لم نكن نتوقع أن تكون مدينة "ليبرفيل" الصغيرة جميلة.. بيوتها حديثة شوارعها حرير، وفيلات رؤساء الدول قد أقيمت فى أسابيع على الجبال، والناس فى صحة وعافية، وقاعة المؤتمر قد بناها اليوغسلاف وقام على حراستها المغاربة، وكان الجو معتدلا باردا صباحا باردا ليلا، على الرغم من أن المدينة تقع على خط الاستواء، ولكن السحب الكثيفة هى التى حجبت الشمس عن الناس الذين يرتدون الملابس الطويلة وفى أيديهم أرغفة الخبز الفرنسية الطويلة.. أما أسواقهم فيبيعون فيها السمك.. ومحلاتهم مفتوحة مليئة بالسلع ومتاجرهم يديرها أو يملكها لبنانيون.
ولا توقعنا أن يكون المؤتمر ناجحا، لأنه ضم عددا كبيرا من رؤساء الدول، لأول مرة، ولأنهم أصروا جميعا على أن تكون إفريقيا للأفارقة: لا يدخلها أجنبى أمريكى أو سوفيتى.. وإذا كانت هناك خلافات بين الجيران، وهى بالفعل كثيرة وملتهبة، فيجب أن تحل فى إفريقيا نفسها، وأن الرجل الأبيض الذى هو أقلية فى إفريقيا، أو الذى هو يريد أن يعود إليها مرتزقا أو غازيا أو متآمرا، يجب التصدى له والاحتراس منه..
وإذا كان مؤتمر الوحدة الإفريقية العربية قد نجح عندما انعقد فى القاهرة، فإن الوحدة الإفريقية قد تحققت ونجحت فى مواجهة العدوان على زائير عندما تدخلت المغرب و مصر وتصدت فرنسا وبلجيكا للسوفيت فى هذه المنطقة..
وكان الشيوعيون فى هذا المؤتمر أقلية ضئيلة: أنجولا وأثيوبيا.
ولكن الاتجاه العام القوى هو مواجهة العدوان والعدو فى كل صوره ومواطنه.. وقد أعلن أحد الزعماء أن إفريقيا قد عادت لنفسها – يقصد أن هذا المؤتمر كان لصالح إفريقيا وضد تمزيقها.
وبدأ الأفارقة يتحدثون أيضا عن أن خروتشيف إذا كان قد أسقطه موقفه من كوبا عندما هددته أمريكا، لنفس الشىء من الممكن أن يحدث لبرجنيف وهو مريض ومصاب بالسرطان فى فكه السفلى، وغير قادر على الكلام بوضوح، وقد لاحظ عليه الرئيس الفرنسى ديستان ذلك ولاحظ أنه لا يأكل ولا يشرب إلا قليلا، ويقال إن قادة السوفيت يعلمون بمرض برجنيف، وليس إعطاؤه كل هذه السلطات إلا كالورود توضع على نعش رجل مات أو سوف يموت.. ومن المحتمل أن تؤدى مغامراته فى أثيوبيا والصومال وأريتريا وجيبوتى إلى سقوطه.. فلم يبق له من هذا كله إلا أثيوبيا وقائدها الدموى منجستو.
وفى المؤتمر كان الناس يتطلعون إلى الرجل الذى يجلس وراءه، لأنه هو الذى سوف يقتله وقبل أن يقتله سوف يكسر زجاجة من الدم، كما فعل منجستو عندما اغتال الزعماء السياسيين وكبار ضباط الجيش.. لأنه لا يعتمد الآن إلا على الجندى وصف الضابط.. أما الضباط من جميع الرتب فقد تخلص منهم!
وهاجم الرئيس نميرى، الاستعمار الاشتراكى – أى السوفيتى فى أثيوبيا وليبيا – بعنف شديد.
وبلور أن هناك خطة أخرى حتى لا ينجح هذا المؤتمر.. أو حتى لا تنجح كل خطوات مصر من أجل السلام.
ولذلك تحركت جماعة "التكفير والهجرة" لخطف الدكتور الذهبى، وهو أول حادث من نوعه فى مصر.
وسوف يكون له أثر عالمى، وقد حدث ذلك، وسوف يؤدى إلى انشغال عام فى مصر.. وأن يكون هذا الانشغال على شكل كراهية وقرف من اعتداء الصبية والشبان على رجل من رجال الدين، لأنه له رأيا مخالفا، ولأنه يرى أن الذى تعتنقه هذه الجماعة لا هو من الدين ولا من العلم ولا من الإيمان.
وعلى الرغم من النجاح العالمى للمؤتمر الإفريقى، فإن هذه الفرقعة قد شغلت الناس وأزعجتهم، وفى نفس الوقت أثارتهم على رجال الأمن وعلى الصحافة وعلى هذه الجماعات الضالة المضللة.
وفى المجتمعات كلها من الطبيعى أن نجد أناسا رافضين، فى أمريكا وفى أوروبا وفى اليابان وفى روسيا أيضا، وتختلف درجات الرفض عند هذه الجماعات.
ففى بريطانيا أثناء العدوان الثلاثى وبعده ظهرت جماعة الساخطين أو الغاضبين، وكان من بينهم أدباء، ولكن هناك جماعات أخرى لا تعجبها الأوضاع فى بريطانيا، وليس لديها حل لذلك، ولكن هؤلاء الغاضبين يمتصون غضبهم ولا يعتدون على أحد.
وفى نفس الوقت ظهرت فى أمريكا جماعة الصاخبين، وهم أيضا ثائرون على المجتمع الأمريكى الذى تتحكم فيه الآلة والمؤسسات والنقابات، وليس للفرد قيمة، ولذلك فهم ينسحبون من المجتمع، ويصنعون لأنفسهم مجتمعات أخرى، ومن مظاهر الرفض عندهم: أنهم لا ينفذون كل النصائح والأوامر التى كانوا يسمعونها من آبائهم ومدرسيهم ومن رجال الدين، ولذلك أطالوا شعورهم وأظافرهم وابتعدوا عن الاستحمام وتزوجوا فى سن صغيرة وأقاموا فى خيام خارج المدن..
ثم ظهرت جماعات الصخرة القذرة.. والجيل الضائع.. والجيل الأبيض – أى الذى ليس فى رأسه شىء ولا فى قلبه شىء.. وإنما هو أبيض العقل والقلب، لأنه يرفض تعاليم كل الناس..
وظهرت جماعات "المسدس الجنسى"، أى الذين يقولون إننا أبناء الناس لم نعد نعرفهم.. أطلقونا وتركونا، ولذلك يجب أن نتركهم ونعيش بعيدا عنهم..
ظهرت فى أمريكا بعد حرب فيتنام جماعة الذين يمشون نياما – أى الذين ليسوا على قيد الحياة – وإنما هم فى حالة من الغيبوبة فهم لا يدرون إن كانوا أحياء أو أمواتا.. ثم إنهم يتعاطون المخدرات وحبوب الهلوسة، لأن واقع الحياة فى أمريكا لا يعجبهم والناس جميعا آلات وحيوانات تنجب الأطفال ووحوش تكسب.. فأمريكا ليس إلا زريبة كبيرة نظيفة من الظاهر، وقذرة ومنحلة وكافرة بكل القيم من الداخل..
وهذه الجماعات الصغيرة فى مصر.
إنهم أيضا صبية صغار، استغلهم واحد أكثر خبرة منهم، ولعب على وتر أن المجتمع منحل، وأنهم وحدهم القادرون على إصلاحه، أى إن هناك عددا من المشاكل الأخلاقية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، وأنها جميعا بغير حل، وأن الإنسان أمام هذه المشاكل يجب أن يفعل شيئا.
والناس عادة إما أن ينسحبوا من مواجهة المشاكل لكثرتها وصعوبتها.. وإما أن يتهجموا عليها وعلى الناس أيضا.
ومن مظاهر الانسحاب أن يذهب الشبان بعيدا عن المجتمع، فتكون لهم حياة خاصة، أو أن يستغرقهم شىء: كالهوس الدينى أو التعصب الفكرى أو إدمان المخدرات أو الإسراف فى الجنس فهى جميعا إغراق واستغراق وهرب..
أو أن هؤلاء الشبان لا يجدون مفرا من الاعتداء على المجتمع.. أى على الناس الذين لهم شكل الأب والأم: كالأب والأم والمدرس ورجال الأمن والساسة ورجال الدين..
ويرون فى هذا العدوان نوعا من الإصلاح الذى ينشدونه، ويكون العدوان عنيفا، ثم إن هذه الجماعات تحاول أن تبرر لنفسها هذا السلوك المنحرف.
فهم ينظرون إلى المجتمع على أنه هو الذى يعتدى عليهم، أو هو العنيف معهم، ولذلك فالجرائم التى يرتكبونها، ليست جرائم فى رأيهم، وإنما هى نوع من الدفاع عن النفس، ومواجهة العدوان بالعدوان، والعنف بالعنف..
ثم لديهم نوع من المثالية الزائفة، لأنهم يرون أن هناك صورة أفضل لهذا المجتمع، هذه الصورة فى رءوسهم هم، وإنهم وحدهم القادرون على تحقيقها، ولما كانوا هم أقل عددا من أى مجتمع، فلذلك ليس أمامهم إلا فرض هذه "الصورة المثالية" بالقوة.. بالقنابل.. بالمسدسات.. بالدم!
ولذلك نجد أن لدى جماعة التكفير هذه أميرا.. هذا الأمير هو سيدهم: أى هو القوة الحقة التى تعطيهم شرعية الجريمة.. ثم لأنه قوى فقد استباح لنفسه أن يفعل ما يشاء، أى إن يضع القانون وأن يعتدى عليه.. ولذلك فقد استباح زوجاتهم، وبذلك يتوافر للأمير: العنف والجنس.
وفى كل جرائم هذه الجماعات فى أوروبا وأمريكا وجدنا العنف.. القتل.. ووجدنا الاستغراق فى الجنس.. أو تحقيق المتعة عن طريق إسالة الدماء، أو عن طريق خطف النساء واغتصابهن.
وهذا ما حدث فى جماعة التكفير أيضا.
ولكن لماذا يلتقى هؤلاء الأفراد معا؟ ما الذى يمسكهم؟ ما الذى يجمعهم؟ ما الذى يسيرهم هكذا؟
من المؤكد أن هناك تشابها فى تكوينهم النفسى والاجتماعى..
لأن الإنسان الإرهابى يختار هذا الأسلوب لعدة أسباب،..
أولها: أنه يريد أن يؤكد ذاته، أى يريد أن يقول: أنا هنا، أنا قادر على فعل شىء.
مع أن أحدا لم يسأله إن كان قادرا أو غير قادر، ولكنه يعانى من مشكلة أنه عاجز عن فعل شىء، أنه بلا وزن، أنه
بلا فائدة، أنه بلا دور.
ولذلك فالانضمام إلى هذه الجماعة يعطيه فرصة أن يقول: أنا فعلت.. أنا آمنت.. أنا كفرت.. أنا تآمرت.. أنا قتلت.
وثانيها: أن معظم هؤلاء الصبية والشبان لهم مشاكل نفسية واجتماعية، ولأنهم صغار فهم غير قادرين على حلها، إما لأنها كثيرة، وإما لأنهم يتعجلون ذلك، ومن وسائل الهرب من هذه المشاكل ومتاعبها أن يلقى الإنسان بنفسه على عدد آخر من الناس، وأن يذوب فيهم، فإذا ذاب فقد استراح من حريته ومن إرادته ومن مسئوليته.. وترك ذلك كله لإنسان آخر.. أو لجماعة آخرين.
إذن، هو محتاج إلى الاستغراق فى جماعة بقصد إغراق متاعبه، أى الاستغراق فى جماعة أو فى مذهب من أجل إغراق كل أوجاعه ومشاكله..
وبذلك يكون الاندماج أو الانطواء تحت لواء أو تحت إمارة أحد من الناس نوعا من الهرب..
والتعصب هو نوع من الهرب..
لأن هناك فارقا بين المتدين وبين المتعصب، فالمتدين هو الذى يؤمن بشىء ما، أو بشخص ما، ولكن المتعصب هو الذى لا يؤمن فقط وإنما هو الذى "يدمن" شيئا ما أو "يدمن" طاعة شخص.. والإدمان يجرد الإنسان من حريته فى أو يقول: لا..
وهو أصلا، لا يريد أن يقول: لا أو نعم.. ولذلك فقد أدمن فكرة أو مذهبا، أى فقد إرادته، بمحض إرادته.
وثالثها: أن الإرهابى يجد متعة فى أن يكون قريبا من ضحيته، ولذلك يتنافس الإرهابيون فيما بينهم: من الذى يخطف فلانا أو من الذى يقتله، لماذا؟
لأنه يريد أن يرى الشخص الكبير وقد أصبح ضعيفا هزيلا.. يراه وهو يركع عند قدميه.. يراه وهو يبكى وهو يتعذب.. ثم هو يقتله بعد ذلك، ويكون القتل استكمالا لمتعة تعذيب الآخرين والتشفى منهم..
والآخرون: هم كل الناس وقد تجمعوا فى شخص واحد!
والذى يستعرض أعضاء هذه الجماعات الصغيرة المنعزلة فى العالم كله والذين ارتكبوا مثل هذه الجرائم، يجد أن ظروفهم النفسية شاذة، وظروفهم الاجتماعية منحرفة، أو أن حياتهم العملية فاشلة.. إذن هم جميعا أناس يريدون أن يتأثروا من كل الناس، ولما كان من الصعب عليهم قتل كل الناس، فإنهم يختارون من يرون فيه عددا من الصفات المطلوبة: كأن يكون أبا مدرسا أو رجل دين أو وزيرا أو غنيا.. فهم يفضلون أى إنسان يمثل: القوة أو السلطة!
ورابعها: هؤلاء الشبان انتحاريون أرادوا أو لم يريدوا، فهم قد أدمنوا فكرة أو رأيا أو أسلوبا، ولذلك لم تعد لديهم إرادة، فهم لا يستطيعون أن يمتنعوا عن هذا الشىء الذى أدمنوه.. ولذلك كانت هذه الجرأة أو هذه الشجاعة.. وهى فى الحقيقة ليست إلا نوعا من البلادة النفسية والعقلية..
ثم إنهم يدخلون السجون حتى الموت وهم يسمعون ذلك واجبا وتضحية.. فكأنهم أناس أمسكوا مسدساتهم ثم أطلقوها على صورهم فى المرآة، بينما هم يريدون أن يطلقوها على كل الناس!
ومنطق هؤلاء الصبية المضللين بسيط جدا، وبقدر ما هو بسيط هو خاطئ أيضا.
فكل واحد يقول: أنا أقول إن الناس جميعا كفرة.
والناس يقولون: إننى أنا الكافر.
ولما كنت أضعف من كل الناس فلم أستطع أن أضعهم فى السجن..
وهو ترتيب منطقى، لولا أن أساس هذا المنطق خاطئ.. والأساس: هو أن الناس جميعا كفرة، وأنه هو وحده المؤمن، من قال ذلك؟ لا أحد إلا هو.. وإلا جماعته!
مع أن المنطق هو أن نقول معا: بعض الناس كفرة.. أو بعض الناس لا يطبقون الشريعة الإسلامية.
ولكن لابد من نسأل: وما هى الشريعة الإسلامية التى يستطيع طفل عمره 14 سنة أن يعرفها؟ ما الذى فهمه من القرآن ومن الأحاديث ومن شرح القرآن والأحاديث والمذاهب.. إن الدين علم واسع عميق متشعب، يحتاج إلى أعمار لكى يعرف الإنسان أين الصواب وأين الخطأ؟.. ولكن هؤلاء الصغار، لأنهم صغار، كان التأثير عليهم سهلاً فدفعهم فى حالة من الإدمان والسير أثناء النوم، إلى ارتكاب هذه الجرائم، دون أن يدروا أنهم قد ارتكبوها ضد أنفسهم أيضا..
وإذا كانت هذه الجماعات المنزوية المنطوية مجرمة فمن المسئول عن هذا الانحراف؟ من الذى تركهم أو تخلى عنهم، حتى سقطوا ضحايا أشرار متمرسين؟
هل هى غلطة رجال الأمن الذين عرفوهم ولم يتابعوهم؟ هل تكوين مثل هذا النوع من التفكير عمل له علاقة بالأمن فقط؟ هل هو الأمن "المتراخى عموما" هل الأمن الذى فقد هيبته عند الناس، هل أجهزة الأمن مثل أجهزة أى طبيب كبير، ومهما كان الطبيب عظيما وفى يده أجهزة غير معقمة، فما يقوم به من عمليات جراحية هى عمليات قتل؟
هل أجهزة الأمن أدوات غير معقمة فى أصابع أطباء مهرة.. إن الناس عموما لديهم هذا الاستعداد لإدانة رجال الأمن، والأمن، والتراخى والرخاوة وضياع هيبة رجل الأمن على اختلاف درجاته.. وهناك أدلة كثيرة على ذلك عند الناس.
هل هى مشكلة البيت؟ أى الأسرة وظروفها المادية والأخلاقية.. هل هى مشكلة عائلية، أدت إلى مشكلة اجتماعية سياسية إجرامية؟!
هل هى التربية الدينية، أو افتقاد التربية الدينية فى البيت والمدرسة وأجهزة الإعلام.. هل هم رجال الدين الاستفزازيون فى المساجد الذين يشعلون النار فى كل الناس، ويرفضون كل ما يجرى فى مصر.. فإذا سمعهم هؤلاء الشبان زاد سخطهم وغيظهم.
ولكنهم عندما فكروا فى خطق وقتل أحد اغتالوا أحد رجال الدين، فهل اغتالوه لأنه رجل دين؟ أعتقد أنهم اغتالوه لأنه وزير، لأنه صورة من صور السلطة، ولأن له رأيا مخالفا، وأن هذا الرأى المخالف كان له أثره عليهم عندما كان وزيرا..
هل هى الصحافة خصوصا، وأجهزة الإعلام عموما؟ هل هى الصحافة التى تقوم بتعميق التمزق عند الناس.. وتوسيع الازدواج بين ما يتمناه الناس وما يحلمون به، وبين ما يجدونه بين أيديهم.. هل هى الصحافة التى تلقى الوحل على الأمس، والماء على اليوم، والورد على الغد.. فيحتار الشباب ما الذى يصدقونه وما الذى يكذبونه.. هل هى الصحافة التى تنشر صورا لمجتمع مصرى لا يعرفه هؤلاء الشبان ولا يعرفون موقعه.. ثم تجىء الصحافة وتتهم كل الناس بالفساد والانحلال وخراب الذمم والرشوة.
هل هو التمزق السياسى والفراغ الهائل بعد النكسة الفظيعة، وكان هؤلاء الصبية فى العاشرة من أعمارهم.. أى أطفالا صغارا.. وفتحوا عيونهم على هلوسة صحفية وضوضاء عقلية.. وتحولت رءوسهم إلى برج بابل يتكلم فيه كل الناس بألف لغة ولا يدرى أحد ماذا يقوله الآخرون.
هل هى مشاكل الشباب أنفسهم: شديدو الحساسية يسهل التأثير عليهم، عندهم فراغ عقائدى أو مذهبى، لم يتلقفهم أحد، لم يحتوهم مذهب أو إطار سياسى.. لم يهتم بهم أحد.. ثم وجدوا أخيرًا من يعطيهم: الاسم الكودى والصفة والخطة والمذهب والأمل العنيف الذى أنكره واحتقره.. وبذلك يجىء دوره هو فى أن يخيف هذا العالم.
المهم الآن: هو أن ندرس هذه الظاهرة وأن نعرف أبعادها وأعماقها وحجمها، وكيف تكونت، ومن الذى يظلها ومن الذى يطعمها ويسقيها ويدربها.. ثم يجعل منها جميعا مسدسات تنطلق على مصر.
ويجب ألا نبالغ فى تقديرنا: فنهون من أمرها أو نهول فى فداحتها.. لأن التشخيص نصف العلاج.
ولابد أن يكون العقاب رادعا، فقد اعتاد الناس على الضرب الرجل بدلا من الضرب بالعصا والضرب بالعصا بدلا من الضرب بالرصاص، وبذلك لم تعد الجريمة تخيف لأن العقاب لا يخيف، ولذلك سقطت هيبة رجال الأمن، وهيبة الدولة كلها..
وإذا كان المقصود أيضا إفساد كل ما سوف يقال يوم 23 يوليو عندما تحتفل مصر بمرور ربع قرن على ثروتها، فإن هذه الجريمة لن تفسد علينا ذلك اليوم.. فقد تحقق ل مصر الكثير منذ ذلك اليوم، تحققت سيادة القانون وحرية المواطنين وأمنهم.
وكان من نتيجة ذلك أن أساء هؤلاء الصغار فهم الحرية.. وأساءوا معنى الأمن والأمان، وآمنوا و"أدمنوا" أيضا: أن القانون ليست له أنياب وأظافر.. ومعهم حق فى هذا الفهم، لأننا لم نر أنياب القانون منذ وقت طويل.. وأن رجال الأمن يستضعفون بعض الناس فيكشرون لهم عن أنيابهم، ولكن إذا لم تكن للقانون – هذه المرة – أنياب حادة ومخالب خارقة، فلن تنتهى هذه الجرائم، وأولى هذه الجرائم: ألا يكون لرجال الأمن القدرة على أن يحققوا لنا ولهم الأمن والأمان!
وأكبر جريمة يمكن أن نرتكبها جميعا أن "نلعن" الجريمة، وأن نقف عند هذا الحد.. فشتيمة الأمراض ليست علاجا لها.. وإنما يستحق الشتيمة واللعن والطرد وعظيم الاحتقار من يكتفى بتكفير جماعة التكفير.. وإنما يجب أن نجد حلا، وأن يكون الحل هو: الاقتراب والفهم والاحتواء وتقدير وزن وعمق هذه النزعات الرافضة.. وبعد ذلك نتقدم "معا" بالعلاج.. أى نتقدم "جميعا" كتابا وعلماء دين وعلماء نفس ورجال أمن..
وسوف تكون جريمتنا فادحة إذا نظرنا إلى كل شىء باستخفاف، لأننا قد اعتقلنا عددا منهم.. هذه غلطة فظيعة لأن معناها أننا نسينا حقيقة هامة وهى أن نصف سكان مصر دون العشرين، وأنهم يحتاجون إلى أن نضعهم تحت أعيننا وبين أحضاننا وفى قلوبنا.. لأنهم مصر، مستقبل مصر، ومن أجل مستقبل مصر، سالت دماؤنا، وجف طعامنا، ونضب شرابنا، وهان أمرنا على كل الناس.. وهان أمرنا على أنفسنا وعلى عدونا، وارتدت لنا أرضنا وقناتنا وكرامتنا.. من أجل هذا الشباب.. الذى هو مصر غدا وبعد غد!
تم النشر فى السنة الأولى – العدد السابع والثلاثون – 10 يوليو "تموز" 1977 – 23 رجب 1397