أنا واحد من هؤلاء الذين تسببوا فى أن تدفع الدولة ملايين الجنيهات لشراء مواد الدواء، أعترف بذلك، وإن كان غيرى من الملايين ينكرون ذلك!
فأنا أتردد على الصيدليات وأنظر فى الفاترينة وأشير إلى الطبيب: عاوز من ده.
وتمتد يد الطبيب دون أن يسألنى طبعا عن أسباب اختيارى لهذا الدواء بالذات، وأشير إلى دواء آخر وأقول: وثلاث علب من هذا.. وأريد علبتين من هذا.. وهذا يكفى اليوم وسوف أعود غدا، إن شاء الله لكى أكمل احتياجاتى من الأدوية!
وأنا كأى واحد مصري أتعجل الشفاء، ولذلك فبدلا من أن آخذ قرصا واحدا ثلاث مرات يوميا، فإننى آخذ ثلاثة أقراص أربع مرات يوميا، وأشفى بعد يوم أو بعد يومين، وتظل الزجاجات، التى اشتريتها ممتلئة بالأقراص. ولكنى أضعها إلى جوار عشرات من العلب والزجاجات والحقن، التى اشتريتها قبل ذلك ولم أعد فى حاجة إليها، ولا أعرف ما الذى أفعله بهذه الأدوية كلها.
وإذا سافرت إلى الخارج فإننى أجد الإغراء أعظم وأروع.. فالصيدليات جميلة والعقاقير ملونة.. وفى الصيدليات توجد زجاجات العطور وتوجد بعض عقاقير التخسيس والتنشيط والطبيبات المرحات.. كل شىء يغرى أى إنسان بأن يشترى أى دواء..
ولأن شراء الدواء وتعاطيه أصبح مرضا عندى، فإننى أشترى أى شىء بأى ثمن، أما فى أمريكا فإن الصيدليات هى فى نفس الوقت سوبر ماركت.. فأنت تدخل لتشترى بعض الأدوية مارا بالحلويات والمكتبات والكافيتريات وأجهزة التليفزيون والراديوهات والعقول الإلكترونية.. فالإغراء لا شك أقوى وأعنف.. وأنا أعترف أننى لم أستطع أن أقاوم، ولذلك فى كل مرة سافرت إلى أمريكا عدت بشنطتين: الكبيرة جدا للكتب والصغيرة للأدوية..
ولا أعرف إلا عندما أعود إلى القاهرة أن هذه الأدوية قد اشتريتها قبل ذلك، وأنها موجودة فى مصر وبأسعار أرخص، وتتكدس أدوية بره وأدوية جوه فى صناديق كثيرة وكبيرة ازدحمت بها غرفة مكتبى فى البيت، وأدراج مكتبى فى مجلة أكتوبر، ولم تقنعنى هذه الأدوية الكثيرة بأن أكف عن شراء الأدوية.. لماذا؟
لأننى مثل ملايين المصريين قد أصبحنا مدمنين لشراء الأدوية ومدمنين لتعاطيها، ولأننا دون رخصة قانونية، قد جعلنا من أنفسنا أطباء نشخص لأنفسنا الداء ونشترى الدواء.
وكل هذا الذى أقول: يسجل علينا عدة أخطاء فادحة الثمن..
الدواء
فنحن أولا نشترى الدواء بلا مناسبة، ونتعاطاه بلا معرفة حقيقية إن كان ينفعنا أو لا ينفعنا، ونتعاطاه بكميات كبيرة استعجالا للشفاء، وجهلا مؤكدًا بخطورة هذه المواد الكيماوية على المعدة والقلب والأمعاء.. وفى نفس الوقت استخفافا بدور الأطباء، وربما كان معنا بعض الحق فى تصورنا لدور الطبيب فى الشفاء – وهذا رأيى الشخصى – وأنا لا أعبر عن ملايين المصريين، الذين يؤمنون بالأطباء ويلعنونهم من وراء ظهورهم، ولكنى أنا شخصيا لا أؤمن بقدرة الطبيب الخارقة على عمل شىء.. لماذا؟
مثلا: أنا أشكو من المصران الغليظ، وأنا فى ذلك مثل ثلاثة أرباع الشعب المصرى، ومن أعراض المصران الغليظ أنه يوجع البطن – وأغلبية الناس يقولون يوجع القلب، وهم يقصدون وجع البطن، وهو يصيب الإنسان بضيق فى التنفس، ويصيبه بدوخة، فإذا جلست إلى مكتبى فإننى لا أستطيع أن أتقلب على الجانب الأيمن أو الأيسر.. وأشعر فى نفس الوقت بأوجاع فى أماكن مختلفة من البطن.
وعندنا أمراض كثيرة لها نفس الأعراض، فإذا جاء الطبيب ووقف أمام المريض، أو جلس وروى له المريض هذه الأعراض وكان الطبيب يرى هذا المريض لأول مرة، فإنه لا يعرف ما داء هذا المريض، وإذا كان الطبيب قد رأى هذا المريض قبل ذلك، ثم لاحظ أن المريض عصبى.. وأنه أصبح ضعيفا بعض الوقت، ثم طلب إليه أن يفتح فمه ويقول: آه.
ووجد لسانه أصفر مبيضا وعليه طفح.. ثم امتدت يد الطبيب إلى عين المريض وفتحها ووجد البياض ميالا إلى الصفرة، ثم رأى أظافر المريض لم تعد وردية اللون.. ثم ضرب بالشاكوش على ركبة المريض فوجدها تقفز إلى الأمام..
فمن المؤكد أن الطبيب سوف يشخص أعراضا أخرى للمريض، ومعنى ذلك أنه سوف يعطيه عقاقير أخرى، وهذه العقاقير إذا أضيفت للعقاقير السابقة، وأحس المريض، وهذا ما يحدث غالبا، أن الطبيب لا يعرف شيئا، فمن المؤكد أن المريض سوف يزداد مرضا وتعبا.
وإن كان هذا لا يمنع أن الدفع واجب: أن يدفع زيارة الطبيب ومن العقاقير أيضا.. وأنا أؤمن – وهذا رأيى الشخصى – أن الطبيب غالبا لا يعرف ما الذى يناسب المريض.. لماذا؟
لأن الطبيب ليس عنده وقت لكى يرى ويسمع ويفهم..
ولأن الطبيب لم يذق كل هذه الأدوية، التى يصفها للمريض، لأنه شخصي لم يصب بكل هذه الأمراض وليس ضروريا.. أن يصاب بها.. وإنما الطبيب لديه معلومات عن فوائد الأدوية، قرأها ودرسها وسمعها من المرضى.
والمرضى مختلفون فى أوجاعهم، اختلافهم فى اتساع عيونهم وحجم أنفهم ودرجة سخطهم على الداء والدواء، والمرضى والأطباء!
إذن.. سوف يصف الطبيب دواء لداء آخر..
وسوف يتعاطى المريض ما يحلو له من الدواء، ويصاب بأمراض وأوجاع مستمرة، وسوف يكون هو طبيبا لنفسه، وأن يدفع ثمن هذه العادة السيئة، ويستمر المريض مريضا، ويمضى فى تكديس الدواء فى بيته..
ومن اعترافاتى هذه ألاحظ أننا لكى نشترى قرص إسبرين واحدا أو قرص فحم واحدا أو قرص ملين واحدا، لابد من شراء علبة كاملة أو زجاجة كاملة، وهذه غلطة يجب أن نتداركها..
فالعبوات الدوائية، يجب أن تكون أصغر، أى يجب أن تباع العقاقير قرصا قرصا، وحبة حبة.. بدلا من عشرات وعشرينات الأقراص، نشتريها ونكدسها، ثم يدفعنا الخوف من أن تكون هذه الأدوية قد فسدت بسبب تكدسها، أن نشتريها مرة أخرى..
أرجو ألا ننسى أننا جميعا جهلاء بتركيب الدواء، ولا نعرف أى هذه الأدوية يفسد بالتكدس وأيها لا يفسد!
ومن اعترافاتى هذه تنكشف غلطة خطيرة، وهى أن جميع الأدوية نشتريها بغير روشتة، فمن حق أى طفل أن يذهب إلى أية صيدلية ويشير إلى أى دواء.. فإذا هو قد نزل من فوق واستقر فى يده: سواء كان الدواء ساما أو مبيدا حشريا أو مضادًا حيويا، مادام الزبون معه فلوس، فالزبون على حق.. حتى الموت!
وليس فى العالم كله شىء مثل هذا: لابد من روشتة الطبيب.. صحيح أن هذا مصدر دخلا كبيرا للأطباء، يضاف إلى الدخل الهائل، الذى ينهال على الأطباء ولا تعرفه الضرائب، ولكن من المؤكد أن التقيد بالروشتات يوفر الكثير للدولة التى تنفق عشرات الملايين على إنتاج الدواء.. أو على دعم إنتاج الدواء..
فالمطلوب ليس أن تقلل من الإنتاج، ولكن أن تقلل من الاستهلاك، وبذلك تقلل من دعم الدولة لسفاهة المرضى، الذين يبتلعون الدواء عن جهل وعن سوء ظن بالأطباء، ربما سوء ظنهم بالأطباء، هو الشىء الوحيد الذى له ما يبرره، ولكن جهل المرضى يحتاج إلى توعية وإلى تنبيه مستمر..
فمن الممكن أن يصاب أى إنسان بقرحة المعدة وقرحة الاثنى عشر بسبب قرص إسبرين ابتلعه على الريق.. أو عشرات ابتلعها فى وقت واحد فى حالة يأس!
الصيدليات فى أمريكا
أذكر أننى ذهبت إلى إحدى الصيدليات فى أمريكا أشترى بعض زجاجات القطرة – أنا لا أشترى زجاجة واحدة من أى شىء – والسبب أنت تعرفه الآن، ورفض الصيدلى أن يبيع القطرة دون روشتة طبيب، ولم تقنعه اعترافاتى بأنى أحد المرافقين للرئيس السادات، وإنما ضحك الصيدلى الباكستانى ورحب بهذه الزيارة، ولكنه أشار وراء ظهره إلى القانون الأمريكى المعلق على الحائط..
وعدت إلى الصيدلية ومعى د. محمد عطية أحد الأطباء المرافقين للرئيس السادات، وقدم د. عطية جواز سفره، وحاول أن يكتب روشتة – ولكن الصيدلى اعتذر – لأنه من الضرورى أن يكون الطبيب الذى يكتب الروشتة مقيما فى أمريكا ونقابيا، ولكن حدثت المعجزة، فقد قال الصيدلى: إن لى ابن عم فى القاهرة يدرس الطب.
فإذا بالدكتور محمد عطية يقول له: عندى طالب باكستانى واحد اسمه كذا.
وكأننا فى "ألف ليلة وليلة" لأن هذا الاسم الكريم: قد فتح لنا أبواب الصيدلية ليقول لنا الصيدلى الباكستانى: شبيك لبيك عبدك بين يديك"!
وأخذت عشر زجاجات قطرة.. وخرجت.
مع أن هذه القطرة ليست سامة، ولا مبيدا حشريا ولا مبيدا إنسانيا.. ولكنه القانون الذى يحمى المواطنين، من سفاهة المواطنين!
ثم إن بين المصريين من حمل هذه الأدوية المصرية الرخيصة وملأ بها حقائبه ويبيعها فى البلاد العربية.. وهذا شىء عجيب!
أنه يبيع الأدوية الرخيصة، فى البلاد القادرة على أن تشتريها غالية!
وبذلك يساهم دون أن يدرى فى أن يزداد الفقراء فقرا، وأن يزداد الأغنياء غنى.
تماما: وهذا تشبيه مع الفارق الكبير جدا: كأن يقوم واحد مصرى بتهريب الرغيف إلى بلد آخر ليبيعه بعشرة قروش.. مع أن الرغيف المصرى ثمنه الحقيقى 22 مليما.. فالدولة تدفع 17 مليما فى كل رغيف لكى يشتريه المواطن المصرى بخمسة مليمات فقط.
والأدوية كذلك.. وحدث أيضا فى أزمة البن – فقد هربه تجار الشنطة وحجاج الشنطة إلى بلاد عربية كثيرة.
حدث ذلك بالنسبة للثوم، فثمن كيلو الثوم فى مصر لا يتجاوز عشرة قروش، لكنه يباع فى بلاد عربية أخرى بستة جنيهات، والبن يباع عندنا ب260 قرشا، ويباع فى بلاد عربية أخرى بثمانية جنيهات!
وكل ذلك يضاعف ما تنفقه الدولة من أجل التيسير على المواطنين المصريين: الذين يبتلعون الخبز والبصل والثوم والبن والعقاقير!
إذن.. الشىء الوحيد، الذى يميز الإنسان عن الحيوان، هو استخدام الإنسان للدواء والإسراف فى تناوله..
ولا يزال الطبيب البيطرى أسعد الأطباء: لأنه يشخص الداء و الدواء دون أن يجد نفسه فى حاجة إلى أن يسأل المريض عن الشىء الذى يتبعه..
ومن هنا كانت تعاسة الإنسان أيضا: فعلى الرغم من الذى نقوله للطبيب عن أوجاعنا فإن الطبيب يصف لنا دواء لمرض لا نشكو منه عادة..
والنتيجة واحدة: أن الدواء فى الصيدلية، وأن الشفاء على الله..
وليس هناك أمل كبير فى إصلاح هذه العلاقة بين المريض والطبيب، ولكن الذى يمكن إصلاحه، رحمة بالدولة وبأنفسنا، هو أن نوجه الناس إلى خطورة تعاطى هذه الأدوية.. بنفس الحماس المضحك، الذى نقوم به عندما نعلن عن السجائر، وعن مضار التدخين..
فكذلك يجب أن نعلن عن فوائد الأدوية، وعن ضرر الإسراف فى تعاطيها.. ضررها بالنسبة للمريض أولا، وميزانية الدولة ثانيا..
وأنه يضع مصلحته الشخصية فوق كل اعتبارات قومية، وهذا المرض الأخير قد قام بعلاجه عدد لا يحصى من الأنبياء والزعماء، وأكثر هؤلاء الأنبياء والخلفاء الراشدين قد لقوا مصرعهم وبقى الداء مستشريا حتى يومنا هذا!
والله أعلم..
فليست هذه إلا اعترافات واحد من بين الملايين، الذين يكلفون الدولة الملايين، عن جهل بما يفعلون وعن إصرار بأن الذى يعملونه صحيح، وهذا تأكيد لعمق هذا الجهل عندهم – ونحن أغلبية – ولله الحمد، فى مصر وفى البلاد العربية!
ملحوظة: هناك أوجه شبه كثيرة بين المترددين على المقابر وأضرحة أولياء الله وبين الذين يترددون على الصيدليات والعيادات – إنها مسألة نفسية!
أقول قولى هذا، ورزقى على الله!
تم النشرفى السنة الأولى - العدد الرابع والثلاثون - الأحد 19 يوينو "حزيران" 1977 - 2 رجب 1397