في 15 نوفمبر الجاري أصدر مركز «مالكوم كير» – كارنيغي الشرق الأوسط التابع لمؤسسة كارنيغي للسلام الأمريكية تقريرًا نُشر على مدونته «ديوان» من إعداد مدير التحرير مايكل يونغ الذي يقدم نفسه بصفته باحثًا فى المركز، مقدمًا السم الزعاف على لسان «يزيد الصايغ» الباحث الرئيسي للمركز، ويستقي الأخير معلوماته من موقع «مدى مصر» الذي يُدار من بروكسل والمموَّل من برنامج دعم الديمقراطية.
لم يكن التقرير المعنوَّن «أنشطة الشركات العسكرية مستمرة»، والذي نشر على الموقع باللغتين العربية والإنجليزية، هو الأول من نوعه الذي يطرحه المركز لمناقشة هذا القضية، لكنه إحدى الأوراق المستخدمة من جانب قوى الشر لمحاولة تعطيل مسار الدولة المصرية.
في العدد الماضي تعرضت لإحدى الأوراق المستخدمة فى ملف تفكيك الدول «حقوق الإنسان» والتي تُستخدَّم لتشويه صورة الدول المستهدفة.
ملفات معلبة تبدأ عمليات ترويجها بشكل ممنهج وفق رؤية مرسومة مسبقًا، ضد الدولة المستهدفة فى محاولة لإسقاطها أو أضعاف قوتها، أو تعطيلها عن الاستمرار فى مسارها الإصلاحي.
نتوقف فى هذا العدد عند الورقة الثانية من ذلك الملف، ورقة انخراط الشركات العسكرية فى الاقتصاد المصري، واللعب بتلك الورقة من جانب القوى الخارجية فى مواجهة الدولة المصرية ليس بجديد، فهو متكرر ويُستعان به كلما كان التحرك المصري أكثر قوة نحو المسار الصحيح.
ففي الوقت الذي راهنت قوى الشر على سقوط الدولة المصرية وانهيارها، كانت القوات المسلحة بمثابة عمود الخيمة القوي والدرع الواقي للدولة فى مواجهة أي هزة تستهدف إسقاطها أو القذف بها فى أتون الفوضى، وكانت ثقة الشعب فى قواته المسلحة الداعم والركيزة الأساسية، فقد كانت رسالتها واضحة (الحفاظ على الأمن القومي المصري) وقسمها معلن، وقد أبرَّت به؛ الأمر الذي جعل قوى الشر تتكرر محاولاتها مستهدفة القوات المسلحة وإبعادها من المشهد بدعوى أن الجيش ليس له مكان سوى الثكنات العسكرية، فى الوقت الذي تقوم فيه كافة الجيوش القوية على حماية دولها والتعاون مع كافة القطاعات بل قد تسيطر بعض الجيوش على قطاعات كاملة داخل بعض الدول.
وبعيدًا عن ذلك أعود إلى ما جاء فى المقال المسموم الذي نُشر باللغة الإنجليزية بشكل واسع فى عدد من الصحف ومنها الجارديان البريطانية، وجميعنا يعلم كيف تدير الجارديان تلك الملفات ولحساب من.
أما النسخة العربية من التقرير فقد حرص كاتبها أن يستهلها بموافقة صندوق النقد الدولي نهاية شهر أكتوبر الماضي على منح مصر قرضًا بقيمة 3 مليارات دولار بموجب ترتيب مدته 46 شهرًا فى إطار برنامج تسهيل ائتماني ممتدّ، مستنكرًا فى بداية الفقرة الثانية وخلال سؤاله «يزيد صايغ» عن عدم ذكر صندوق النقد الدولي فى تقريره لدور شركات القوات المسلحة فى الاقتصاد المصري.
كان رده اجترارًا لما ذكرته منظمتهم المشبوهة والزاعمة بأنها رافعة راية حقوق الانسان «هيومن رايتس ووتش» ثم ذكر أن تقريرًا للصندوق فى 2019 تحدث عن تلك النقطة، ليتحول التقرير إلى محاولة لتأليب صندوق النقد الدولي لمراجعة تقريره بشأن ذلك الملف فى الاقتصاد المصري.
إذا فالقضية وعرضها فى ذلك التوقيت لم يكن صدفة، فقد جاء بالتزامن مع الورقة التي تحدثنا عنها فى العدد الماضي.
لكن هل هناك أهداف أخرى سوى لفت الانتباه من جانب الصندوق؟!. نعم فحالة الاستقرار التي رآها العالم بأم عينه عندما استضافت مصر قمة المناخ تعد أكبر عملية جذب للاستثمارات، كما أن التعديلات التي طرحتها الحكومة فى قانون الاستثمار والفرص المتاحة، قد تكون بمثابة تحويل مصر إلى أكبر منطقة جذب للاستثمارات العالمية فى مجالات متعددة.
فى تلك الحالة ستشهد مصر قفزة اقتصادية غير مسبوقة وهو ما تسعى قوى الشر إلى إعاقته.
لذا كان تحرك تلك القوى من خلال المنظمات والمراكز البحثية والمعاهد ومراكز الدراسات التي تعمل كستار لتشويه المشهد وإثارة القلق لدى أصحاب رءوس الأموال، الذين كانوا يستهدفون الاستثمار فى مصر خلال الفترة المقبلة، من دور القوات المسلحة فى الاقتصاد المصري.
ورغم أن النموذج المصري ليس بنموذج مستحدث بل معمولا به فى الدول الكبرى وهو ما سوف اتعرض له بالتفصيل، إلا أنها المحاولات المسمومة دائمًا لقلب الحقائق وإعاقة مسار الدولة بمزيد من التحديات والمشكلات.
ودعونا نتوقف عند الدور الذي قامت به القوات المسلحة فى ذلك الملف أولًا ثم نستعرض النماذج الأخرى فى عدد من الدول منها الولايات المتحدة و ألمانيا وباكستان وتركيا وغيرها من الدول.
جاء تدخل بعض شركات جهاز الخدمة الوطنية فى عدد من القطاعات بهدف محدد هو الحفاظ على ضبط الأسواق وتوافر السلع فى ظل أزمة طاحنة كانت تضرب الدولة المصرية عقب 2011 واحترف تجار الأزمات استغلالها، فكان التدخل بهدف حماية المواطن وتوفير ما يحتاج إليه من مواد غذائية وغيرها، وكانت بمثابة حائط الصد فى مواجهة المحتكرين، فتوافر المعروض كان أحد أسباب قدرة الدولة فى مواجهة الأزمة، وهو ما يرفضه الغرب وقوى الشر.
أضف إلى ذلك الحالة التي عانت منها العديد من مؤسسات الدولة فى تلك الفترة من الضعف جعلتها غير قادرة على تنفيذ طموح المواطن ورؤية الرئيس.
فكان تدخل القوات المسلحة بمثابة معاون لعدد من القطاعات ومساند لها لعبور تلك الفترة وإعادة بناء المؤسسات واستردادها لقوتها، وهو ما شهدناه خلال الفترة الماضية، فكافة المشروعات الخاصة بالبنية التحتية والطرق والإسكان قامت بها شركات القطاع الخاص المصرية والشركات الحكومية وشركات قطاع الأعمال العاملة فى قطاع المقاولات والإنشاءات.
وكذلك فى القطاع الزراعي، قامت شركات القطاع الخاص المصرية وقطاع الأعمال العام بتنفيذ المشروعات، مثل مشروع توشكى والدلتا الجديدة ومستقبل مصر، وأشرفت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بالتعاون مع الوزارات المعنية، وكانت النتيجة اجتياز مصر أكبر أزمة غذاء فى العالم، وما زالت تواصل عملها فى ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتعثر سلاسل الإمداد.
وكذلك المشروع القومي لتطوير البحيرات والاستزراع السمكي وتنمية الثروة الحيوانية لضبط الأسواق وتوفير احتياجات السوق من السلع.
ولأننا لا نملك رفاهية الوقت كان لإشراف الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة أهمية كبيرة فى تنفيذ المشروعات وفق المواعيد المحددة والمواصفات القياسية للجودة العالمية، كل ذلك لا يرضى عنه الغرب؛ لتخرج أبواق قوى الشر ومعاونوها لتقلب الحقائق، وتقدم صورًا مغلوطة لتشويه المشهد.
ففي الوقت الذي يتحدثون فيه عن دور شركات القوات المسلحة فى الاقتصاد المصري، قامت الدولة المصرية بالبدء فى الإجراءات التمهيدية لطرح حصص عدد من شركات جهاز الخدمة الوطنية لتداول أسهمها فى البورصة طبقًا لتوجيهات الرئيس السيسي، خاصةً الشركة الوطنية للبترول وشركة صافى، وذلك بهدف توسيع قاعدة ملكيتها وجذب استثمارات القطاع الخاص، على نحو يهدف إلى تعظيم مساهمة جهاز الخدمة الوطنية بشركاته المتنوعة فى دعم الاقتصاد الوطني، لا سيما فى ضوء ما تتمتع به شركاته من إمكانات ومقومات كبيرة تؤهلها للمساهمة الفعالة فى عملية التنمية الشاملة التي تسعى إليها الدولة حاليًا فى مختلف القطاعات.
فى الوقت ذاته نرى فيه الجيش الأمريكي يمتلك العديد من الشركات العاملة فى القطاعات المدنية المختلفة، بل إن فيلق المهندسين العسكريين الأمريكي يقوم بالعديد من المشروعات المدنية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، فقد أعلن الجيش الأمريكي منتصف يناير الماضي عن تكليف سلاح المهندسين بعمل دراسات ومشاريع وبرامج الأشغال المدنية التي سينفذها الفيلق فى السنة المالية 2022 بتمويل إضافى بقيمة 22.81 مليار دولار تم توفيرها بموجب قانونين صادرين مؤخرًا - قانون الاستثمار فى البنية التحتية والوظائف وقانون الاعتمادات التكميلية للإغاثة من الكوارث لعام 2022.
وفى كل عام يقوم فيلق المهندسين بالجيش الأمريكي بعملية تكريك لنهر بلاك واريور تومبيجبي ونهر ألاباما إلى عمق كافٍ لضمان صلاحية القناة الفيدرالية للسماح للتجارة بعبور الممرات المائية الداخلية.
ويعد فيلق المهندسين واحدًا من أكبر وكالات الهندسة العامة والتصميم وإدارة الإنشاءات، وعلى الرغم من ارتباطه بشكل عام بالسدود والقنوات والحماية من الفيضان فى الولايات المتحدة، إلا أن فيلق المهندسين بالجيش الأمريكي قد شارك فى مجموعة واسعة من الأشغال العامة فى جميع أنحاء العالم، حيث يوفر فيلق المهندسين أماكن ترفيهية فى الهواء الطلق للعامة، ويوفر 24% من الطاقة الكهرومائية فى الولايات المتحدة.
وبحسب الموقع الخاص بفيلق المهندسين بالجيش الأمريكي على شبكة الإنترنت أن مهمة الفيلق هي «توفير الخدمات الحيوية العسكرية والعامة، والشراكة فى السلام والحرب لتعزيز أمن أمتنا، وتنشيط الاقتصاد والحد من المخاطر الناجمة عن الكوارث».
وبالإضافة إلى التخطيط والتصميم وبناء وتشغيل الأهوسة والسدود، تتضمن مشروعات الهندسة المدنية الأخرى التي يتولاها الفيلق التحكم فى الفيضانات وتغذية الشواطئ والجرف من أجل الملاحة المائية، تصميم وإنشاء نظم الحماية من الفيضانات فى مختلف الولايات الفيدرالية، وتصميم وإدارة إنشاء المرافق العسكرية لصالح الجيش والقوات الجوية وقوات الاحتياط وقوات احتياط القوات الجوية والوكالات الدفاعية والفيدرالية الأخرى، والتنظيم البيئي واستعادة النظم البيئية.
هذا إلى جانب حجم الاستثمارات الضخمة للجيش الأمريكي فى شركات قطاع البرمجيات والذكاء الاصطناعي والسيارات والصناعات الدفاعية، ولم يطالَّب الجيش الأمريكي بخروج الشركات التابعة له أو فيلق المهندسين من النشاط الاقتصادي الأمريكي يبلغ حجم استثماراته 44 مليار دولار.
وليست أمريكا فقط من تقوم بذلك، فقد أسست ألمانيا شركات وهمية لإعادة تسليح الجيش منها «MEFO» عقب الحرب العالمية؛ وبعد هزيمة ألمانيا وتقسيمها ظلت تلك الشركات تعمل داخل الاقتصاد وساهمت فى خفض نسب البطالة وظلت تابعة للجيش الألماني.
كما يمتلك الجيش الباكستاني قوة اقتصادية كبيرة على مستوى جيوش العالم، فحسب كتاب أصدرته الباحثة الباكستانية الأكاديمية، عائشة صديق، فإن الجيش الباكستاني يمتلك ثلث الصناعات المعدنية الثقيلة، بالإضافة إلى مصانع للسكر والبترول والغاز وشركات الأمن الخاصة، فهو بذلك يمتلك 7% من الأصول الخاصة فى باكستان.
كما يمتلك مؤسسة خيرية اقتصادية تحمل اسم «جندي»، وهذه المؤسسة تعمل فى المجتمع الباكستاني عن طريق مكاسب اقتصاد الجيش الباكستاني، كما تقدم المؤسسة مساعدات لحوالي 9.6 مليون شخص فى المجتمع الباكستاني، ووصل حجم رأس مال مؤسسة جندي إلى
672 روبية أى ما يوازى 3 مليار دولار.
أما الجيش الهندي فيمتلك أكبر سلسلة متاجر تجزئة والأكثر ربحية على مستوى الهند، هي متاجر «كانتين» (Canteen Stores Department) والمعروفة اختصارا بـ (CSD) والمملوكة لوزارة الدفاع الهندية، وتبيع كافة المنتجات بداية من السيارات إلى البسكويت.
أما الجيش الشعبي الصيني، فيمتلك ويدير عددًا من المشرعات الاقتصادية الضخمة فى مجالات متعددة منها إنتاج الأغذية ووسائل المواصلات وإصلاح المعدات والزراعات وغيرها، ويقدَّر عدد الشركات التي يمتلكها الجيش الصيني
ما بين 25 ألف إلى 30 ألف شركة.
وإلى جانب هذه الأعمال المدنية، فإن الجيش الصيني يتحكم أيضًا فى منظومة ضخمة من إنتاج الأسلحة التي بدأت تأخذ حيزا قويًا مؤخرًا فى المنافسة العالمية، الأمر الذي ربما دفع الجيش الصيني مؤخرًا لتبنى برنامج لتحويل كافة استثماراته فى المجال المدني إلى استثمارات فى المجال العسكري.
أما الجيش التركي، فيمتلك مجموعته الاقتصادية «أوياك» (OYAK)، ويعمل بها 29 ألف شخص، وبلغ حجم أصولها 139 مليار ليرة، وتمتلك مجموعة من الشركات، مثل توكيل شركة «رينو» الفرنسية لصناعة السيارات، كما تملك شركة لتصنيع الحديد تحت اسم (ERDEMIR)، كما كانت تمتلك بنكًا تحت اسم «بنك أوياك»، وكذلك تمتلك شركة لتصنيع الأغذية المعلبة، ومجموعة متاجر تحت اسم (ETI) لإنتاج البسكويت والشكولاتة بحجم استثمارات بلغت 296 مليار ليرة.
تلك الشركات التي تمتلكها الجيوش الكبرى، وتساهم فى اقتصاديات الدول لم تشغل بال مستهدفى تفكيك الدول بقدر ما تشغلهم تلك الورقة فى التحرك بها لإعاقة الدول الناهضة.
لكن هيهات ف الدولة المصرية باتت أكثر قوة وقدرة على مواجهة التحديات ومواصلة مسيرتها لأنها تعمل بشرف فى زمن عز فيه الشرف.
فى تلك الحالة ستشهد مصر قفزة اقتصادية غير مسبوقة وهو ما تسعى قوى الشر إلى إعاقته لذا كان تحرك تلك القوى لتشويه المشهد وإثارة القلق لدى أصحاب رءوس الأموال