالب أيضًا بإنشاء جهاز كامل يعمل كقناة اتصال بين الجامعة والوحدة الإنتاجية لنقل المشاكل وحلولها.
جثث هامدة!!
ويثير الدكتور فوزى عابد قضية معامل الكليات العملية فيقول إن معظم هذه المعامل يعانى من نقص الأجهزة ومع ذلك فإن الأجهزة القليلة الموجودة لا تتم الاستفادة بها.. لماذا؟!.. لأنه لا توجد طبقة الفنيين المتخصصين فى تشغيل هذه الأجهزة.. إنما يقوم بتشغيلها الأستاذ الجامعى الذى يتسلمها كعهدة حكومية!!.. فإذا تعطلت هذه الأجهزة لم يتمكن الأستاذ الجامعى من إصلاحها نتيجة لعدم تخصصه فيها وحتى إذا لم تتعطل فإن الطلبة لا يتمكنون من استخدامها والاستفادة منها إلا أثناء وجود الأستاذ الجامعى الذى لا يظل بطبيعة الحال يعمل طوال اليوم الدراسى والنتيجة تحول هذه الأجهزة المعملية إلى جثث هامدة لا يستفاد منها.
جامعة الأعداد الكبيرة
ويتساءل الدكتور سيد عبد الكريم، الأستاذ المساعد لمادة وقاية النبات بكلية العلوم الزراعية بمشتهر، إن كانت معاهدنا العملية قادرة بوضعها الحالى على تخريج متخصصين أكفاء فى مختلف الفروع.. ويؤكد أن الجواب بالنفى لأن كثرة أعداد الطلبة حولت نظام الدراسة العلمية التى يدرس فيها الطلبة على يد أستاذ متخصص يتعلمون منه مباشرة إلى نظام جامعة الأعداد الكبيرة التى لا يعرف فيها الأستاذ تلاميذه!!.. ويؤكد أنه حتى إذا فرضنا نظريا أن جامعة الأعداد الكبيرة ممكنة باستخدام الوسائل الحديثة فى الشرح والإيضاح فإننا نجد أن عنصر الوقت لا يكفى لدرجة أن اليوم الدراسى يمتد إلى التاسعة مساءً فى كثير من الكليات العملية.. والحل هو العودة إلى نظام جامعة الأعداد المحدودة وليس ذلك عن طريق الحد من العدد المقبول فى الجامعات إنما عن طريق الانتقاء والاختبار والتخصص بعد مرحلة الإعدادية العامة.
نسخة طبق الأصل!!
ويتحدث الدكتور سيد عبد الكريم عن كليات الزراعة فيقول إن نظم الدراسة لا تختلف من كلية إلى أخرى، والنتيجة تشابه نوعية الخريجين من أي كلية.. ولذلك فهو يطالب بأن تتخصص كل كلية فى دراسة محصول من المحاصيل الزراعية.. كلية زراعة كفر الشيخ مثلا تتخصص فى دراسة محصول الأرز وكل ما يتعلق بزراعته وتسويقه وظروف إنتاجه.. و كلية زراعة طنطا تتخصص فى دراسة القطن، وزراعة كوم أمبو تتخصص فى دراسة القصب، وهكذا يمكن أن يشارك نظام التخصصات فى خلق المدرسة العملية المفتقدة عندنا.
وبعد.. فقد طرحنا فى البداية سؤالاً محددًا وتركنا لأساتذة الجامعات والمسئولين بالوحدات الإنتاجية فرصة الإجابة عنه.. واضح أن هناك عوامل كثيرة تشابكت وتداخلت لتؤدي فى النهاية إلى تحويل الكليات العملية إلى كليات نظرية، وبالتالى انخفاض مستوى خريج هذه الكليات.. ونحن يهمنا أن يرتفع مستوى هذا الخريج لأننا مجتمع فى مرحلة النمو يجب عليه أن يستغل كل موارده وفى مقدمتها العنصر البشرى المؤهل.. وحتى لا يأتى اليوم الذى نستورد فيه الخريجين من الخارج.
تم النشر فى السنة الأولى - العدد الثامن والعشرون - 8 مايو "آيار" 1977 - 20 جمادى الأول 1397.