حينما كنا طلبة فى المنصورة الثانوية، كانت لنا آمال وأحلام، وكانت أحلامنا كالثب الفضفاض، ومن ثم فإنها تبدو واسعة علينا، كما أنها كانت تجرجر من حولنا، لأنها كانت طويلة على قاماتنا.
ولقد كان الأستاذ أنيس منصور أحد زملاء الدراسة اللامعين، وكان أول مسابقة الفلسفة على التوجيهية، بينما كان الدكتور محمد عبد الغنى، محافظ الدقهلية الحالى، أول مسابقة الأدب العربى، وكنت أنا أول المسابقة فى العام الذى سبق، حيث كنت أسبقهما بعام.
ولقد ذكر لى الأستاذ أنه كان يود أن يكون طبيبا، بالرغم من أن والده كان شاعرا وأديبا، فلقد كان يود أن يعالج والديه، ولأنه يحبهما حبا جما، فإنه كان يتمنى أن يكون لهما الإبن والطبيب، ليعطى أقصى ما عنده من العلم، لأغلى من عنده من الناس.
أما أنا فلقد كنت أحب أن أدرس الأدب أو القانون، رغم أنه لم يكن عندى قضايا أو منازعات، ولم يكن فى أسرتى من تخصص فى الأدب أو القانون.
والشىء الغريب أن أحدا منا لم يحقق أحلامه، فلا الأستاذ أنيس منصور أصبح طبيبا، ولا أنا صرت أديبا، وإنما الذى حدث هو العكس تماما.
ولست أظن أن الأستاذ نادم على ما أصبح فيه، أما أنا فلقد ظللت نادما بضع سنوات، ولكننى فى نهاية الأمر قد رضيت بقسمتى ونصيبى، وحمدت الله على ما أنا فيه.
وكما يقول المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل: لكل إنسان مثقف حرفتان، حرفة يكسب بها حياته، وحرفة يتذوق بها الحياة.
ولقد صار الطب مهنتى ومصدر رزقى، وقضيت على دروبه أيام حياتى، بما فيها من سعادة وشقاء، إلا أننى أتذوق حياتى من خلال الكتابة، حيث أجد فيها نوعا من المتعة النفسية والتعبير عن الذات، بل التعبير عن الطب نفسه، هذا الفن الذى لم يكن من أحلام شبابى.
وأذكر فى هذا المقام قول الرئيس السادات عن نفسه: «إننى لست كاتبا قد تفرغ للكتابة كل الوقت، إن الكتابة متعة لبعض الوقت، ففيها الحنين إلى الخلوة والتأمل، ورؤية الإنسان لنفسه على الورق».
إن مهنة الطب غنية بالصور الإنسانية الرائعة، وهى صور ليست مشرقة فى كل حال.
ولست أغالى حينما أقول إننى طالما رأيت أعظم اللوحات، واستمعت إلى أروع القصائد، بين أسرة المرضى وغرف العمليات.
ولأنها مهنة الألم والمرض، فإنها كاللوحة الثرية بالظلال والألوان، المليئة بأعمق المشاعر والرؤى، حينما يكون الإنسان متجردا من كل غطاء.
إن الألم يعرى الإنسان تماما، ويفضح أسراره، ويجعله يبدو بسيطا وعلى طبيعته، ويجرده من كل هالة مصطنعة ومن كل زيف ورياء.
وحينما يشعر الإنسان بالقوة والعافية، فإنه يجعل من نفسه فرعونا صغيرا، ويضفى على نفسه ما ليس فيه من الصفات.
فإذا أصابه الألم لسبب من الأسباب، فإن ذلك يكون بمثابة الدبوس الصغير، حينما يشك بالونة ضخمة الحجم، جذابة الألوان، فإذا البالونة هباء فى هباء.
وما أكثر الذين بين الناس، مثل هذه البالونة الجوفاء.
أعرف رجلا كان يشغل منصبا تنفيذيا كبيرا، وكانت هواية هذا الرجل هو إخافة الرجال من حوله، وكان يحب دائما أن يبدو كأنه أطول الرجال، ولم يكن أطولهم، وكان يرفع صوته بالكلام، ولم يكن صوته أحلى الأصوات، وكان يحلو له أن ينفخ أوداجه بينهم، ولم تكن أوداجه أعظم الأوداج.
ودعيت لزيارته ذات ليلة، فوجدت إنسانا غريبا جدا، وجدت رجلا خائفا وجلا، وهو الذى كانت هوايته إخافة الرجال، ووجدت صوتا خافتا ضعيفا، وهو الذى طالما رفع عقيرته بالكلام.
وما كاد الرجل يتمدد فى سريره للكشف، حتى سقطت كل الأقنعة، وكلما مددت يدى أتلمس جزءا من جسده، كلما استولى عليه الذعر وأصابه الوهن، وبدا هشا متهالكا، وبدا الرجل صغيرا، فى حجمه تماما، وجرده الخوف من كل أقنعته، وكأنما ابتلع لسانه مع لعابه، فلم تعد تصدر عنه أصوات ولا ضوضاء، وكأنه جهاز راديو قطعت عنه الكهرباء.
وبدأ يستمع إلى كلامى وهو ممدد فى سريره، مؤدبا غاية الأدب، بلا مهابة أو كبرياء، وكان كمتهم فى قفص الاتهام، ينتظر صوت القاضى، مبشرا بالبراءة أو مجلجلا بالإعدام.
وبرأته بكلماتى مما كان يشغل باله ويزعج خاطره، وكم كانت دهشتى حينما وجدته يعتدل فى سريره، ووجدت صوته يعلو وقد كان خافتا، وارتدى بسرعة فائقة، سراويل العظمة وثياب الكبرياء كباروكة شعر مستعار.
ووجدتها فرصة لكى أنصحه، مثلما يفعل كل الأطباء، حينما يصبح حتما على المريض أن يطيع، وطلبت إليه أن يستريح.
ورد على قائلا: كيف أستريح وأمامى كل هذه المسئوليات؟ ولو أننى استرحت كما تقول لتوقفت كل الأعمال.
وقلت لنفسى وله..
لقد استراح كل الناس..
ومات كل الناس..
فهل توقف الكون عن الدوران؟
ولكنه صلف إلا أن.
حينما يكون كالبالونة الجوفاء.
تم النشر فى السنة الأولى – العدد الثامن والثلاثون – 17 يوليو (تموز) 1977 – 30 رجب 1397