على مقهى في الشارع السياسي .. وما زالت المعركة مستمرة

على مقهى في الشارع السياسي  .. وما زالت المعركة مستمرةإحسان عبد القدوس

كنوز أكتوبر14-2-2023 | 19:01

رغم مرور46 عاما على نشر هذا المقال فى العدد 38 عام1977 إلا أننا مازلنا نتسائل نفس السؤال: هل يستطيع البوليس القضاء على أفكار الجماعات المتطرفة؟..ومازالت نفس الإجابة: البوليس يستطيع القضاء على أعضاء الجماعات.. ولكننا ندرك أن الأفكار تظل كما هى وإلا لما استمرت كل هذه الأعوام ومازلنا نجد من يؤمن بها ويدافع عنها ومن "يحترمها" لأن المعركة الأهم هى معركة العقول ومناقشة الأفكار فى المعلن وهى معركة علماء الدين والمثقفين والإعلام وكذلك الفن.. فهل يأتى اليوم الذى تنتهى فيه هذه الأفكار المتطرفة؟!

قال الشاب فى حيرة:

- هل تعتقد أن البوليس يستطيع أن يقضى فعلا على هذه الجماعة..

وشد العجوز نفسا طويلا من الشيشة ثم أسند مبسمها فوق المائدة والتفت إلى الشاب كأنه يهم أن يلقى محاضرة قائلا:

- لا شك أن البوليس يستطيع أن يقضى على الأفراد، ويستطيع أن يقضى على التنظيم، ولكنه لا يستطيع أن يقضى على الفكرة وسنبقى دائما معرضين لوجودها أو لوجود فكرة أبعد تطرفا وجنونا تحل محلها..

وقال الشاب الحائر:

- لماذا؟

قال العجوز الهادئ:

- لأن المشكلة ليست من اختصاص البوليس ولا وزارة الداخلية ولا حتى من اختصاص الجيش..

وقال الشاب فى دهشة:

- أى مشكلة؟

قال العجوز:

- مشكلة الفراغ..

وارتفع صوت الشاب فى زهق قائلا:

- فى عرضك.. لا تأخذنى فى متاهاتك.. إنى أحدثك عن هذا التنظيم المختل وكيف يعمل وكيف يسيطر على أفراده.. وأنت تريد أن تأخذنى بعيدا وتغوص بى فى فلسفتك..

وقال العجوز مبتسما:

- هذا يا ابنى هو سر نكبتنا.. إننا نعيش دائما على السطح، ونقبل أن نرفض ما نراه على السطح، ونصدر قرارات لا تشكل إلا السطح، دون أن يحاول أحد أن يغوص فى الأعماق ليكتشف سر القاع، الذى يقذف بكل هذا إلى السطح.. وأنت ترفض أن أغوص بك إلى القاع لأنك مصاب بالكسل الفكرى كبقية الشبان وتكتفى بأن تعوم على سطح الأحداث.. تكتفى بأن تتفرج وتعلق وتتكلم دون أن تتعب نفسك وتحاول أن تكتشف وتعالج..

وقال الشاب ساخرا:

- وقد اكتشفت أنت أن المشكلة هى مشكلة الفراغ.. قديمة.. إنها كلمة يرددها كل فارغ..

وقال العجوز:

- هذا صحيح.. الناس تتحدث عن الفراغ لأنهم يعيشونه.. يعيشون فى مجتمع فارغ.. ولكنهم أيضا لا يرون إلا فراغ السطح.. الدولة تقاوم الفراغ بزيادة ميزانية التليفزيون والإكثار من مباريات كرة القدم وتنظيم رحلات، وفتح مجالات عمل للطلبة خلال الإجازات و.. و.. و.. وكل هذا لا يتعدى تغطية السطح ويبقى القاع فارغا.. إن كل ما تقدمه الدولة للناس مخدرات تنسيهم ملل وزهق الفراغ.. الواحد منا يبتلع تذكرة سينما ويتخدر ساعتين ثم يخرج من السينما ليعود إلى الفراغ.. ثم يصاب بالجنون إلى حد أن يبتلع حبوب الانتحار.. إن هذه الجمعيات التى ينضم إليها الشباب بما فيهم الشباب المثقف ليست سوى جمعيات انتحارية..

وقال الشاب كأنه يلوم العجوز:

- كل هذا الذى تقدمه الدولة ولا تزال.. وتقول فراغ؟ كل هذه التغيرات فى النظم السياسية والاقتصادية؟ يا رجل حرام عليك..

وقال العجوز:

- كل هذه التغييرات لن تحل مشكلة الأعماق.. إنها تغييرات ترسمها وتحددها الدولة وتتحمل مسئوليتها الدولة ويقف حولها الناس يتفرجون.. إنها تغييرات تحل مشكلة الفراغ الرسمى ولا تحل مشكلة الفراغ الشبى.. رئيس الوزراء لا يعانى الفراغ ولا أحد من الوزراء ولا أفراد الطبقة المسئولة.. حتى أصبح هناك ما يسمى لائحة الفراغ الرسمى.. فكل مسئول تختلف نسبة ما يعانيه من فراغ بالنسبة لدرجة وظيفته الرسمية.. فراغ الدرجة الأولى.. وفراغ الدرجة الثانية.. والثالثة.. والثامنة.. والتاسعة.. وأعلى درجات الفراغ هى الدرجة التى يعيش فيها الذين يعينون من خريجى الجامعة كل عام..

وقال الشاب وهو لا يزال يسخر:

- وكيف نملأ الفراغ الشعبى؟

قال العجوز فى هدوء:

- بإطلاق حرية المعارك..

وصرخ الشاب:

- أى معارك؟!

قال العجوز الهادئ:

- معارك الفكر..

وقال الشاب:

- الفكر لا يعنى معركة..

وقال العجوز:

- الفكر لا يولد ولا يعيش ولا ينمو إلا وهو يعيش معركة مستمرة.. إن الفكر هو الاندفاع نحو التطور.. هو بناء الجديد، وبناء الجديد لا يتم إلا بمعركة مع القديم أو معركة مع ما هو أجدد منه.. معارك.. معارك.. معارك فكرية.. إن الفكر هو الذى يرسب فى الأعماق وهو الذى يحمل عناصر الإيمان.. والإيمان هو الذى يقضى على كل إحساس بالفراغ.. والفكر لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويطفو إلى السطح إلا وهو فى معركة مع فكر آخر.. فإذا حرمنا المعركة الفكرية التى تصل إلى السطح دارت ال معارك فى الأعماق وانقلبت إلى تحركات سرية لا تكتفى بمجرد التعبير الفكرى.. إن هؤلاء الجماعة الذين ارتكبوا جريمتهم لو أنهم كانوا قد أطلقوا أفكارهم وعاشوا معارك فكرية مع الشعب لهزمهم الشعب قبل أن يهزمهم البوليس.. هزمهم الشعب برفض فكرتهم التى تركت بلا معركة فأسرت عقولا مثقفة من خريجى وطلبة وطالبات الجامعة.. إن هذه الفتاة خريجة كلية الهندسة التى قبض عليها كان يمكن إنقاذها لو كانت تجلس معنا هنا على المقهى وتدخل معنا فى معركة فكرية..

وقال الشاب الساخر:

- وكنت قد أنقذتها طبعا.!

وقال العجوز فى أسى:

- كنت على الأقل أنقذت نفسى وأنقذتك من الفراغ.!

تم النشر فى السنة الأولى – العدد الثامن والثلاثون – 17 يوليو (تموز) 1977 – 30 رجب 1397

أضف تعليق