ضحايا لعبة توازن الكبار

ضحايا لعبة توازن الكبارصورة موضوعية

كنوز أكتوبر4-5-2023 | 18:53

ينتهى المحللون السياسيون فى جميع أرجاء العالم دائما إلى سؤال حائر، لا يستطيعون فى أغلب الأحوال إيراد رد حاسم عليه، فتراهم يحومون حوله بالاحتمالات والتكهنات.
أما السؤال فهو:
هل ينتهى هذا الصراع الأبدى بما يترتب عليه إلى وفاق حقيقى، يخفف عن كاهل الشعوب نفقات التسلح الباهظة؟ أم أنه سوف يؤدى إلى الصدام الذى يخشاه الجميع، فيعم الدمار والخراب نتيجة لاستخدام ما فى الترسانات فى الناحيتين، من أسلحة رهيبة؟.
وبقدر ما فيه من صعوبة تؤدى إلى طريق مسدود، فإنه يعطى شعورا غامضا، بأن هناك نوعا من التوازن الاستراتيجى قد قام بين الدولتين، يحمل فى طياته الأمل فى أن الحرب النووية التى تخشاها البشرية قد لا تحدث قط..
أصل الصراع
لقد قام هذا الصراع فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، نتيجة لخلافات نشأت إما على تقسيم مناطق النفوذ الجديدة، وإما لخوف كل منهما من أن تنتهز الأخرى الفرصة لتوجه إليها ضربة قاصمة، تخرجها بها من حلبة التنافس بينهما، فيصفو لها الجو، وتسيطر على العالم.
ولكن هذه النتيجة لم تتحقق، ومضت السنوات فى إثر السنوات، والصراع دائر على أشد ما يكون، مع ما يترتب عليه من سباق فى التسلح، الذى يقع عبؤه على كاهل شعبيهما، وأيضا على كاهل جميع شعوب العالم، فلما انفتح طريق الأسلحة النووبة وغزو الفضاء، أصبحت الأموال تستنفد بمليارات الدولارات، بدون عائد ملموس، مما يهدد بوقوع انفجار تضخمى، تسقط معه أنظمة حكم كثيرة، مع ما يترتب على ذلك من فوضى.
إن هناك من يقول بأن الاتحاد السوفيتى يطيل عن عمد من هذا السباق الخطير، ويتهرب دائما من التوصل إلى حلول جذرية توقفه، اعتقادا منه بأن هذه الفوضى إذا حدثت كانت فى صالحه، لأنها المقدمة الطبيعية لبلشفة العالم.
ولكن هناك من يرد على ذلك، بأن الاتحاد السوفيتى قد تخلى منذ زمن بعيد عن مثل هذا الهدف الخيال، وأنه نبذ فكرة الثورة العالمية، واكتفى بقيام نظامه داخل حدود أراضيه.
وأيا ما كان الأمر، فإن الجانبين قد توصلا بعد كل هذه السنوات، إلى أن هذا الصراع يضربهما معا، فقررا التوقف قليلا عن هذا التسابق المضنى، ربما بغية التقاط الأنفاس ثم العودة إليه، وربما يأسا من إحراز النصر فيه.
وكان ذلك هو السبب فى التوصل فيما بينهما إلى نوع من الوفاق، الذى انعقدت بشأنه اتفاقية بين الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون من ناحية، والثلاثى الذى كان يتولى الحكم فى الاتحاد السوفيتى فى تلك الآونة عام 1972، ولكنه لم يلبث أن فشل، وكاد ينهار، أو يتحول من "وفاق" إلى "نقار".
جولة جديدة
وعندما تولى جيمى كارتر رئاسة الولايات المتحدة فى أوائل هذا العام، وكانت العلاقات بين الدولتين قد تدهورت إلى أبعد الحدود، كان أول ما فكر فيه هو إيفاد وزير خارجيته سيروس فانس إلى موسكو، سعيا وراء اتفاقية جديدة، تدعيما لذلك الوفاق المنهار.
لقد كان معروفا يومها، أن هناك خلافات حادة بين الجانبين، حول مشكلة نزع السلاح المتقدم، بمعنى الحد من عدد الصواريخ الحاملة للقنابل النووية التى يمتلكها كل منهما، وذهب الوفد الأمريكى إلى موسكو، ولم يلبث أن غادرها، مشيعا بمثل الهجوم الذى استقبل به من الصحافة وأجهزة الإعلام والمسئولين السوفيت أنفسهم، ففشلت هذه الجولة من المفاوضات.. وكان ذلك فى مارس الماضى.
* ذلك أن كارتر كان قد بدأ حملته التى أسماها الدفاع عن حقوق الإنسان، وهى ما اعتبره الاتحاد السوفيتى تدخلا فى شئونه الداخلية، كما أن الرئيس الأمريكى لوح بأسلحة جديدة سوف تخرجها الولايات المتحدة.
ثم لجأ الطرفان إلى شىء من ضبط النفس، فاتفقا على جولة جديدة، بلقاء يعقد فى مايو الماضى، فى جنيف، وتم اللقاء فعلا بين فانس وجروميكو، وكان مظهر نجاحه الوحيد أن توصل الرجلان إلى أن سبب الخلاف بين بلديهما، إنما هو فى الحقيقة خلاف على درجة تسلح كل منهما، وبمعنى آخر رغبة كل طرف فى ألا يتفوق الطرف الآخر عليه، فى مجال حيازة الأسلحة.
مخاوف متبادلة
كانت سلسلة من المفاوضات عرفت باسم محادثات سالت قد جرت بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، هدفها الحد من الأسلحة الاستراتيجية، رغم أن الدولتين كانتا تعملان على التملص من أى قيود قد تترتب عليها.
لكن المخاوف المتبادلة نتيجة لاحتمالات المستقبل، كانت هى التى تدفعهما إلى العودة إلى مائدة المفاوضات من جديد، والواقع أن همهما لم يكن محصورا فى الأعوام الحالية فقط، وإنما فى التفكير فيما عساه قد يحدث فيما بعد عام 1980، فلقد كانت حسابات الولايات المتحدة تقول إن الاتحاد السوفيتى قد يحقق فى حوالى هذا الوقت، قفزة هائلة إلى الأمام، فى سباق الأسلحة المتطورة للغاية.
وإذا نحن عدنا خطوة إلى الوراء فى تاريخ التسلح النووى، نجد أن التكنولوجيا الأمريكية والسوفيتية، قد سارت كل منهما فى اتجاه مخالف للآخر، فلقد كان هم الأمريكيين أن يتوصلوا بالنسبة لأسلحتهم إلى أكبر قدر من الدقة فى التصويب وإصابة الأهداف، وقد حققوا ذلك بالفعل، متمثلا فى الصاروخ "كروز".
أما السوفيت، فقد بذلوا جهودهم لتعويض وضعهم المتخلف بالمقارنة بالتكنولوجيا الأمريكية التى سبقتهم بمراحل، وذلك بمضاعفة أحجام المواد الناسفة والمشعة، التى تحملها صواريخهم الضخمة من طراز (س س 18).
دمار للحضارة
ولو أن حربا قامت بين هذين العملاقين، لكان من المرجح أن يقوم الأمريكيون بمبادرة لتدمير سلاح العدو السوفيت، عن طريق ضرب الصوامع التى أخفيت فيها الأسلحة النووية، أما السوفيت فإنهم فى هذه الحالة سوف يطلقون شحناتهم الرهيبة على المدن الأمريكية مباشرة، فيزيلونها من الوجود.
إن من غير المجدى التكهن بأى من هاتين الاستراتيجيتين هى التى سوف تنتصر على الأخرى، ذلك أن الأمريكيين إذا هم نجحوا فى ضرب مخازن الأسلحة السوفيتية ودمروها جميع، فإنهم يكسبون الحرب، إلا أنه يكاد يكون مستحيلا أن يتمكنوا من إبادة كل هذه الأسلحة، وخاصة ما تحمله منها الغواصات، التى لا يتسنى بطبيعة الحال الكشف عن الأماكن المتواجدة فيها، فى أعماق البحار والمحيطات.
ونفس الأمر بالنسبة للسوفيت، ولكنهم إذا تلقوا الضرب الأولى وكانت فى الصميم، فإن هناك احتمالات كبيرة فى أن تبقى لديهم أعداد صغيرة من الصواريخ الضخمة، ذات الشحنات المتعددة، التى يمكنهم بها تدمير كافة المدن الرئيسية فى الولايات المتحدة.
من هنا كان اتساع آفاق المخاطر التى يتعرض لها الطرفان، وبناء على ذلك كان الإلحاح على المضى قدما فى مفاوضات سالت.


الاستراتيجى.. والتكتيكى


ولما كانت المشاكل بين الأمريكيين والسوفيت متشعبة، وأى مباحثات بينهما معرضة للدخول فى متاهات هذه المشاكل، كان لابد من أن تقتصر على الأسلحة الاستراتيجية وحدها، وقد أدى ذلك إلى بحث آخر، هو تقرير وتحديد الصفات التى تجعل من الأسلحة ما هو استراتيجى، وما هو غير ذلك.
وهناك كان طبيعيا أن ينكر كل طرف أن بعض أسلحته من النوع الاستراتيجى، وأن يصر فى نفس الوقت على أن جميع أسلحة خصمه من هذا النوع، فى محاولة لإدخالها ضمن اختصاص مفاوضات سالت، وبالتالى إخضاعها للأحكام والقيود التى سوف تتقرر فيها.. إذا نجحت.
وعلى الفور برز السؤال التالى: هل هناك معيار يمكن بموجبه، معرفة ما هو استراتيجى، وما هو غير ذلك.
وهنا كان طبيعيا أن ينكر كل طرف أن بعض أسلحته من النوع الاستراتيجى، وأن يصر فى نفس الوقت على أن جميع أسلحة خصمه من هذا النوع، فى محاولة لإدخالها ضمن اختصاص مفاوضات سالت، وبالتالى إخضاعها للأحكام والقيود التى سوف تتقرر فيها.. إذا نجحت.
وعلى الفور برز السؤال التالى: هل هناك معيار يمكن بموجبه، معرفة ما هو استراتيجى، وما هو تكتيكى؟
إن المعايير التقليدية الخاصة بهذه الناحية اثنان: أولهما: المدى الذى تصل إليه الطائرة أو الصاروخ، وثانيهما: حجم الحمولة المتفجرة أو المشعة التى يحملها كل منهما، والمعروف أن الصواريخ ذات المدى القصير نسبيا تحمل رءوسا ذرية صغيرة، الغرض منها استخدامها فى ميادين المعارك أو بالقرب منها، وعلى ذلك فهى أسلحة تكتيكية.
أما الصواريخ عابرة القارات، التى يبلغ مدى عملها مسافات ضخمة وتتجاوز 5500 كيلومتر، فإنها قادرة على حمل أجهزة دمار أكبر وأشمل، ومن هنا فإنها استراتيجية.
وسائل المراوغة كثيرة
ونتيجة لذلك نشأت الخلافات، حتى من قبل الدخول فى أى مفاوضات، فهذه المعايير تحكم بأن الأسلحة الاستراتيجية هى تلك الصواريخ التى تستطيع عبور القارات، وهى على وجه التحديد ما لدى السوفيت، التى يمكن أن تنطلق من أى مكان فى أوروبا، فتصل إلى الأراضى الأمريكية.. وكذلك هى الصواريخ التى تحملها الغواصات وتطوف بها البحار، وهى أيضا موجودة لدى السوفييت.
ويثور الروس ويتساءلون: وماذا عن الصاروخ "كروز"؟ هل هو استراتيجى أم تكتيكى؟
ويبتسم الأمريكيون ويقولون إنه تكتيكى صريح، أليس مجال عمله محدودا، ولا يمكنه عبور الأطلنطى؟ ويعترض السوفيت بأن فى الإمكان تركيبه فوق غواصة أو طائرة، فيصبح مدى عمله هو المسافة التى تقطعها الوسيلة التى تحمله، مضافا إلى ذلك المسافة التى يقطعها هو، بعد انفصاله عنها.
وتتكرر المناقشة عن الطائرة (باكفاير" السوفيتية، فالروس يصرون على أنها تكتيكية، لأن طيرانها محدود، أما الأمريكيون فيرون أنها استراتيجية، لأن فى الإمكان تزويدها بالوقود فى الجو، أما الحالة المحيرة حقا، فهى الصاروخ السوفيتى الجديد من طراز (س س 20)، الذى إذا حملوه بعدة رءوس نووية لا يستطيع الوصول إلى الأراضى الأمريكية، أما إذا حمل رأسا واحدا، فإنه يستطيع أن يقطع سبعة آلاف كيلومتر.
الردع الاستراتيجى
هى حلقة مفرغة إذن، فهل يتفقون أو لا يتفقون؟ وهل يكون هناك وفاق، أم يستمر النزاع؟
والأهم من ذلك، كيف يمكن وقف هذا السباق المدمر، وما هو السبيل إلى الحيلولة دون قيام السوفيت بتلك القفزة المروعة، التى ينتظر أن يحققوها بعد عام 1980؟
لقد انقسم الرأى فى ذلك فى المعسكر الأمريكى: فرجال البلوماسية يرون الاستمرار فى طريق المفاوضات، ثم تضمين الاتفاقيات التى تسفر عنها قيودا، تحدد التجارب التى تجرى على أى نوع من الأسلحة النووية.
أما رجال الحرب، فيقولون إنه حتى لو نجحت هذه المفاوضات فإن نتائجها غير مؤكدة، إنما الأسلوب الوحيد الذى يمكن لأمريكا أن تقى نفسها به من التقدم السوفيتى هو أن تتقدم هى وتسبقه فى هذا المضمار، أى إنهم يرون الاستمرار فى سباق التسلح، مهما كلف الأمر.
فما هو المعنى المستفاد من كل ذلك؟
المعنى أنه إذا كانت الدولتان العظميان تخشيان الحرب، فإن كلا منهما تريد وتعمل على أن تتفوق على الأخرى، أى إن تجبرها على عدم المغامرة بدخول حرب ضدها.
وهذا ما يسميه علماء الحرب بالردع الاستراتيجى.


السنة الأولى – العدد الحادى والأربعون – 7 أغسطس (آب) 1977 – 22 شعبان 1397 – 10 قروش

أضف تعليق