الحملات المسعورة والحرب النفسية «3»

تتلاحق الأزمات والتوترات على مستوى العالم وتجني الشعوب نتائج تلك الحالة بما تخلّفه من أزمات اقتصادية وأوضاع سياسية وتحركات عسكرية تترك خلفها مدنًا تحولت إلى أطلال بعد أن كانت عامرة بساكنيها، وشوارع خربة وحقولاً جفّت ومصانع أغلقت وبنايات فقدت الأنفاس البشرية لتتحول إلى مدن أشباح.
لم يأت ذلك المشهد مصادفة لكنه نتاج أحداث متلاحقة وتوترات ومصادمات عسكرية واقتصادية وسياسية، كان لمنطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية نصيب منها.
لتمتد تلك التوترات لتشمل مناطق أخرى منها (روسيا وأوكرانيا - الصين وتايوان والكوريتين)، منذرة بمرحلة مخاض لنظام عالمي جديد ترسم ملامحه نتائج هذه الأحداث التي لن يخرج منها أحد منتصرًا.
ما لم تتوقف الآلة العسكرية ويدرك الجميع أن الحلول السياسية هي أفضل الطرق لعودة الاستقرار، وأن مصلحة الشعوب هي خلق حالة من الأمن والاستقرار لتحقيق التنمية من أجل تلبية احتياجات المواطنين.

الفترة الماضية وبالتحديد خلال الأعوام الأخيرة يشهد العالم أكبر حرب نفسية تمارس فى تاريخه وتحصل المنطقة العربية على نصيب الأسد من تلك الحرب، نظرًا لتوافر المناخ المناسب، وسهولة الوصول للهدف.
بعيدًا عن التحركات العسكرية والأزمات الاقتصادية تدور رحا حرب أخرى؛ حرب نفسية تستهدف السيطرة على الشعوب، بعيدًا عن الآليات والمجنزرات والمدافع وأزيز الطائرات.
تستهدف العقول والتأثير عليها دون أن تترك أمرًا للصدفة فالعديد من البدائل والتحركات تسير وفق استراتيجية مدروسة، وخطة محكمة لديها هدف محدد وهو القضاء على الدولة الوطنية، والتي تعد بمثابة الصخرة الصلبة فى مواجهة أي تحرك نحو مشروع وطني.
(1)
فاستهداف الدولة الوطنية أمر لا بديل عنه من قبل قوى الشر أو الدول ذات المشروعات التوسعية، وكذا كل مؤسسة فى تلك الدولة.
وتأتي الشعوب هدفًا أساسيًا لهذه الحرب من أجل التأثير على الروح المعنوية لديها إما سلبًا أو إيجابًا.
فالشعوب عندما تُهدم من الداخل يصعب عليها مواجهة التحديات أو عبور الأزمات أو بناء الأوطان أو الحفاظ عليها.
من هنا يأتي التحرك من قبل مستهدفى هدم استقرار الدول.
الأمر الذي يجعلنا نحرص على كشف الحقائق وتوضيح تفاصيل ما يجري على الأرض من استهداف للعقول فى ظل منطقة تشهد أكبر معارك الحرب النفسية تمارس عليها منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي خلال فترة ما بعد حرب أكتوبر 1973، وكذا حرص الولايات المتحدة وتحركها باتجاه إسقاط الدولة الوطنية وتقطيع أواصرها.
لتكون بمثابة لبنة مهمة فى المشروع الجديد للمنطقة والذي حالت دون حدوثه الدولة المصرية، بوقوفها إلى جانب الشعوب العربية وحرصها على الحفاظ على الدولة الوطنية وتأكيدها الدائم أن الحلول الدبلوماسية أو السياسية هي أفضل الحلول للأزمات التي ضربت جسد المنطقة العربية.
وخلال الفترة الأخيرة تشهد منطقة عربية أكبر موجة من موجات الحرب النفسية التي تستهدف التأثير على الشعوب وإفقادها الثقة فى قيادتها أولاً، ثم فى أوطانها ثانيًا، ثم تقذف بهم خارج حدود أوطانهم ويصبح الاستقرار والأمن مفقودًا وتخرج الشعوب تاركة خلفها أوطانًا تحولت إلى أشلاء.
ولأن قدر الدولة المصرية أن تكون دائمًا فى مرمى سهام الحروب النفسية، والهدف الاستراتيجي الأهم باعتبارها «الجارة الكبرى»؛ فما نشهده سواء من وسائل إعلام غربية أو من إعلام قوى الشر أو من مخرجات كتائبهم الإلكترونية على مواقع التواصل، ليس بجديد لكنه يستلزم منا جميعًا الانتباه لما يجري.
فعلى مدار الأسابيع الماضية حرص محترفو إدارة الحرب النفسية على رفع سقف حالة التشكك فى قدرات الدولة المصرية، وحرص القيادة على مصلحة حماية مصالح الشعب، والحفاظ على مقدرات الوطن.
ودعونا نتوقف عند بعض تلك النقاط علنا نكشف جزءًا من استراتيجية المعركة وكيف يتحرك مقاتلوها مستهدفين تقديم مشهد زائف يجتذب البعض أو يؤثر على قرار البعض الآخر أو قد يخلق حالة غير حقيقية فى المشهد.
فقد حرصت «واشنطن بوست» على استغلال توترات الأوضاع فى السودان على ربطها بمصر فى عنوان لموضوع «فروا من القتال فى السودان، ليواجهوا أزمة فى الحدود المصرية» قدمت الموضوع مديرة مكتب الصحيفة بالقاهرة والمقيمة فى دبي «سيوبان أوجرادى - Siobhán O›Grady» وحرصت خلال التقرير الذي قدمته بشكل إنساني للتعرف على معاناة الأشقاء السودانيين القادمين باتجاه الحدود المصرية، لتقذف بالسم داخل الموضوع وتشوه المشهد وتناست «سيوبان» أنها وبحسب صحيفتها كانت تقوم بالتغطية من منطقة وادي كركر بأسوان، والتي فتحت منازلها للأشقاء ورحبت بهم ولم يواجه الأشقاء السودانيون أي معوقات من الجانب المصري، بل سهلت مصر لهم كل الإجراءات بل بالتعاون مع اليونيسيف تم عمل عيادات للتأهيل النفسي لأبناء السودان الفارين من المواجهات العسكرية.
وحرصت «أوجرادى» على أن تقدم عنوان الموضوع ليس له علاقة بالمتن فى عمل يفتقد إلى قواعد المهنية ويكشف توجه الصحيفة ومديرة مكتبها بالقاهرة.
لم يكن هذا التحرك فقط من قبل الصحيفة لكنها اعتادت على نشر مثل تلك الموضوعات التي تستهدف تشويه الواقع فى الوقت الذي نشرت فيه العديد من وسائل الإعلام العالمية حجم الاهتمام من الجانب المصري بتقديم كل التسهيلات للأشقاء السودانيين وتقديم كل الخدمات لهم.
(2)
لم تتوقف الصحيفة عند هذا، ففى عدد الخميس 4 مايو الجاري نشرت تقريرًا من بيروت نسبته إلى وكالة «أسوشيتد برس» الأمريكية فى تقرير بلغ 550 كلمة، حول ما وصفته بالسياسي المصري المقيم فى الخارج ويخطط لخوض الانتخابات الرئاسية فى البلاد العام المقبل، حرصت فيه على الترويج لما ردده عضو البرلمان السابق أحمد الطنطاوي على شبكات التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية، لتحاول الصحيفة إبراز تقارير لمنظمات حقوقية تستهدف من خلال ملف حقوق الإنسان تشويه صورة الدولة المصرية فى الخارج مثل «هيومان رايتس وتش».
التقرير الذي نشرته الصحيفة حرص على إبراز صورة غير دقيقة عن أوضاع حقوق الإنسان فى مصر، وهو الملف الذي دائمًا ما تقذف به فى معظم الموضوعات الخاصة بالشأن المصري.
وتجاهلت الصحيفة تمامًا الحوار الوطني الذي تشارك فيه كل القوى والأحزاب السياسية، وكل طوائف وفئات الشعب المصري، فى حوار رددت واشنطن بوست، ونيويورك تايمز، وول ستريت جورنال، فى نهاية أبريل من العام الماضي عقب دعوة الرئيس للحوار أنه محاولة من النظام المصري لتجميل المشهد.
والآن وعقب بدء الجلسات الخاصة ب الحوار الوطني الأسبوع قبل الماضى، لم تشر الصحف الثلاث للمشهد الذي تابعه العالم عبر وسائل الإعلام المختلفة والذي أكد أن الدعوة التي وجهها الرئيس كانت البداية لخارطة طريق نحو جمهورية جديدة تُبنى على الاستماع للرأي والرأي الآخر، واحترام الديمقراطية والدستور، وحرص الدولة على مشاركة كل أبنائها فى تحديد مسارها نحو المستقبل.
حالة من التشكيك المتواصل تنتهجه الصحف الثلاث وتنضم إليها بعض المواقع الأخرى مثل bbc والجارديان، وقنوات قوى الشر.
وفى الوقت الذي أفردت فيه الواشنطن بوست تلك المساحة حول النائب السابق أحمد الطنطاوي، محاولة ترديد ما نشره على مواقع التواصل، لم تذكر الصحيفة أي أنباء عن وصول طنطاوي إلى القاهرة قادمًا من بيروت وقد نشر على صفحته على موقع التغريدات القصيرة «تويتر»: «وصلت اليوم إلى وطني الذي غبت عنه تسعة أشهر ولم يغب عن عقلي وقلبي وروحي لحظة واحدة.
أستأذنكم فى خمسة أيام أقضيها بحضن عائلتي التي تحتاج إليّ وأحتاج إليها، لأبدأ بعدها جولة مشاورات مكثفة بلقاءات عامة وخاصة».
تغريدة طنطاوي يبدو أنها لم تتوافق مع ما تستهدفه الصحيفة ومعاونها فلم تنتبه إليها أو تتوقف عندها.
(3)
وخلال الأسبوع الماضي بدأت موجة جديدة قادتها الكتائب الإلكترونية تستهدف النيل من الثقة بين المواطن والقيادة، ومحاولة استغلال الأوضاع الاقتصادية للوصول للهدف وهو تزييف الوعي، وهنا دعونا نتوقف عند بعض تلك التحركات والتي جاءت لتشكك فى نتائج الحوار الوطني بعد أن شاهدت حجم المشاركة من قبل كل القوى السياسية.
بالإضافة إلى عودة الحديث مرة أخرى عما أسمته تلك الكتائب فقه الأولويات، لتردد ما تحرص عليه دائمًا من عدم ضرورة هذا الكم من المشروعات فى البنية التحتية خاصة الطرق والإسكان، محاولة رسم صورة مغلوطة وهي أن الدولة كان عليها أن توجه الأموال إلى الصناعة أولاً وإلى التعليم.
ولم يدرك هؤلاء أن المشروعات القومية من البنية التحتية هي التي تفتح الطريق أمام تطوير وتنمية الصناعة، ولولا تلك المشروعات لما استطاعت الدولة القيام بأي مشروعات صناعية جديدة، كما أن الدولة عملت بشكل متوازٍ فى كل القطاعات: التعليم والصحة والصناعة والبنية الأساسية والإسكان، والرعاية الاجتماعية والتنمية الزراعية، ولولا التحرك بشكلٍ متوازٍ ما استطاعت الدولة أن تقف فى مواجهة الأزمات العالمية التي عصفت بالعديد من الدول.
نعم هناك فقه للأولويات لكن فى حالة مثل الدولة المصرية فكل القطاعات أولوية وكانت تواجه أزمة يجب التدخل لحلها وهو ما فعلته الدولة.
لكننا لدينا أولوية حقيقية فى فقه الأولويات وهي «العمل» علينا أن نعمل جميعًا دون كلل أو ملل، علينا أن يكون الإنتاج والعمل المتواصل هو الهدف الأساسي لكل منا؛ كل فى موقعه.. لأننا بالعمل والإنتاج سوف نستطيع أن نعبر أي أزمة ونواجه أي تحدٍ.
علينا جميعًا أن ندرك أن الدول لا تتقدم أو تتطور بالأمنيات، إنما تبنى بالعمل والحضارة التي بناها أجدادنا التي كانت نتاج فكر وعمل متواصل من أجل دولة قوية.

محمود بكري


رحم الله الأخ والصديق والزميل الدكتور محمود بكري، عضو مجلس الشيوخ، صاحب الوجه الباسم دائمًا المحب لوطنه، الذي ظل مدافعًا عنه بقلمه حتى آخر لحظات حياته، لقد أحبه كل من عرفه، فكان له الأثر الطيب.
ودعواتي لشقيقه الكاتب الصحفى والإعلامي وعضو مجلس النواب مصطفى بكري، بأن يربط الله على قلبه ويلهمه الصبر والسلوان.
وخالص العزاء للأسرة

أضف تعليق